مجلة الرسالة/العدد 151/تجربة
مجلة الرسالة/العدد 151/تجربة
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
ماذا ترى يصنع رجل يعشق للمرة الأولى في حياة صاخبة مضطربة، ولكنها على كثرة ما جرب فيها خلت من الحب ونجت من زلزلته للنفس؟؟
عن هذا كان يسأل (ميم) - وحسبنا من اسمه حرف واحد - وهو جالس إلى مكتبه، والفتاة التي يحبها قبالته على الشرفة. والجديد من الأمر يتطلب جديداً من التصرف والتدبير، ولو كانت له خبرة بالحب، أو سبق له به عهد، لقاس حاضره على ماضيه، وأجراه في مجاريه. وغريب أن يتقضى شبابه وهو فارغ القلب، وأن يدركه الحب ويعمر فؤاده بعد أن شارف الكهولة ووقف على بابها، واخذ الأبيض يختلط بالأسود، وبدأ الزمن يرسم خطوطه!! وإن كان هو لا يحس شيئاً من ذلك ولا يباليه، ولا يعرف إلا أنه مازال في عنفوان الفتوة
وألقى القلم واضطجع وقال يناجي نفسه، وهو يضحك ساخراً: (هل أصنع كما يصنعون في هذه الروايات الكثيرة التي قرأتها؟ وعلى ذكر ذلك - ماذا ترى أبطال هذه الرواية يصنعون في حالات كهذه؟ لقد نسيت والله! فكأني ما قرأتها ولا وقعت عيني عليها. . . وهبني كنت أذكر ذلك فهل يصح في دنيا الحقيقة ما يصف الخيال؟)
واستطرد من هذا إلى القول بأن الروايات ليست - ولا يمكن أن تكون - خيالاً بحتاً، وشيئاً يخلقه الإنسان من لا شيء، ولا يحور فيه إلى أصل من حقائق الحياة، وأنكر قدرة الإنسان على هذا الخلق، وذهب إلى أن كل ما يسعه هو أن يلفق القصة من جملة ما شهد وجرب وسمع، وأن يكوّن الشخصيات من أشتات ما عرف، فليس القصص خيالاً، ولا ما تصفه محالاً، وإذن يكون تقليدها ميسوراً. . . أو دع كونه ميسوراً أو غير ميسور، وقل أنه لا يكون شططاً
(ولكن القصص يعنى فيها وأضعها بترتيب الأحوال والمواقف على النحو الذي يؤثره هو، والذي يراه أوفق لغايته، ومن عسى يرتب لي دنياي كما يرتب مؤلف القصة دنيا أبطاله؟؟
أم أستشير صديقاً مجرباً؟؟؟ ولكن هذا مخجل!! ثم أن العبرة بنوع استجابة الفرد لوقع الحياة في نفسه؛ والاستجابة تختلف باختلاف الأفراد. والذي يفعله إنسان ما، في موقف ما، ليس من الحتم - ولا من المعقول - أن يفعله كل إنسان في الموقف عينه فالاستشارات عبث ولا خير فيها، ولا جدوى منها إلا الفضيحة. . . الفضيحة؟؟. نعم. أليس فضيحة أن تفتح قلبك لمخلوق غيرك، وأن تبيحه سرك، وتكشف له عن ضعفك، وتدع عينه ترى مقاتلك؟؟ ولكن هل معنى هذا أن الحب ضعف؟؟ نعم. لأن فيه إفناء شخصية في أخرى - إلى حد ما على الأقل - ولم أكن هكذا قبل أن أبتلى بهذا الحب. وأني الآن لأرى حياتي كلها رهناً بمخلوق آخر لا أعرفه ولا يعرفني. . . فكيف لا يكون هذا ضعفاً؟؟
وعلى ذكر ذلك من تكون هذه المحبوبة التي غيرتني وأورثتني هذه الهواجس والوساوس؟؟. وجعلت من نفسها المجهولة قطباً تدور عليه خواطري جميعاً في اليقظة والمنام؟. . .
واستغرب من نفسه أنه لا يعرفها، وأنه مع ذلك لا يعنى بسواها، في حي يعرف من إحصاء البوليس أن فيه مائتي قهوة ومائة وعشرين ألف نفس، أي دائرتين انتخابيتين. (ولو مات أهل الحي لما حزن عليهم، ولا أسى لهم، ولا أحس نقصاً أو خسارة، ولا أسف إلا على خلو الحي وخرابه وقعوده هو فيه وحده على تله! ولكنه لو علم أن هذه الفتاة جرح إصبعها أو أصابها زكام، أو وعك، لبات مسهّد القلب كاسف البال، بل لاسودت الدنيا في وجهه - ومع لك لا يعرفها!! لا اسمها. . ولا دينها. . ولا شيئاً عن قومها. . . وكل ما يعرف هو أنه يراها من نافذة غرفته وهو جالس إلى مكتبه يقرأ أو يكتب. . . وإنه ألف أن يبصرها، وصار على الأيام يطيل النظر إليها وهي واقفة على الشرفة العالية، حتى اعتاد أن يراها على الأيام، وحتى صارت نفسه تستوحش إذا دخلت أو غابت. وجعل يلاحظها بعد ذلك فأدهشه منها أنها لا تكاد تغادر بيتها، فما رآها خارجة إلا مرة واحدة في شهور طويلة - مع أمها فقد كانت تلك أمها بلا شك - وهي مع ذلك من السافرات!! وزاد دهشته أنه كان يراها في الأغلب جالسة في الشرفة وفي يدها كتاب. . . كتاب لا مجلة!!. ترى أي كتاب أو كتب تقرأ؟؟. لاشك أنها روايات. . وهل للفتيات صبر على غير ذلك؟؟. وللسن حكمها. . . وسنها الصغيرة تغريها ولاشك بإيثار القصص والروايات لأن حياتها جديدة فهي تروم أن تعرفها معرفتها؛ وتظن أن الروايات أخصر الطرق وأوجزها إلى هذه المعرفة. . . ثم أن الروايات تصف كل هو ما هو حبيب إلى الشباب وقريب من هواه وصار يأنس بمنظرها، ويرتاح إذا بدت لناظره، ويشعر بالفراغ حوله - وفي نفسه - إذا خلا مكانها، أو لم تظهر على الشرفة أو من النافذة. وأدهى من ذلك أنه صار يحس من نفسه العجز عن العمل والتفكير إذا لم تأخذها عينه في محلها المألوف من الشرفة
واستحيا أن يسأل عنها جارا، أو خادما، أو أحداً من الناس - وماذا عسى أن يقول لهؤلاء؟. . . وبأي شيء يسوغ السؤال؟؟
وفرك عينيه بأصابعه، وهو يدير هذا كله في نفسه، ثم أطبق جفونه وراح يحاول أن يحضرها لذهنه، كما تبدو له من النافذة أو الشرفة المألوفة،. . فلم يجد عناء في ذلك، فقد كانت الصورة مطبوعة على صدره. . . وذكر قول العقاد في قصيدة مرقصة له:
ذهبيّ الشعر ساجي ال ... طرف حلو اللفتات
فأما أنها ذهبية الشعر فنعم! وأما أنها ساجية الطرف فلا. . فإن في نظرتها - حتى على هذا البعد - لقوة، وإن كان لم ير أحلى من نظرتها ولا أسحر للب حين تبتسم، ويشرق وجهها الواضح الصبيح، وأنه ليراها الآن كما كانت يوم ضحكت وتثنت، وكانت معها أختها - لا بد أن تكون هذه أختها الكبرى فإن فيها منها مشابه. والأرجح أنها متزوجة فإنها لا تزور هذا البيت إلا غبّا - وتالله ما كان أحلاها يومئذ!! لقد كانت في ثوب وردي اللون محبوك، مفصل على قدها تفصيلاً يجلو محاسنها كلها ويعرض مفاتنها جميعاً. . . وكان نحرها يضيء - وثدياها الناهدان يبدوان من تحت الثوب بارزي الحلمتين. . . إيه ما أعظم فتنة هذا الجسم الغض الجديد الذي لم تبتذله السن، ولم يرهله الزواج. . . وكان شعرها الوحف الأثيث الناعم اللامع مرخي. . . وكان الضوء المراق عليه يخيل للناظر أن فيه نجوماً زهرا، أبهى وأسنى من نجوم السماء. . . وكان وجهها الدقيق المعارف. . . (يا ويلي من هذا الفم الذي لم يعرف الأصباغ، وهو مع ذلك يبدو لي كأنما غَذَتْهُ الورود) متهللاً. وقد لانت نظرتها القوية، وفقدت حدتها المألوفة، واعتاضت منها الرقة، وبدا خداها كأنهما غلالتا ورد. . . آه. . ماذا يقول هذا الشاعر مهيار؟؟
آه على الرقة في خدودها ... لو أنها تسري إلى فؤادها!!
صحيح. . . . . وليت من يدري كيف فؤاد هذه الفتاة الرائعة الرقيقة الخدين اللينة النظرة حين يسرها شيء. . . . . أرقيق هو يا ترى كخديها؟؟ أم. . . كلا!! لا يمكن أن يكون إلا رقيقاً!. ولكن لماذا؟؟. على كل حال لا يزال أوان السؤال بعيداً. . أوه بعيداً جداً. . وما حاجتي إلى الاطمئنان من هذه الناحية، ولا صلة هناك، ولا كلام، ولا حتى إشارة؟؟.
وقام يتمشى في الغرفة الواسعة المكظوظة بالرفوف والمقاعد وغير ذلك، وحدثته نفسه - وهي تعابثه - أن يركب الحياة بما يركبها به الشباب، فضحك وقال. . لم يكن باقياً إلا هذا. . أمسح لها شعري بكفي. . . . أو أعبث لها على مرأى منها بوردة أرجوانية (كتفاح خدها الأرجواني) كما يقول البحتري!!. أو أبعث إليها مع النسيم بقبلة. . . . أو هو هو هو!!.
وقهقه وهو يتخيل نفسه فاعلاً ما يفعل الشبان والأحداث. ثم أشعل سيجارة وارتمى على مقعد وثير وسأل نفسه: (أتراني أحتقر الشبان وأسخر مما يصنعون؟؟. وماذا أرى الحكمة والاتزان والوقار والاحتشام أجداني؟. . أو يمكن أن يجديني؟. . هه؟. ومع ذلك لم لا أفعل كما يفعل الشبان. . أتراني هرمت!. كلا!. فما جاوزت السابعة والثلاثين، وإن كان الكثير من شعري قد حال لونه، وإني لأقوى وأعظم جلدا على الحياة والكفاح من ابن عشرين. . . . ولكنها عادة الاحتشام - قبحها الله!
ولم يرقه أن يقطع نفسه حسرات هكذا، فقال. . لماذا أرخي لنفسي الطِوَلَ. . . وهي؟؟ أكبر الظن أنها لا تراني، ولا تعبأ بي إذا رأتني، ولا يرد ذكري على بالها، وإن كنت أراها أول ما يجري بخاطري في الصباح، وآخر شيء يجريه خاطري بالليل. . أفلا يحسن أن أكبح نفسي عن هوى عقيم؟؟ ولكن لماذا أدع العاطفة تستنفد نفسها. . لا مانع فيما أرى، لو أن من الممكن أن تستنفد نفسها. . . وهبها يمكن أن تفعل، فإني أخشى أن تورثني حسرات كثيرة. . . ولهفات ثقيلة. . والأرجح مع ذلك أن تعمق العاطفة مجراها في النفس وإن كان لا مدد لها من المحبوب. فإن فيها - بمجردها - للذة تترك المرء كالجمل حين يجتر ما في جوفه ويعيد مضغه مرة وأخرى. . وهل قتل المجنون وأمثاله من صرعى الهوى إلا هذه اللذة التي كانوا يجدونها في حبهم والتي كانت تغريهم بأن يجعلوا لها غذاء ومدداً من نفوسهم؟. . .
وابتسم وهو يقول. . لست أحب أن أكون أحد هؤلاء المجانين الذين أتلفهم الحب وقتلهم العشق. . . فقد كانوا حقيقة مجانين. . . ولكن ليتني أعرف حيلة!! والبلاء أن حياة المجتمع مازالت كما كانت، وإن كان النساء قد سفرن! ومن النادر جداً على الرغم من هذا السفور أن يتيسر التعارف في مجتمعات مختلطة. إذن لهان الأمر وأمكن السعي
وقال وهو يضحك (لم يبق إلا السحر) ثم عبس ونهض وقال لنفسه إن التعبير بالسحر فيه تجوز كثير، ولكن في الوسع تغليب إرادة على إرادة، وأداء رسالة من نفس إلى نفس أخرى. . أعني أن الإيحاء حقيقة ثابتة لاشك فيها - نعم لا يشك فيها إلا جاهل - وفي مقدوري ولا ريب أن أوحي إلى هذه الفتاة العاطفة التي تخامر نفسي، وأن أبلغها رسالة قلبي، وأن أوقد في صدرها ناراً كالتي تتسعر في قلبي. . . أفعل كل ذلك بعيني. . . ألست قد أنمت مرة خادماً كان عندي وأمرته ألا يستيقظ إلا بعد صلاة الجمعة؟؟. ألست قد جربت فعل نظرتي في نساء كثيرات؟. ألم تصح إحداهن وقد أطلت التحديق في عينيها (حوّل عينك عني، فإني لا أطيق نظرتها وأحس أن رأسي يدور) ألم تصرخ إحدى قريباتي دون أن تحول عينها عني، لأني كنت أحدق في عينيها على غير قصد؟؟. فهذه قوة مجربة. . . قوة نفسية لاشك فيها. . وما أظن إلا أني قادر على أن أوحي إليها الحب. . وكل شيء بعد ذلك يهون. . نعم أن بيننا لبعد. . . ولكن ما قيمة هذا؟؟. أنها موجة نفسية أرسلها إليها، لا شرارة قصيرة. . . ولماذا يمكن إرسال موجة من آخر الدنيا، ولا يسهل إرسالها مسافة ثلاثين أو أربعين متراً؟؟
واقتنع بأن ذلك ميسور، فانشرح صدره، وأشرق وجهه، واعتزم أن يجري هذه التجربة
وسأبلغ القارئ ما يكون - إذا كان شيء
إبراهيم عبد القادر المازني