مجلة الرسالة/العدد 149/الأدب بين الخاصة والعامة
مجلة الرسالة/العدد 149/الأدب بين الخاصة والعامة
لامرتين ورينه جارد
للسيد إسكندر كرباج
تابع لما نشر في العدد الماضي
فيسأل لامرتين ضيفته: هل أصابكِ في حياتكِ ما أحزنكِ وصدع قلبك؟ فتجيبه: مراراً قليلة يا سيدي لأني خالية البال من حمد الله. غير أن لكل أتراحه على هذه الأرض، ولاسيما إذا كان فتاة مثلي لا أسرة لها ولا أقارب ولا زوج ولا بنين، تنام وحيدة وتستيقظ وحيدة لا تسمع في داخل غرفتها إلا سقسقة عصفورتها في القفص. ولكن شاء القدر أن يحرمني هذه الرفيقة اللطيفة بعد أن ألفتها فلقيتها صباح يوم ميتة وقد ضمت قائمتيها وفتحت منقارها وأطبقت أجفانها، وبموتها حلَّت الكآبة في الغرفة فلا سقسقة ولا فرح ولا صداقة، فما أحزن هذه الحالة يا سيدي. ثم تجفف دمعتين كانتا تترقرقان في محاجرها وتزيد على قولها:
إذا لم يكن للإنسان من يحبه ويعطف عليه من أبناء جنسه فأنه يميل إلى الحيوانات وعشرتها. كانت عصفورتي تحبني، وكثيرا ما داعبتها وتحدثت إليها كأنها تنطق وتعقل. يقولون ليس للحيوانات أرواح، ولكن لو لم يكن لعصفورتي روح فبماذا كانت تحبني؟ أبريشها وقوائمها؟ وسمعت أيضاً أن في الفردوس أشجاراً تتفيؤها الأطيار. فأنا لا أرى أقل بدعة في هذا القول، أيمكن أن يكون الله مع صلاحه وعدله مخاتلاً؟
فيسألها لامرتين: هل كتبتِ شيئاً في موضوع حزنك؟
فتجيبه: نعم كتبت لما نظرت القفص فارغاً والنبتة جافة على شباك النافذة؛ طفر الدمع من عيني، فجلست إلى المنضدة ونظمت قصيدة ناجيت بها تلك العصفورة الرقيقة كأنها لا تزال حية تسمعني، ولكنني لم أستطع تكملتها لفرط حزني
فيقول لها لامرتين: أسمعيني هذه القصيدة أو ما تتذكرينه من أبياتها، ولا بأس إذا جاءت متقطعة فبغيتي أن أقف على مبلغ ما فيها من الشعور لا على تناسق قوافيها
فتعمل فكرتها قليلاً، ثم تنشد بصوت رقيق ولهجة مؤثرة أبياتاً من الشعر في وصف عصفورتها وما كان بينهما من الصداقة والألف فيشكرها لامرتين على ثقتها به وإظهارها له مكنونات قلبها. ثم تأتي زوجته، وبعد أن تستقبل رينه بشيء من تلك الدالة، وذاك العطف الذي يفقد الغريب بعض حيائه وارتباكه تدعوها إلى العشاء تحت شجرة تداعب أغصانها نسمات البحر محدثة فيها حفيفاً لطيفاً، كان يذكر رينه بحفيف جناحي عصفورتها
ثم يقصدون إلى شاطئ البحر القريب، ويجلسون على مقاعد زورق، ويعودون إلى التحدث، فتقول زوجة لامرتين لرينه: يظهر لي أنك ولوع بالمطالعة، وهي التي جعلتك تتكلمين اللغة الوطنية بهذه البراعة، والتعبير عن عواطفك بمثل هذا الشعر الشجي
فتجيب رينه: نعم يا سيدتي، إن المطالعة من أكبر أسباب غبطتي؛ فبعد اشتغالي النهار كله، وقيامي بواجب الصلاة لله، لا أجد لذة إلا فيها، فمن ينهض باكراً ويخيط حتى المساء يضطر إلى راحة أنامله وتسلية نفسه. إن علاقاتنا مع الجيران لا تتعدى تبادل التحية، لأن النساء ينصرفن إلى إعداد الطعام، أو إرضاع الأطفال؛ والرجال بعضهم يرقد سريعاً لينهض باكراً إلى مواصلة عمله، وبعضهم يصرف وقته وماله وصداقته في الملاهي والمقاهي؛ فماذا تفعل الفتاة المحتشمة مثلي لتمضية الليالي، ولاسيما ليالي الشتاء الطويلة؟ فأما أن تطالع، أو أن تقف جامدة كالصنم تنظر إلى جدران الغرفة، أو إلى ارتفاع دخان الموقد
فتقول لها زوجة لامرتين: ولكن ما هي الكتب التي يمكن مطالعتها؟
فتجيبها رينه: هنا البلية يا سيدتي، نريد المطالعة ولكن لا ندري ماذا نطالع. لقد وضعت الكتب للذين من غير طبقتنا فإذا استثنينا الإنجيلين وكاتب تقليد المسيح لا نجد بين المؤلفين والمنشئين من فكر فينا وجعل قسما من أدبه لنفعنا. من الطبيعي أن يفتكر الإنسان في الذين من طبقته، فواضعو الروايات والمآسي والمهازل، وناظمو القصائد والملحمات، هم من طبقة أعلى من طبقتنا، أو بالحري خرجوا من بيئتنا الخاملة العاملة ودخلوا في بيئات الملوك والأمراء والأشراف والأغنياء والسعداء وغيرهم من الذين يصرفون أوقاتهم عبثاً وأموالهم على الأباطيل
فياقطعها لامرتين: لا لوم عليهم إذا هم نسوا الطبقة التي خرجوا منها، أو تركوها جانباً. وانصرفوا إلى إرضاء أهل البيئة التي دخلوها، فمثلوا أفكارهم، وتكلموا لغتهم، وصوروا عاداتهم وأذواقهم، فهذا الذكاء وهذه المعرفة وهذا الذوق المكتمل الدقيق الأنيق في الطبقات العالية، وهذه اللغة والعادات لا يمكن أن تكون كلغة وعادات الطبقات الفقيرة قبل أن تسمو بالتربية إلى إدراك كنه هذه الأشياء الجميلة. كان للقدماء كتَّاب وفلاسفة وشعراء عبيد كابيكاتاتو واسابو وتارنسيو، ولكنهم لم يخصصوا أدبهم بالعبيد؛ وكان لهم سقراط، ولكن أفلاطون اضطر إلى شرحه لهم كما اضطر تلاميذ هذا، وهم أكثر منه معرفة إلى تفسيره. وكان لهم شيشرون ولكنه خصص معظم أدبه بأفراد أسرة السيبيون؛ ثم فرجيلوس الذي كان ينشد قصائده الرعائية في حضرة أميرات بلاط أوغسطس قيصر، ولكن الرعاة الحقيقين لم يتفهموه؛ ثم هوراسيو وقد كان ينشد الخمرة والحب المباح بقصائد من الشعر الحافل بالمعاني الملتبسة والصور المأخوذة عن اليونان والتاريخ، غير أن شعوب عصره لم تكن تنشدها وتدركها
فتقول له رينه: هذا حق يا سيدي إذا استثنينا روبنصن وحياة القدسيين فما هي الكتب التي وضعت لنا؟؟ نعم إن لدينا كتابين آخرين هم (تلماك) و (بول وفرجيني)، ولكن الأول كتب لتهذيب حفيد الملك، وهو مما لا يهمنا أمره لأننا لسنا من أحفاد الملوك، والثاني يحرك قلوب الجميع، لأنه يصف لنا جمال الحب وروعته في قلبي حبيبين رقيقين لا يستطيعان الحياة منفردين، وكيف أن مطامع أهليهما حالت دون اتحادهما واكتمال سعادتهما. إن فرجيني ابنة جنرال، وكان لها عمة نبيلة أرادت أن تجعلها سيدة راقية ممتازة فأدخلتها الدير. إنها حوادث عجيبة ومشاهدات رائعة، ولكنها حوادث لم تجر في منازلنا وبين إفرادنا، ومشاهد لم تقع عليها أبصارنا. فمن يكتب لنا الروايات والقصائد؟ لا أحد! أنا لا أدخل في عداد الكتاب والشعراء والمؤلفين، أولئك الذين يجمعون تقاويم تحمل بين ثناياها سخافات الأعوام الغابرة ونكاتها، ويضعون روايات لا تستطيع العذراء مطالعتها إلا خلسة عن أمها، وينظمون أناشيد تترفع الشفاه النقية عن التلفظ بها، ولا أستثني من هؤلاء إلا بيرانجر الذي أظهر آخرا جمال روحه في رباعياته البديعة. فمتى يكون للفقراء مكتبة؟ من يشفق علينا ويؤلف لنا كتاباً؟
أبدت رينه نظريتها تلك برزانة تفوق معارفها، وبلهجة تشفّ عن اعتقادها بفقر طبقتها الأدبي مما حمل لامرتين على الافتكار قليلا في حقيقة ملحوظاتها وأهميتها. وبعد قليل قال له لامرتين: لقد افتكرت في كل ذلك يا رينه، أما الآن فقد تغيرت أفكاري بعد أن سمعت أقوالك. حقاً إن الشعب الذي يريد التعلّم بالدرس والتسلية بالمطالعة والانتفاع بالخيال والتأثر بالشعور والارتفاع بالفكر، إما أن يموت جوعا وإما أن يثمل بالفساد إذا لم ينتبه لنفسه. لذلك وجب أن تهتم الهيئة، أو أن يخلق الله للشعب هوميروس عاملاً وميلتون مزارعا وطاسين جندياً ودانتي صناعياً وفنلون كوخياً وكورنيل وراسين وبوفون من رجال المعامل لكي يضعوا له ما لا تريد الهيئة الأثرة الكسول وضعه: أي أدبا يمثل عاداته ويعبر عن شعوره. أني أعرض بالفكر ما في المكاتب من المؤلفات النفيسة لأشهر الكتاب وأختار مجموعة صغيرة منها يمكن لأسرة نزيهة من المزارعين والعمال والخدم رجالاً ونساء كهولاً وشباناً أن تغذي بها حياتها الروحية، وأن تتركها على الخوان بغير خوف، وأن تطالع ليلاً وفي أيام الآحاد دون أن يعوزها مترجم أو مفسر، فماذا وجدت؟ وجدت التوراة كتاباً بديعاً حافلاً بالحكايات الشعبية كطفولة النوع البشري ولكنها ملتحفة بالأسرار والعادات الشائنة والغيرة والشرور وغيرها مما يفسد الروح والقلب والعادات فيما لو وضعت في يدي ولد أو تحت نظر الشعب الجاهل دون أن يوجد من يفسر معانيها ويهذب ألفاظها. ثم وجدتُ هوميروس وأفلاطون وسوفلكس وأسكليوس، ولكنهم عاشوا في عصر غير عصرنا، وكتبوا بلغة غير لغتنا، ووصفوا عادات غير عاداتنا؛ ثم وجدتُ فرجيلوس وهوراسيو وشيشرون وجوفنال وتاسيت، ولكنهم كتبوا باللاتينية والشعب لا يعرفها؛ ثم وجدتُ ميلتون وشكسبير وبوبي ودرايدن وبيرون وكرابله، غير أنهم من الإنكليز؛ ثم تاسو ودانتي وبتراركا، وهم ثالوث الشعر الإيطالي؛ ثم شيلر وجيته وفيلند وجزنر، ففي كتبهم صفحات بديعة للشعب لأن الشعر الألماني ينزل إلى درجة الشعب والشعب يرتفع إليه ولكنها بالألمانية؛ ثم سرفنتس وكالديرون ولوبس فيفا، غير أن كتاباتهم هي من النوع الحماسي الذي لا يمكن تجديده الآن؛ ثم الشعر الشرقي السامي بحكمه ومعانيه من هندي وفارسي وعربي، إنها كنوز مستورة من الخيال البشري، ولكن هذه الكنوز الثمينة هي باللغات السنسكريتية والفارسية والعربية، ولا يوجد من يكتشفها وينقلها إلينا
ثم وجدت شعراءنا الفرنسيين القدماء وجل منتوجهم من النوع الروائي الحماسي، وفي المغامرات الغرامية الوقحة والقوافي الأنيقة، وكلها في وصف حوادث البلاط والطبقات العالية. هذا بسكال، فكتاباته إما مناظرات اكليريكية حول جوهر العقيدة لا يفهمها البسطاء، وإما أفكار عميقة لا يسبر غورها إلا القليلون. وهذا بوسويه؛ فقد اشتهر ببلاغة تعابيره وقوة عارضته في الخطابة، وكان يسرّه أن يرعد ويبرق فوق الرؤوس المتوَّجة وفي قاعات البلاط، ولكن بروقه لم تكن تصعق إلا الشعب الذي كان يستسلم روحا وجسدا إلى سيروس العصر، فهو مجموعة رواميز في اللغة والخطابة لا أكثر. وهذا أيضاً فنيلون، ففي كتابه (تلماك) وفي المراسلات كثير من الأفكار السامية والمبادئ القويمة كالنفس المتدينة والفلسفة الإنسانية والظرف والعطف وروح الفضيلة، ولكنها صفحات بسيطة لا كتاب للشعب. ثم كورني فهو سياسي مختصر، وقد وقف في مستوى لا يبلغه القلب البشري، وأدبه كناية عن عدة مشاهد وأمثال واندفاعات شعرية لا ترضي الشعب الذي يريد الحياة بالإسهاب في شرح العواطف لا باختصارها، والنفس في نظره هي العبقرية، ونفس كورني كانت في الكلام كنفس تاسيت. ثم راسين، فهذا ولد ليكون شاعر الشعب؛ غير أن شعب عصره لم يكن خليقاً به لسوء الحظ، لأن البلاط الذي اجتذبه إليه احتفظ به ضد الشعب، ولا يوافق هذا من أدبه إلا مأساته: (أستير) و (ثعاليا) بالنظر إلى صبغتهما الدينية، وماعداهما يخص الأبهاء. ثم فولتير وهو روح جبارة استوعبت كل المعارف والعلوم، ولكن لم يخرج عن كونه مزيجاً من روح وعقل ونور ونقد ونعومة وخشونة وهزء وجذل وأحياناً وقاحة. إنه لم يكن قط نفساً وحناناً وحباً وعطفاً وشفقة على البائسين؛ كان فيلسوف السعداء ونبيل الأذكياء وشاعراً ضئيل النور لا يتبينه جداً بسطاء القلوب، يضيء في المكاتب ليخبو في الحقل أو في مسكن الفقير
وإذا نظرنا إلى مؤرخينا لا نجد بينهم من كتب للشعب، فمونتيسكيو كثير العلو، ورولين صالح ولكنه شديد الأمانة في ترجمة الماضي فلا يستطيع مطالعته من كانت ساعاته محدودة
وكذلك روائيونا فإنهم اتخذوا أشخاص رواياتهم من الطبقات العالية وعبروا عن العواطف بلغة الأبهاء المنمقة لا بلغة الطبيعة الساذجة. فلا يصلح منها شيء للشعب
ثم فلاسفتنا كديكارت وملبرنش وكونديلك وكل الحديثين، فمهما أعيد طبع مؤلفاتهم فلا أعتقد أن الشعب يقبل على مطالعتها، لأن فلسفة الشعب هي في الشعور لا في الإدراك، فمنطقه غريزته، وبرهانه تأثره، واستنتاجه دموعه. ومن مؤلفات جان جاك روسو لا يصلح للشعب إلا الصفحات المائة الأولى من كتابه (خوري سابويا) وبعض فصول من (الاعتراف)؛ وكذلك شاتوبريان لا يقرأ من مؤلفاته إلا (رينيه) و (اتالا) حيث امتزجت الفلسفة بالدموع، والحنان بالحب
أما مسارحنا فلا يمثّل عليها إلا ما كتب للملوك أو الطبقات المتأدبة بدليل انصراف الشعب عنها إلى تمثيل الروايات الغنائية التي اخترعها لنفسه. وكذلك علماؤنا فقد كتبوا في الجبر بلغة واصطلاحات تجعل العلوم الطبيعية في حالة الغموض لمن يتمرَّن عليها، فالذي يجب أن يعبر عن العلوم بلغة الشعب البسيطة لم يخلق بعد. إنه خلق ولكن في إنكلترا؛ هو ابن هرسكل
فمن كل ما كتب بالفرنسية لا توجد إلا خمسة أو ستة كتب تصلح للطبقات الجاهلة في المدن والقرى
يعلّمون الشعب القراءة، ولكنهم لا يضعون له الكتب اللائقة به، فهم إما أنهم يقدمّون له مؤلفات كتبت لغيره أو أوراقاً محشوة بالنقائص والوقاحة كمن يقدّم سلاحا لطفل ليجرح به نفسه
(العصبة)
يتبع
إسكندر كرباج
من العصبة الأندلسية