مجلة الرسالة/العدد 149/التربية الوطنية الاستقلالية وأثرها في بناء الأمة
مجلة الرسالة/العدد 149/التربية الوطنية الاستقلالية وأثرها في بناء الأمة
للأستاذ محمد عبد الباري
عماد الأمة
عماد الأمة أفرادها. ومتى كانت مواد البناء متينة التكوين سليمة الوضع كان البناء قوياً على احتمال تصاريف الأيام، والتغلب على صدمات الحادثات. وما مادة البناء في الجماعة سوى الفرد. فكيف يكون قوياً لتقوى به الأمة؟
شاهدات الحاضر
يلوح لي أن استعراض الوقائع لاستخراج الحقائق أقرب سبيلاً إلى صحة الحكم، وآمن عاقبة من التحليل النظري المجرد. وأخذا بهذا فأني أضرب بالإنجليز مثلاً للأمة القوية. وأحاول باستعراض بعض الظواهر للوصول إلى سر هذه القوة. وإني إذ أفعل هذا لست مأخوذاً بقوة المسيطر، ولكني إنما أتعرف سر قوة الغير لنحتذي مثاله، ومن قبل احتكت اليابان من نحو خمسة وثمانين عاماً بالغرب، وآنست منه قوة لا قبل لها بها فداورته، ثم حرصت على تعرف سر قوته واتخذت سبيله. فلما أحست من نفسها القوة تحررت مما فرض عليها الغرب من قيود، ثم صارت موضع خشيته ورهبته. والقوي يتقي دائماً التصادم بالقوي.
من أشهر حوادث التاريخ الدستوري ما يسميه الإنجليز بالعهد الأعظم؛ وهو مجموعة قواعد غير منمقة؛ هي في الواقع شروط يتقيد بها الحاكم، وهي تنبئ عن روح استقلالية أصيلة، ودرجة حرص القوم على المحافظة على ذلك العهد تؤكد أنه وضع عن عقيدة، وأنه يعبر عن شعور الأمة بحقها وكرامتها وقوتها. فلما هوجم دافعت عنه الأمة عن عقيدة راسخة فانتصرت. حدث أن أحد ملوك إنجلترا، وكان متشبعاً بتعاليم الفيلسوف الإنجليزي (هوبز) نقض ذلك العهد بإصدار أوامر تخالفه. غير أن أحد الكافة أبى أن يعترف بحق الملك في المخالفة، فامتنع عن تنفيذ الأمر. فلما أوذي المعترض ثارت الأمة، وتخلصت من ناقضي عهدها استمساكا بدستورها ومحافظة على كرامتها
والمعترض لم يصدر إلا عن عقيدة. وكان مستقل الرأي أبيّ النفس شجاعا بد يرهب جسامة ما أقدم علي، ولم يك بالشاذ في بلده بدليل أن سواد الشعب جاراه وانتصر للحق إلى النهاية. وهذا العمل الخطير لا يمكن أن تأتيه جماعة إلا إذا كانت الروح الاستقلالية قوية فيها، وكان الشعور بكرامة الإنسان غالباً في أفرادها والاعتداد بالنفس صفة غالبة في بنيها. كان الفيلسوف (هوبز) ينادي بحق الملك المقدس في الحكم طبقاً لمشيئته لا استنادا إلى إرادة الأمة. وكان مربياً للملك المشار إليه، ولكن النفسية الإنجليزية لم تهضم هذه التعاليم؛ وكان يعجبها ما قرره الفيلسوف (لوك)؛ وهو أن الأمة مصدر السلطات، وأن الملك يستمد سلطته منها، وليس صاحب حق مقدس يحكمها طبقاً لهذا الحق المقدس فلا يتقيد بإرادتها. فلما تعارضت الفكرتان عملا كانت الغلبة لما يدين به سواد الإنجليز، لأن تربيتهم الاستقلالية أبت عليهم الخضوع لما لا يتفق مع الكرامة الإنسانية، فثاروا دفاعاً عنها وانتصروا لأنهم عملوا عن إيمان راسخ
التربية الاستقلالية مصدر الشجاعة الأدبية والإقدام والشجاعة توحي للمرء بأن يقول (لا) كلما وجب أن يقولها، و (نعم) كلما وجب أن يقولها، سواء أكان مخاطباً نفسه أم غيره. والإقدام يدفع المرء إلى العمل بما يعتقد مهما كانت النتيجة وقد دلت التجارب على أن العامل عن عقيدة قلما يخفق لأن الإيمان الراسخ في ذاته قوة يعز التغلب عليها
لو لم تكن روح الاستقلال متغلغلة في نفوس الإنجليز لرسخت فيها تعاليم (هوبز) دون تعاليم (لوك)، ولمر نقض العهد وهو الدستور كأنه حادث عادي، ولاعتاد الحكام التصرف طبقاً لمشيئتهم، ولكانت الجماعة عرضة من حين لآخر، للاحتكاك بين أنصار الطغيان وأعوان الحرية، ولبطؤ سيرها إلى الأمام
لكن النفوس كانت مشبعة بالحرية والاستقلال فدافعت عما وضعته من شروط لتولي حكمها. وأظهرت وجودها المستقل بعملها التاريخي. وعرف الحكام منها ذلك فلم يحاولوا نقض العهد وعاشت وعاشوا في هدوء. فاستطاعت الأمة التمتع ببركة الهدوء في ظل الحرية، وانصرفت بكل قواها إلى ترقية شؤونها ورفع مستوى الفرد فبلغت قمة المجد، وكانت عزيزة الجانب بوجه عام حتى اليوم. تلك حادثة من أبلغ حوادث التاريخ الإنجليزي في الدلالة على أن قوة الأمة في تغلغل روح الاستقلال بين الأفراد وفيما ينشأ عن التربية الاستقلالية من شجاعة وإقدام وأنا أورد مثلا آخر أدلل به على ما تربح الأمة من تشبع الفرد بروح الاستقلال. ففي الحادث المتقدم كان العمل شعبياً، وفي الحادث التالي كان العمل فردياً
في سنة 1839 نجحت إنجلترا في تأليب قوى أوروبا على مصر لتأمن الخطر الذي توهمته من قيام جماعة قوية على ساحلي البحرين الأحمر والأبيض المتوسط. انتهزت الفرصة السانحة بتهديد الجيوش المصرية الآستانة نفسها فأقنعت طائفة من أقوى دول أوربا بالاشتراك معها في حمل (محمد علي) على قبول شروط فرضتها عليه، وهو الغالب تحد من قوته، ونجحت بهذا وببث الثورة في سوريا ضد المصريين في الاستيلاء على عكا وفي ضرب الجيوش المصرية بسوريا ضربة حاسمة
فلما تم ذلك بعث القائد العام وهو إنجليزي ضابطاً بحرياً إنجليزياً لاستطلاع قوة المصريين بالإسكندرية، وأبحر الضابط فاقتنع عندما وصل المياه المصرية أن من السهل ضرب الإسكندرية، ولكنه في نفس الوقت علم من ثقة أن البر يموج بقوة مسلحة تسلحاً عظيما، وفكر أن الاشتباك مع محمد علي بمصر قد يجر إلى مثل موقعة رشيد سنة 1807 ورأى أنه من الممكن التفاهم مع محمد علي على الشروط التي فرضها المتألبون ورفضها محمد علي، إذا ضمن له الضابط جعل حكومة مصر وراثية، لما أستوثق من ذلك دخل رأساً في مفاوضات مع محمد علي واتفق الطرفان. ولما أنبأ القائد العام بذلك احتج عليه وأرسل إلى حكومته يحتج، ولكن الضابط استمسك بوجهة نظره لأنه أيقن بأنه خدم بلاده ودافع عن هذا الرأي لدى الحكومة الإنجليزية رأساً وانتصر له وزير الخارجية الإنجليزية وأبرم الاتفاق الذي وضع أساسه هو فكان معاهدة لندن سنة 1840
والحادث يدل على أن الضابط البحري لم يفهم أنه مجرد أداة بل فهم أنه عنصر فعال في بناء مجد أمته. فلما رأى الفرصة سانحة انتهزها بالرغم من مخالفة هذا التصرف للواجبات العسكرية؛ فلما لم يرض رئيسه عن هذا لم يرهبه سخط الرئيس ولم ينس غرضه ولم يتقهقر وتغلب رأيه أخيراً
نظر الضابط الصغير كما نظرت حكومته إلى جوهر الموضوع لا إلى شكله، والحادث بالنسبة للحكومة الإنجليزية وبالنسبة للضابط البحري دليل على تأصل الروح الاستقلالية وعلى عظم أثر هذا التأصل في صحة الحكم على الأشياء تلك الروح الإنجليزية التي استعرضنا بعض مظاهر عظمتها هي التي أبت عليهم الخضوع لتهديد إسبانيا، فلم يخرجهم هول قوة الأرماد (اسم الأسطول الإسباني) عن رباطة جأشهم وكانت الغلبة لهم، وهي نفسها التي أبت عليهم الخضوع لنابليون، وهي التي تلهمهم قبول حكومة المحافظين تارة وقبول حكومة العمال تارة أخرى مع ما بين مبادئ الحزبين من تفاوت، وهي التي جعلت القاضي الإنجليزي مضرب المثل للقاضي الصالح؛ وهي بالاختصار التي وضعت الإنجليز الآن هذا الوضع الممتاز في التاريخ العصري
عبر التاريخ
ضربت المثل بالإنجليز عامدا لأنا نخاطب القوم اليوم في تحديد علاقتنا بهم. وأضرب المثل بالعرب لأني أكتب هذه الكلمة يوم الاحتفال بمستهل العام الهجري
نشأ العرب على الحرية والاستقلال لا يشوبهما إلا خضوعهم لأوهام باطلة وعادات مرذولة؛ فلما تطهرت نفوسهم باعتناق الدين الحنيف تحرروا من قيود العادات والأوهام التي لا تتفق والكرامة الإنسانية
إن نبينا محمد ﷺ من أروع أمثلة التاريخ في استقلال الرأي والصلابة في الحق؛ ولكنه نبي يعمل في حدود رسالته بما يوحي به الله، بيد أنه بث في أصحابه تعاليمه المطهرة للنفس، والملهمة لروح الاستقلال، فكان هذا مع نشأة العرب الحرة السبب في سرعة تقدمهم بعد اعتناق السلام
في أولى غزوات النبي ارتأى وهو في مركز القائد الحربي أن ينزل بقوته في نقطة معينة، ولكن أحد أتباعه اعترض على هذا في أدب وكياسة، فلما تبين للرسول صواب رأي نصيره أخذ به
إن الروح التي أملت على التابع المتفاني في حب نبيه اعتراض رأي هذا النبي، والتي دعت النبي إلى قبول رأي أحد أتباعه، هي روح استقلالية، فلا خشية في الحق من جانب الصحابي ولا تعصب للذات من جانب النبي
لما قبض النبي لم يتحيز أتباعه لأهل بيته ويختاروا أحدهم خليفة، بل اختاروا أبا بكر لأنهم رأوا صلاح الجماعة في ذلك الاختيار، والروح التي أملت هذا إنما هي روح الاستقلال والحرية خطب أعظم خلفاء محمد في الناس فدعاهم جهرة إلى تقويم اعوجاجه إذا رأوه أعوج، فرد أحد الحاضرين بقوله: (والله لو رأينا فيك اعوجاجا لقومناه بحد السيوف)
رأى عمرو بن العاص أن تفتح مصر، ولم يكن الخليفة عمر ابن الخطاب يرى رأيه. ولكن القائد أقنع الخليفة بصواب الفتح فزوده بالرجال ليمضي في تنفيذ مشروعه، ولكنه تخوف ثانية، وبعث له يسترجعه، وقدر عمرو ما في الرسالة، فلم يفضها، ومضى في سبيله حتى نزل أرض مصر. وأصبح مضيه أمراً لا بد منه
والحادث يدل على عدم الاستبداد من جهة الخليفة، وعلى الاستقلال والاعتماد على النفس والثقة من جانب القائد
ويطول بنا القول إذا ما حاولنا تقصي الحوادث التي من هذا النوع. فلنكتف بهذه الأمثلة للدلالة على أن نشأة العرب المستقلة، وتعاليم الدين الحاضة على الحرية والمساواة والاعتماد على النفس، جمعت في العرب الاستعداد الفطري بحكم النشأة الأولى والتعليم الرشيد، والإيمان القوي بالعقيدة الإسلامية، وحسن تفهمها؛ فسادوا العالم في سرعة أدهشت المؤرخين، ونشأت أمة عربية، قوية الأركان، شامخة البناء
وفي كل عصر، وفي كل بيئة تنجح الجماعة إذا سادت الحرية في تصرفاتنا مع الغير وفي تناول ذواتنا، أعني حرية الجهر بالرأي والانطلاق من قيود التعصب للذات. بهاتين الصفتين نجح العرب وتقدموا وسادوا، وبهما تقدم الإنكليز وقويت شوكتهم وسادوا، وبالاستمساك بهما نقوى ونسود؛ فالتاريخ القديم والحديث مزدحمان بالأدلة على أن التربية الاستقلالية هي أقوى دعائم الأمم، وإذا كان هذا أمرها فما سبيلها؟
(يتبع)
محمد عبد الباري