مجلة الرسالة/العدد 151/من روائع عصر الأحياء

مجلة الرسالة/العدد 151/من روائع عصر الأحياء

مجلة الرسالة - العدد 151
من روائع عصر الأحياء
ملاحظات: بتاريخ: 25 - 05 - 1936


2 - قصص الأيام العشرة

بقلم جوفاني بوكاشيو

للأستاذ محمد عبد الله عنان

بقية ما نشر في العدد الماضي

يستطيع أولئك الذين قرءوا قصص بوكاشيو وألف ليلة وليلة، أن يجدوا بعض نواحي الشبه بين الأثرين، سواء في المادة أو الروح؛ ذلك أن قصص الأيام العشرة تفيض كقصص ألف ليلة وليلة بروح مادية قوامها السرور والمرح، والتوفر على استمراء متاع هذه الحياة بأي الوسائل؛ وتفيض أيضاً كألف ليلة وليلة بالمواقف الغرامية المدهشة المثيرة، أو المبتذلة أحياناً؛ ثم أن كلا الأثرين يرمي إلى غاية واحدة تقريباً، وهي مجالدة النوائب والنسيان والسلوى؛ ففي ألف ليلة وليلة نجد ملكاً نكب بخيانة زوجه، وانقلب إلى بغض النساء، يتسرى في كل ليلة بكراً ثم يقتلها في صباح اليوم الثاني، إلى أن يبعث إليه وزيره بابنته (شهرزاد)، فتحتال لتسلية الملك وتحويله عن فكرة الثأر من النساء، وإنقاذ نفسها وبنات جنسها، بأن تقص عليه في كل ليلة طرفاً من القصص الشائق حتى ألف ليلة وليلة؛ وفي الأيام العشرة نجد عشر سيدات وسادة يجتمعون أثناء الوباء المروع للترويح عن أنفسهم وتناسي ويلات الفناء والموت، بتبادل القصص الممتع

ولا نعني بذلك أن جوفاني بوكاشيو قد تأثر في كتابة قصصه بألف ليلة وليلة؛ ذلك أن هذه القصص الشهيرة لم تكن قد عرفت في الغرب في عصره؛ ولكنا نريد أن نقول فقط أنه يوجد بين الأثرين تماثل في الروح والطابع والغاية يرجع إلى تماثل في روح العصور الوسطى وفي روح مجتمعاتها

على أنه إذا كانت قصص ألف ليلة تمتاز أحياناً بخيالها المبدع، وفنها الممتع، وصورها الوصفية والاجتماعية الشائقة، فإن قصص الأيام العشرة تفوقها من الناحية الفنية في مواطن كثيرة، وتمتاز بالأخص بعبرها ومغازيها الدقيقة، وصورها الفكهة اللاذعة، ومع أنها تمتاز أيضاً بكثير من التنوع والتباين في التصوير والوصف، فإنها تمتاز في نفس الوقت بطابع من التناسق الممتع في الروح والأسلوب والتعبير

وقد رجع بوكاشيو في كتابة قصصه إلى مادة غزيرة من القصص القديم وقصص العصور الوسطى، وإلى بعض الحوادث الواقعية التي شهدها، وإلى بعض حوادث حياته ذاتها؛ ويرى بعض النقدة أن الفتيان الثلاثة الذين اتخذهم بوكاشيو أبطالاً لثلاثة من الأيام العشرة، إنما يمثلون ثلاث مراحل مختلفة من حياة بوكاشيو نفسه، وأن في قصصهم كثيراً مما اشتق من حياة بوكاشيو ذاتها

وبدأ بوكاشيو كتابة قصصه كما قدمنا، أيام عصف الوباء بمدينة فلورنس في ربيع سنة 1348، وأنجز الثلاثة أيام الأولى منها في مايو سنة 1349، وهو يومئذ بنابل، كما يستدل من خطاب الإهداء الذي يوجهه عن هذا القسم إلى صديقه الساندرو دي باردي التاجر الفلورنسي، وكان يقيم يومئذ في جايتا؛ وانتهى من كتابة مؤلفه في سنة 1353، أعني لخمسة أعوام من البدء فيه؛ وظهرت الطبعة الأولى من هذه المجموعة الخالدة في سنة 1492

وقصص الأيام العشرة تجري حوادثها في جميع المدن الإيطالية وفي بلاد بعيد أخرى مثل البرتغال أو إنكلترا والإسكندرية وآسيا الصغرى؛ وقد اختصت فلورنس موطن المؤلف؛ وكذلك نابل حيث عاش بوكاشيو مدى حين، بكثير منها؛ وفي كثير منها نجد صوراً ممتعة لمحاسن الطبيعة في تلك الأرجاء، ووصفاً شائقاً فكهاً لمجتمعات هذه العصور وخلالها ومثالبها

كذلك تقدم إلينا هذه القصص أبطالاً من كل صنف وضرب؛ فهنالك مجتمع العصور الوسطى بكل طوائفه وشخصياته، من سادة وفرسان وأحبار وقسس، وشعراء وفنانين، وصناع وعمال ولصوص، ونساء من كل ضرب؛ وهنالك شخصيات الطبقة العليا من ملوك وأمراء وسادة وملكات وأميرات وسيدات أنيقات من كل الطبقات، وهنالك طائفة كبيرة من ملوك وأمراء معينين معاصرين وغير معاصرين

ونجد مثل هذا التباين في موضوعات القصص؛ ونلاحظ أولاً أن القصص كلها بعيدة عن الإسهاب الممل، وقد صيغت في أحجام متقاربة، من خمس صفحات إلى عشرين؛ بيد أن هذا الإيجاز في الحجم لم يحل دون حسن السبك، ففي كل قصة فكرة طريفة، وفي كل نادرة فكهة، وحادثة مطربة. وهنالك تنوع ظريف في الحوادث والفكر؛ بيد أنه يلاحظ أن القصص الغرامية تشغل أكبر حيز وتفوز بأكبر نصيب، وربما كانت تسعة أعشار المجموعة كلها. وهنا تبدو براعة بوكاشيو وفنه بصورة بارزة؛ فهذه المجموعة الغرامية الحافلة بعيدة عن التماثل الممل، وفي كل منها نجد مأساة أو مهزلة غرامية طريفة؛ وربما صيغ بعضها في أثواب مغرقة، وتضمنت فكراً أو مواقف مستحيلة، ولكنها على العموم تنفث نفس السحر والمتاع

وهذا الأفق الغرامي الساحر هو الذي يسود قصص الأيام العشرة؛ وهنا يبدو بوكاشيو في ذروة فنه وسحره؛ فالحب هو قوام المجتمع، وهو متاع الحياة، والحب يمد المرأة والرجل معاً بكثير من البراعة والعزم والخيانة والشجاعة والكرم، والإقدام والغدر؛ وفي أحيان كثيرة يمزج بوكاشيو المأساة بالهزل والفكاهة؛ فهنا زوجة خؤون تدبر أن يضرب زوجها في نفس حديقته من يد حبيبها، وتحمله على منازلته كعنوان على الإخلاص والحب؛ وهنا طالب عاشق يسير طول الليل فوق الجليد جيئة وذهابا، بينا تحدجه الحسناء وحبيبها باسمين من وراء النافذة؛ وهذا قس ساذج تستخدمه زوجة عاشقة دون أن يدري في توثيق علائقها بحبيبها المنشود وتدبير وسائل التمتع بوصله؛ وهذه زوجة خبيثة تدبر لحبيبها الوصل في منزلها وفي فراشها، بينا زوجها يضرع إلى ربه مستغفراً عن ذنوبه في مكان آخر من الدار؛ وهذا قس خبيث يفترس فتاة ساذجة تحت ستار الوعظ والهداية؛ وهذه راهبة مضطرمة تحتل لاقتناص جنان الدير حتى توقعه في شرك وصالها، وغير ذلك مما يضيق المقام عن ذكره

ومما يلاحظ بنوع خاص أن بوكاشيو يحمل على الأحبار والقسس بشدة، وينوه في كثير من المواطن بأخلاقهم الفاسدة وشهواتهم الوضيعة، يسترونها تحت ثيابهم ومظاهر ورعهم الغادرة؛ وإليك كيف يعرض بوكاشيو نظريته في خبث رجال الدين على لسان بانفيلو أحد الفتيان الثلاثة إذ يقول:

(سيداتي الحسان، لقد خطر لي أن أقص عليكم حديثاً ضد أولئك الذين يسيئون إلينا دائماً، دون أن نستطيع نحن الانتقام منهم؛ وأعني بذلك رجال الدين الذين أعلنوا حرباً صليبية على زوجاتنا، والذين إذا ظفروا بواحدة منهن، تصوروا أنهم قد غنموا غفران الذنب والعقوبة؛ وفي ذلك يعجز المدنيون عن مقابلتهم بالمثل، وإن كانوا يصبون جام انتقامهم على أمهات القسس وأخواتهم، وخليلاتهم، وبناتهم، ويطاردونهن بمثل الحماسة التي يطارد بها القسس أزواجهم)

فيجيب زميله فيلوستراتو: (إن الحياة الفاسقة الدنسة التي يحياها رجال الدين، وهي في كثير من نواحيها عنوان دائم للخبث، تقدم بكل سهولة فرصة لذوي العقول ليحملوا عليها ويجرحونها)

ويقد إلينا بوكاشيو مجموعة متباينة من القسس الذين فاضت نفوسهم بأروع صنوف الاجتراء والإثم، ويصور لنا خبائثهم ودسائسهم وتحيلهم على استباحة الأعراض بكل الوسائل، واستتارهم في ذلك باسم الدين؛ كذلك يقدم إلينا طائفة من الراهبات اللائي يضطرمن وراء جدران الدير توقاً وجوى، ويلتمسن تحقيق شهواتهن بأخس الوسائل؛ وفي هذه القصص الكنسية يبدو بوكاشيو في ذروة فنه وسخريته اللاذعة، ومع أنه يشتد في حملته على الكنيسة وأحبارها، فإنه يحيط هذه الصورة الخبيثة بكثير من الدعابة والمرح

وقد أثارت هذه القصص المثيرة سخط الكنيسة الكاثوليكية على الكتاب ومؤلفه، فوضعته فيما بعد في قائمة الكتب المحظورة؛ ولكنها لما رأت بعد ذلك أن هذا الحظر لم يحل دون ذيوع الكتاب، سمحت بظهوره في القرن السادس عشر في ثوب مهذب رفع منه القسس والراهبات واستبدلوا في صلب القصص الأصلية بسيدات وسادة

وقد كتب بوكاشيو قصصه بكثير من الحرية والبساطة؛ وإذ كان معظمها يتحدث عن الحب والوصل، فإن مؤلفها لم يحاول تحفظاً في وصف المناظر والصور، ولم يحاول تكلفاً في اللفظ أو التعبير؛ وعلى ذلك فقد يبدو لنا أن قصص الأيام العشرة تخرج في كثير من المواطن عن حدود الحياء والحشمة؛ والواقع أن بوكاشيو يحدثنا عن الحب والوصل، وعن العلائق والشهوات الجنسية في كثير من البساطة والصراحة، ويقدم إلينا هذه الصور الغرامية المضطرمة عارية لا يسترها لفظ أو تحشم؛ ولكن هل يجوز لنا مع ذلك أن نعتبر قصص بوكاشيو أثراً خليعاً ينبو عن معيار الحياء والحشمة والخلق الرفيع؟ لقد وجهت هذه التهمة إلى قصص بوكاشيو منذ ظهورها، ومازالت توجه إليها في عصرنا؛ واضطر بوكاشيو نفسه أن يجيب عنها في خاتمة مجموعته، وأن يبرئ نفسه من قصد العبث والإسفاف

يقول النقدة، لقد تحدث بوكشيو كثيراً عن الحب، وأسرف في ملق النساء واسترضائهن؛ ويجيب بوكاشيو، ولماذا لا؟ لقد ملق النساء أذهان عظام مثل جيدو كافالكانتي ودانتي الجييري، وألفوا في استرضائهن متعة وشرفاً

ويقولون أن بوكاشيو استباح لنفسه وصف المناظر الجنسية المثيرة، واستعمل ألفاظاً تنبو عن الحياء والحشمة؛ ويقول بوكاشيو إنه ينكر هذه التهمة، (لأنه لا يوجد ثمة شيء قبيح يحظر على إنسان ما، إذا استطاع أن يخرجه في صيغ مقبولة، وهذا ما يلوح أنه قد فعل بصورة مرضية)

ويقولون أن هذه القصص تثير فساداً وتحدث ضرراً؛ ويقول بوكاشيو، إن كل شيء في الوجود يمكن أن يحدث الخير والشر؛ فمن ذا الذي لا يعرف أن النبيذ وهو من أفضل مقومات الصحة، مضر بالمحمومين؟ وهل لنا أن نقول إنه ضار لأنه يؤذي المحمومين؟ ومن ذا الذي لا يعرف أن النار مفيدة بل ضرورية للإنسان؟ وهل لنا أن نقول أنها شر لأنها تحرق الدور والقرى والمدن؟ كذلك تكفل الأسلحة سعادة أولئك الذين يريدون العيش في سلام؛ ولكن الأسلحة كثيراً ما تودي بحياة الناس، لا لخبث في ذاتها، ولكن لخبث أولئك الذين يستعملونها. ثم يقول بوكاشيو: فإذا كان ثمة في الأيام العشرة قصص مثيرة أو خارجة، فإنه لا ضير من وجودها، ولم يكن في وسعي أن أكتب غير ما سمعت؛ ولا عصمة لإنسان؛ وفي الحقل النضر تنمو الأعشاب الضارة؛ ولما كنت أقصد أن أحدث فتيات الشعب، فإنه لم يكن ثمة داع للتكلف والبحث عن الصيغ والعبارات المنمقة

هكذا يعتذر بوكاشيو عما عسى أن يبدو في قصصه من خروج على حدود الحياء والحشمة؛ بيد أنه مهما كانت الملاحظات التي تبدى في هذا الشأن، فإنه لا ريب أن قصص بوكاشيو، تعتبر من أقيم الآثار العالمية وأبدعها وأمتعها

وقد كان لمجموعة الأيام العشرة أعظم الأثر في تطور النثر الإيطالي، وتطور فن القصص الأوربي بوجه عام؛ ومازالت آثار بوكاشيو تعتبر إلى جانب آثار دانتي وبترارك، قوام الأحياء الأوروبي، والصرح الأول في بعثه وازدهاره

(تم البحث - النقل ممنوع) محمد عبد الله عنان