مجلة الرسالة/العدد 149/ملخص محاضرة

مجلة الرسالة/العدد 149/ملخص محاضرة

ملاحظات: بتاريخ: 11 - 05 - 1936



أسبانيا العربية

ألقى الدكتور استانسلاو كيروخا اي دي اباركا أستاذ الآداب الإسبانية في جامعة صوفيا محاضرة قيمة باللغة الأسبانية في مدرج الجامعة السورية بدمشق عنوانها (أسبانيا العربية) وقد لخصها الأستاذ لبيب الرياشي فيما يلي:

قسم المحاضر الكريم المنصف بحثه هكذا:

1 - نظرة عامة في الفتوح العربية العالمية

2 - افتتاح أسبانيا وتكوين مملكة عربية أسبانية

3 - العلوم العربية والعمران ونوابغ العرب في العلوم

4 - سقوط الدولة العربية وأسبابه

5 - الآثار الثمينة التي تركها العرب في أسبانيا

المدنية العربية

إن أسبانيا بعد مرور خمسة قرون لا تزال عربية بدم سكانها وآدابهم وموسيقاهم ورقصهم وميولهم وحضارتهم

والمدنية العربية في أسبانيا لا تزال إلى اليوم أسمى مدنية بريئة عرفها العالم

والكوكب الذي استنارت منه هذه المدنية أشعتها السامية هو (القرآن) وسيرة الرسول العربي

الفتوحات في الإسلام

الخليفة في الإسلام هو بمثابة قائد الجيوش العام، والملك، والبابا؛ ورسالة الإسلام للعالم هي التبشير بآله واحد؛ ولما كان المسلمون يعتقدون أن من مات مجاهدا في سبيل الله وهدى العالم يكون جزاؤه الخلد، كانت الجنود الإسلامية تضحي دون ما خوف ولا رهبة، فتقاتل قتال البطل الباسل، وبهذا افتتحوا سورية سنة 638، ومصر سنة 640، وتغلبوا على إمبراطور القسطنطينية وافتتحوا الدولة الفارسية سنة 642

كما افتتحوا قسما كبيراً من الهند سنة 707، واكتسحوا الغرب وتونس والأرخبي ومراكش، ومن ثمة دخلوا أسبانيا منتصرين سنة 711

ولم يذكر التاريخ أن إمبراطورية بلغت من السعة في الملك والكبر والمجد ما بلغته هذه الدولة الفتية

فتوح أسبانيا

لنبحث عن أسبانيا الآن: بعد أن افتتح العرب أسبانيا سنة 711 على يد موسى بن نصير وطارق بن زياد (92هـ) بقيت مقاطعة أو إمارة تأتمر بأمر الخليفة، ولكن في عام 756 استقلت المملكة العربية الأسبانية عن الخليفة الكبير

واتخذت هذه المملكة المستقلة (قرطبة) عاصمة لها فأصبحت أغنى عاصمة في العالم وأوفر مكانة بعناية مؤسس هذه المملكة (عبد الرحمن الأول)، وبرغم الثورات الكثيرة والاضطرابات العديدة ظلت هذه المملكة وطيدة الأركان من القرن الثامن إلى القرن الحادي عشر

وفي أسبانيا هذه كان يعيش قسم كبير من المسيحيين ترك لهم الإسلام حرية معتقداتهم وعاداتهم وحافظ على كنائسهم

ملوك أسبانيا

ويعد أفضل من حكم أسبانيا العربية الملوك الثلاثة:

(عبد الرحمن الأول، وقد أسس قرطبة الجميلة المجيدة

عبد الرحمن الثاني، وقد مهد الطرقات وشاد الأبنية العمومية الفخمة وأسال الأمواه في المجاري الهندسية حيث لم يكن في أوربا شيء من هذا

عبد الرحمن الثالث 912 - 916 عرف أنه كان أفضل ملك مثقف يحب العلم ويعمل على نشره، وأقوى من جميع الملوك الذين عاصروه، فقد نال انتصارات باهرة على الملوك المسيحيين الذين تحرشوا به حتى كان عدد كبير من الملوك الذين عاصروه يلتجئون إليه ويحتمون به

والحكم الثاني امتاز بحب العلم ونشر الثقافة، ولقد أنشأ في قرطبة مكتبة تحتوي أكثر من أربعمائة ألف مصنف وفي عهد الخليفة هشام الثاني الضعيف الإرادة تمكن المنصور وزيره الأول من محاربة الإمارات المسيحية الثائرة

وسنة 1002 اجتمع ملوك كابتجاليون وفقارا وباجتماعهم وتضامنهم تغلبوا على هذا القائد الجبار في واقعة (كلا ثانياسير) عاصمة شوريا وهكذا لم يبق للعرب سنة 1031 سوى إمارات صغيرة أشهرها سافيجا وتولوزا

العلم والعمران

لم يشتهر العرب بالبطولة الحربية فحسب، ولكنهم اشتهروا بالعلم والشعر والاقتصاد، وعرفوا بتنشيط العلوم ونشر الثقافة

اقتبس العرب جذوة من علوم اليونان والفرس - فأشعلوا من تلك الجذوة منارة مضيئة

أسسوا مدارس علمية في بغداد ودمشق، أما في أسبانيا فقد أنشأوا كلية (سالرنو) في قرطبة، وهي الكلية التي كانت لغتها عربية، وعلومها عربية، وأخلاقها عربية، وكل ما فيها عربي، وهي أقدم مدرسة طبية في أوربة كلها

وهكذا ابتدأ العرب يشتغلون في الكيمياء فاستكشفوا الكحول، وأسسوا قصورا ومساجد وجنائن، وجعلوا الأرياف بساتين زاهرة زاهية، وجروا إليها المياه في أقنية هندسية؛ لذا نقول بحق إن العرب كانوا أكثر مدنية في القرون الوسطى من أوربا كلها

وإني لأقول بحق إن المدنية العربية الأسبانية، نعم المدنية العربية، كانت جوهرة ثمينة في ثقافتها وعلومها الاجتماعية وعمران مدنها وازدهارها في جميع نواحي الحياة، حتى إن مدنية باريس ولندن في هذا العصر لم تمتازا عن حضارة العرب في تلك العصور

إن قرطبة كانت تحتوي على مائتي ألف منزل ذي بناء شاهق وفن متقن، وعلى 600 مسجد ومستشفى وقصور فخمة، وعلى 900 حمام وجنائن هندسية زاهرة، وأكثر من نصف مليون من السكان، ولقد أسس ملوكها مدارس في كل مزرعة وقرية ومدينة، وعلموا الذكور والإناث القراءة والكتابة حتى لم يبق في أسبانيا العربية أمي واحد

ولقد كان في قرطبة جامعة رئيسية؛ وإلى هذه الجامعة كان يقصد عشاق العلم وطلابه، ومن مفاخر هذه الرسالة العربية أن النساء كن يثقفن ثقافة كاملة شاملة

نعم النساء المخدرات كن يجدن القراءة ويعرفن التاريخ والفلك و. . .

وهكذا كان العرب الأسبانيون يشتغلون في كل العلوم، وعن العرب الأسبانيين صدرت شعلة الكيمياء والرياضيات

وأكثر الفنون التي أجادها العرب الأسبانيون: الهندسة والموسيقى والشعر. ومن الأبنية الكبرى التاريخية مسجد قرطبة وقصر غرناطة، وتميز كل منهما بأقواسه وأعمدته وزخرفه

من النسل العربي هذا نحن أبنا أسبانيا، نحن الذين لا نزال نستعمل حتى اليوم الطبل والغناء والموسيقى العربية والرقص العربي

الزراعة والصناعة:

وعناية العرب في الزراعة كانت بالغة الحد الأقصى والعناية التامة، فهم الذين زرعوا النخل، والرز، وقصب السكر، والقطن، الخ. . .

أما الصناعة فقد تفوقوا فيها، وأسسوا معامل للجلد في قرطبة، والورق في البندقية، وهذه المعامل كانت أول معامل من نوعها في العالم

وفي عهد المنصور شعت المدنية العربية فأنارت أشعتها العالم. أما الأسس التي ارتكزت عليها هذه المدنية، أما القطب الذي كونها وأدارها وعززها فهو (القرآن) وسيرة الرسول العربي ليصلوا إلى أمنيتهم السامية في تكوين حضارة صحيحة

وهنا عدد المحاضر أسماء عشرات من نوابغ العرب في أسبانيا ونابغات العرب في العلوم والفنون

ثم تطرق بعد ذكرهم إلى تغلب النصرانية عليهم بسبب تفرقهم وتخاذلهم وتضامن الأمراء المسيحيين واتحادهم سنة 1492

ولقد عرض مشاهد القصور والمساجد والجنائن بالفانوس السحري، فإذا هي من الروائع التي تخلب الألباب، وقال:

نور الدين الإسلامي

المادة الأصلية في المدنية الإسلامية العربية الأسبانية هي نور الدين الإسلامي، الدين الذي يجاري المدنية والحضارة في أرقى وأسمى معانيها

وأستطيع أن أصارحكم مؤكداً أن المدنية العربية هي في الجوهر مدنية شعب يستوحي من الله

(قل هو الله أحد، الله الصمد)

على أسس هذه العقيدة رفعت أمجاد الجامعة العربية الإسلامية؛ إنها عقيدة دينية، نعم، ولكنها في نفس الوقت أسمى قوة اجتماعية

وختم المحاضرة قائلاً:

انتهى الحكم العربي في أسبانيا منذ خمسة قرون، أجل: ولكن أسبانيا لا تزال عربية، حتى في القرن العشرين لا تزال شرقية، لا في جوامعها وأبنيتها وجنائنها فحسب، بل وفي أخلاقها وعاداتها وموسيقاها، ورقصها وشعرها، وفي تهذيبها ومزروعاتها

ولهذا السبب تعلمون الآن أني عندما شاهدت دمشق شعرت أنني أشاهد أسبانيا، وإذا ذهبتم لمشاهدة أسبانيا شعرتم أنكم في دمشق

من هذا تعلمون أيها العرب أننا اخوة: العرب والأسبان اخوة، نعم اخوة لأن سلالتهم سلالة واحدة، ودمهم دم واحد، وهم من نفس واحدة تكونوا، وثقافتهم ثقافة واحدة وتاريخهم تاريخ واحد، وحضارتهم حضارة واحدة