مجلة الرسالة/العدد 149/قصة المكروب

مجلة الرسالة/العدد 149/قصة المكروب

ملاحظات: بتاريخ: 11 - 05 - 1936



كيف كشفه رجاله

ترجمة الدكتور أحمد زكي

الدفتريا

بين واجد سمها الفرنسي، وكاشف ترياقها الألماني

وصل الفائت:

بعد أن أثبت بارنج أن المصل المأخوذ من دم الشياه الناقهة من الدفتريا يقي الحيوانات من هذا الداء إذا هو حقن فيها، حقنه في الحيوانات المريضة فعلا لعله يشفيها فشفاها. ففعل مثل ذلك في الأطفال المرضى فكان النجاح باهراً. وبدأت المصانع تصنع هذا المصل والأطباء يستخدمونه وذاع أمره واهتز الناس له

- 4 -

ومع هذا النجاح فقد صدرت من الناس شَكيّات، وقد صدرت منهم انتقادات. وهذا أمر طبيعي، فالعلاج الجديد لم تكن مؤكدة نتائجه كل التأكيد. فهو لم يَشْفِ من الأطفال المائة مائةً عدَّا. وكيف يُرجَى منه ذلك وهو لم يكن شفى من مائة الخنازير الغينية مائة كاملة. وكان كذلك لبعض علماء الأطباء رأي نقّاد فيه، فقد ذكروا أن الذي يحدث من الداء تحت جلد الخنزير ليس بحكم الضرورة واللزوم هو عينه الذي يحدث منه في حلوق الأطفال. وشاع أمر الحقنة، وجرى المصل في دماء الألوف من الأطفال، ولكن برغم ذلك مات بعض الأطفال من الداء شر ميتة. (ولو أن عددهم ربما كان دون الذي كان يموت قبلا). وأخذ الأطباء يتساءلون عن السبب. وفقدت آباء وأمهات آمالاً كبيرة تفتّتت بفقدها أكبادهم

وهنا عاد أميل رو إلى العمل، عاد إلى ساحة القتال يحتل مكانه في صدرها. فاكتشف اكتشافاً مجيداً: طريقة سهلة هينة يحصّن بها الخيل من سمّ الدفتريا؛ طريقةً لا يموت فيها حصان ولا يطفح على جلده منها خُرّاجات أليمة ذميمة؛ وخير من هذا أنها طريقة تأتي بالكثير الوفير من ذلك المصل الحصين وبه ذلك الترياق الغالي الثمين. وكان مصلاً قويّ المفعول يذهب القليل منه بالسم الكثير الذي يقتل عدّة من كلاب كبيرة

وآمن رو بأن هذا الترياق سيشفي الأطفال لا محالة. وآمن به قبل أن يجهزه إيماناً كإيمان بارنج أو أشد منه تأكداً. تركز فكره على علاج الداء، واجتمع مقصده على شفائه، فلم يفكر قط في منعه. ونسي ما كان وصف من غرغرات. وظل يتردد على عجل بين معمله ومربط خيله، تارة ضارباً محاقنه في أعناقها وهي صابرة، وتارة حاملاً قوارير عظيمة البطون ملأى من دمائها وفي هذه الفترة كان نوع من الدفتريا شديد الخبث (هكذا ظن رو) يكتسح بيوت باريس. وفي (مستشفى الأطفال) كان يُحمل خمسون في المائة من مرضاه إلى بهو الأموات زُرْق الوجوه (أو هكذا أثبت الإحصاء). وفي مستشفى تروسو كان يموت ستون في المائة (ولو أن السجلات لم تذكر في جلاء أن الأطباء استيقنوا أن الذين ماتوا إنما ماتوا من الدفتريا لا من غيرها). وفي الأول من فبراير عام 1894 جاء رو إلى (مستشفى الأطفال) بوجهه المستوف وأنفه الأقنى وصدره الضيّق وقلنسوته السوداء، فدخل إلى رواق الأطفال المرضى بالدفتريا وهو يحمل قوارير ملأى بهذا السائل الأصفر المعجز من المصل

وفي هذه الساعة، في المعهد الشهير بشارع ديتو، في حجرة المكتب هنالك كان يجلس رجل شيخ مشلول ينتظر خبراً ساراً يأتيه من رو. . . . وكان هذا الشيخ تبرق في عينيه بوارق الأمل فينسى أحبابه وأعزاؤه أن الموت انتقاه وأعلمه ثم تركه وعن قريب يعود في طلب المتروك تاركه. . . . . هذا بستور جلس في غرفة مكتبه من ذلك البيت العتيق لا يود أن يبرحها ويُسْلِم للفناء زمامه حتى يأتيه الخبر اليقين بأن تلميذاً من تلاميذه تمكن من محو داء آخر من الأدواء الخبيثة بهذه الحياة الدنيا

وغير بستور كان حول رو أمهات باريس وآباؤها يرجونه الإسراع في تجهيز علاجه رحمة بأولادهم من مرضى ومريضات - فقد كانوا سمعوا بذلك العلاج العجيب الذي ابتدعه الدكتور بارنج. وقالت طائفة منهم أنه يكاد يحي الموتى ويستخلص الأطفال من براثن هذا الداء بعد أن تنقطع فيهم الآمال. وكان رو يتلفت حوله فيستطيع أن يرى الناس رافعة أيديها إليه تطلب الرحمة والغياث

جهز رو محاقنه وقواريره بذلك الهدوء وذلك البرود اللذان أثارا إعجاب الفلاحين في تلك الأيام الخوالي حين قام رو في حقولهم يضرب لقاح الجمرة في بهائمهم في قرية بويي لوفرت. وقام عوناه مرتان وكايو فأشعلا مصباح الكحول وأسرعا إليه في لهفٍ وتأهب لإجابة الأمر تنفتح عنه شفتاه، ونظر كوخ إلى الأطباء وهم في حَيْصَ بيص لا يدرون ماذا يصنعون. ونظر إلى الوجوه الصغيرة وهي في زرقة الرصاص، وإلى الأيدي الرقيقة وهي تُهبّش في ألحفة الصوف، وإلى الأجسام وهي تتلوّى في الفراش تطلب أنفاساً قليلة من ذلك الهواء الغالي فلا تكاد تجدها. ثم نظر إلى محاقنه ممعناً وسأل نفسه: أحقاً في هذا المصل خلاص هذه الأرواح؟ فما أسرع ما انشطرت نفسه شطرين عند هذا السؤال، فكان منها نفسان: النفس الأولى نفس الإنسان الحنّان، والنفس الأخرى نفس العالم البحاث

قالت الأولى تجيبه بقوة: (نعم، نعم فيه خلاصها)

وقالت الثانية في همس وخفوت: (لا أدري، والحكم للتجربة، فهيّا بنا إليها)

قالت النفس الحنون، وقال معها الآباء القانطون وكلهم يتوسلون ويرجون: (لا تفعل! لا تفعل! فإن التجربة تقضي بإعطاء المصل لبعض الأطفال وحبسه عن بعضهم، وهذا في شِرعة القلب حرام)

قالت النفس الباحثة: (نعم إنه عمل غير هين وقساوة تتلذع منها القلوب، ولكن ما الذي أنا صانعته؟! إن هذا المصل شفى الأرانب فما الذي يدريني أنه يشفي الأطفال والإنسان؟ لا بد إذن من العلم، لا بد من كشف الحقيقة، والحقيقة لا تكشف إلا إذا نحن حقنا به نصف الأطفال المرضى وأعفينا النصف الآخر، ثم قارنا عدد من يموت في النصف الأول بعدد من يموت في النصف الثاني؛ بهذا، وبهذا وحده، نستطيع أن نعلم الأثر الحق الذي للمصل في شفاء هذا الداء)

قالت النفس الحنون: (ولكن هبْ أنك وجدت المصل يشفي، فانظر ما تكون مسؤوليتك عن مئات الأطفال الذين يموتون لأنك حبست عنهم هذا المصل، هذا الترياق)

إنه تخيير مؤلم لاشك بين خُطّتين صعبتين. على أن رو ذا العقل الصرف فاتته حجة ما كان أولاه بإيرادها في هذه المناظرة بينه وبين رو ذو العاطفة الصرف؛ لقد كان في استطاعته أن يقول: (إننا إذا لم نتبع طريقة العلم، طريقة التجربة، إذاً لأنخدع الناس فظنوا أنهم وقعوا من هذا المصل على علاج كامل للدفتريا، وإذن لكفّ البُحّاث عن طلب علاج جديد لها، ثم تتوالى السنون بموت ألوف من الأطفال بسبب هذا العلاج المزعوم، ألوف كان في الإمكان إعفاؤها من الموت لو أننا اتبعنا طريقة البحث الصحيح على ما بها من قساوة. . .)

إن في هذا الحجة جواب العلم الدامغ لكل ذي رأي يقوده قلب. ولكن رو لم يصخ إليها، ومن ذا الذي يلوم هذا القلب أن يتنكّب الطريق القاسية التي تؤدي وحدها إلى علم الحقيقة. وتجهزت المحاقن، وجرى مصلها اندفاعا تحت جلود الأطفال فانتفخت به، بدأ رو في أداء رسالة الرحمة، ولعلها رسالة الخلاص كذلك، فحقن في المستشفى في الخمسة الأشهر التالية من الأطفال المهدّدين بالموت زيادة على 300 طفل. ثم ظهرت النتائج! ألا حمداً لله فقد كانت نصراً لرو ذي القلب الإنساني الرحيم، فما انتهت تجاربه في هذا الصيف حتى قام في مؤتمر جمع نوابه الأطباء وخيرة العلماء من أصقاع الدنيا فقال لهم: (إن حالة الأطفال إذا حُقِنوا بالمصل تتحسن سريعاً. . . فلا يكاد يقع الناظر في عنابر المستشفى على وجه فاقد اللون أزرق كالرصاص. . . بل على النقيض يجد الأطفال في نشاط وابتهاج)

واستمر يصف في بودابست للمؤتمرين كيف يذهب المصل بهذا الغشاء المخاطي الرمادي الذي يتكون في حلوق الأطفال وعليه تتكاثر بشلة الداء ومن فوق بساطه ترمي بسمها القاتل، ووصف لهم كيف يذهب هذا المصل بحُمّاهم كذلك: كان كنسمة باردة هبت من بحيرة شمالية على مدينة جنوبية فمرت على أفاريزها وهي تتقد ناراً. فهتف له هذا المؤتمر الوقور، وقام له أطباؤه الأشهرون على أرجلهم إكباراً له وإعجاباً بالذي أتاه

ومع هذا - ومع كل هذا - وبرغم هذا المصل العجيب، فقد مات من مرضى رو ستة وعشرون في كل مائة!!

ولكن اعلمْ أن ذلك العصر كان عصراً تغلب فيه العاطفة، واذكرْ أن هذا المؤتمر لم يجتمع، ورو لم يذهب إليه، لخدمة الحقيقة وإنما ليحتفلوا بخلاص الأرواح وليناقشوه ويختطوا له الخطط، وكان الناس عندئذ قليلي الاهتمام بالأرقام، وكانوا أقل اهتماماً بالنُّقّاد الثقلاء الذين يُلحون في طلب مقارنتها، وكانوا في تأثر شديد عندما استمعوا لرو وهو يصف لهم ما كان من تبريد المصل لجباه الأطفال بعد اشتعالها. على أن رو كان في مقدوره الرد على نقّاده بين تصفيق العظماء النابهين من سُماعه بأن يقول لهم: (وما ستة وعشرون يموتون في المائة! يجب أن تذكروا أنه قبل هذا العلاج كان يموت خمسون في المائة)

ومع هذا أيضاً فأنا أقول - أنا الذي أودّ أن أومن بهذا الترياق وبحسن أثره في علاج الدفتريا - أقول بعد أن مضى على ذلك الزمان بضعة عقود: إن الدفتريا داء غريب، يزيد خبثه أحياناً، ويقل أحياناً. ففي بعض الأحقاب يبلغ الموت في مرضاه ستين في المائة، ثم هو يحل به أمر خفيّ غريب يُضعف من مكروبه فإذا بالستين تنزل إلى عشرة، وهكذا كان الحال في عصر البطولة الفائتة، عصر رو وبارنج. ففي هذا العصر في بعض مستشفيات إنجلترا نزل معدَّل الموت من أربعين إلى اثنين وعشرين في المائة - وهذا بالتحقيق قبل أن يُستخدم المصل!

ولكن الأطباء الكبراء لم يأذنوا للأرقام أن تدخل في تفكيرهم، وحملوا خبر الترياق إلى أركان الأرض الأربعة، فلم تمض إلا سنوات قليلة حتى استقر المصل في الأدوية علاجاً للدفتريا. واليوم لن تجد طبيباً في الألف لا يحلف لك بأنه علاج بديع. والدفتريا اليوم ليست على خبثها الذي كان لها في العقد التاسع من القرن الماضي، والأطباء لا يفتأون يعطون المصل لكل طفل تناله تلك البشلات الفاترة الجارية الآن حاسبين أنه به الشفاء. . . والطبيب الذي يمتنع عن إعطاء المصل يُعَدّ بحق مذنباً اعتماداً على القدر الذي نعلم من أمر هذا العلاج اليوم. وأنا نفسي لو أن طفلاً لي أصابه هذا الداء لكنت أول مسرع إلى الطبيب ليحقنه بهذه الحقنة نفسها. ولم لا؟ فلعل الصبي يشفى حقاً. أنا لا أدري أنه لا يشفى، ولا يدري غيري أنه لا يشفى، وقد فات الأوان لإثبات أنه يشفي أو لا يشفي، فالدنيا الآن تؤمن به، فلا يوجد في الرجال رجل تبلغ به قسوة القلب، أو جرأة النفس أن يقوم بالتجربة التي يتطلبها العلم لإثبات اليقين

واليوم يؤمن البحاث بالذي آمن به رو من أمر هذا المصل، فهم في شغل شاغل بمباحث أخرى. وكل الذي أرجوه أن يكون رو صادقاً في الذي آمن به، حتى إذا هبّت على العالم هبّة من وافدة خبيثة من الدفتريا، وافدة في خبث تلك التي كانت في العقد التاسع من القرن الماضي، يكون للناس من هذا المصل وقاء صادق يدفعون به شرها غير مخدوعين فيه

على أنه حتى إذا لم يكن في هذا المصل شفاء الدفتريا - ولو أن الأرجح فيه الشفاء - فالتجارب التي قام بها رو وبارنج لم تضع سدى على ما نعلم اليوم. بالطبع قصة ذلك لا تزال حديثة، لا تزال تلوكها الجرائد كثيراً، فلم تتهيأ بعد لتبوئ مكانها في التاريخ، ولكن مع هذا ففي نيويورك، وفي كل أمريكا، وفي ألمانيا مئات الألوف من الأطفال وتلاميذ المدارس تتخذ أجسامهم مصانع يُصنع فيها هذا الترياق في حذق كبير وأمْن بالغ كي لا تأتيهم الدفتريا أبداً. وذلك بحقن هؤلاء الصغار تحت جلودهم بمقادير قليلة من سمها يكفي المقدار منها لقتل عدة كلاب كبيرة - ولكن بعد تدويره وتحويره وتغييره تغيير عجيبا حتى لا يتأذى منه الطفل يُحقن به بعد أسبوع من ولادته

والأمل اليوم كبير في مغالبة الدفتريا حتى لا يكون منها ذلك الداء الفتّاك الذي دوخّ الأجيال، وذلك بأن تقتنع الأمهات والآباء فيرضون بأن تُرشاق بناتهم وأبناؤهم ثلاث رشقات من إبرة محقن. إذن لحمدنا العاقبة وشكرنا للفلار ورو وبارنج أبحاثهم الأولى وإن فاتها التهذيب والتمام

(تمت الدفتريا)

أحمد زكي