مجلة الرسالة/العدد 153/من هنا ومن هناك

مجلة الرسالة/العدد 153/من هنا ومن هناك

ملاحظات: بتاريخ: 08 - 06 - 1936



أشهر كتب الخلاصات الحديثة.

كان مؤلفو العرب يعنون عناية فائقة بوضع كتب الخلاصات للعلوم والفنون والآداب؛ وكانت كتبهم تكبر وتكبر حتى تغدو موسوعات ضخمة تسعف القارئ بما يحتاج إليه من المعارف العامة والنبذ الخاطفة من كل علم وفن؛ ولعل كتاب الأغاني هو أول موسوعة عربية من نوعها. ومن الموسوعات العربية أيضاً كتاب نهاية الأرب للنويري، وصبح الأعشى للقلقشندي ولسان العرب لابن منظور المصري، والعقد الفريد لابن عبد ربه ومسالك الأمصار، وتاريخ بغداد. . . الخ، وقد أقتبس الغرب هذه الطريقة الموسوعية عن أسلافنا العرب، فوضع ديدرو موسوعته الفرنسية، ثم كان للإنجليز موسوعتهم كذلك، ونحسب أن الموسوعة الإيطالية الحديثة التي اشترك في وضعها الطاغية موسوليني هي أكبر موسوعات العالم قاطبة، وإن تكن لا تفضل الموسوعة البريطانية في الدقة وتوخي الحقيقة فيما حفلت به من سائر المعارف العالمية، ولكن هذه الموسوعات غالية الثمن غالباً؛ ولا يستطيع الأفراد إلا الأقلون منهم اقتناءها لهذا السبب، فثمن الموسوعة البريطانية الرخيصة مثلاً (الطبعة الرابعة عشرة) خمسة وعشرون جنيهاً أو أكثر، إذا دفع الثمن على أقساط؛ وثمن الطبعة الغالية أكثر من خمسة وسبعين جنيهاً مصرياً. وقد وضعت شركة الكتب الإنجليزية دائرة معارف للأعلام على طريقة وفيات الأعيان لابن خلكان وجعلت ثمنها أربع جنيهات.

لذلك راجت كتب الخلاصات في أوربا عامة، وإنجلترا خاصة، وكان

الأديب الإنجليزي الكبير هـ. ج. ولز هو المبتدع لهذه الطريقة

الطريفة، وذلك حين وضع كتابه الجميل (خلاصة تأريخ العالم)،

يستعرض فيه تأريخ الحياة في هذه الدنيا منذ بدء الخليقة إلى اليوم،

فأنت تقرأ فيه لمحة من كل علم، وطرفة من كل فن، وخطفة من كل

أدب، وينتقل وتر من الجيولوجيا إلى الانثروبولوجيا، إلى البيولوجيا،

إلى التأريخ، إلى الآداب، إلى الفنون، إلى العلوم، إلى الحركات الفعالة التي تناولت الأمم بالهدم والبناء. . . . وكل ذلك بأسلوب طلي، وروح

وثاب، وعبارة مشرقة غير مملولة. ولا يكاد القارئ يلتمس شيئا في

خلاصة ولز هذه إلا وجدها، وهذه مهارة تحمد للمؤلف، والخلاصة

على نفاستها رخيصة الثمن جدا بحيث يستطيع القارئ العادي اقتناءها

دون أن يرهق حبيبه.

وقد وضع ولز خلاصه ثانية لا تقل عن قيمتها عن خلاصته الأولى، ولا تزيد في ثمنها عليها، تلك هي كتابة القيم (الإنسان، عمله، ثروته، سعادته)، ويعرض فيه لطائفة رائعة من فنون العمل والحياة لا تكمل ثقافة الإنسان إلا إذا وعاها.

وقد ألف الكاتب الشاعر الإنجليزي (جون درنكووتر) خلاصته في آداب العالم، وهي برغم ما فيها من الشوائب، وما يعتور بحوثها من القصور المعيب أحياناً، خلاصة قيمة بما حفلت به من تأريخ الأدب العالمي منذ فجر التاريخ إلى اليوم في كل أمة. . . إلا الشرق! وإن يكن قد تناول آداب الشرق القديمة بفصول مشوهة مبتورة، وإن يكن أيضاً قد خص الأدب الإنجليزي بأكبر نصيب من خلاصته!

أما الخلاصة الأدبية القيمة حقاً فهي تلك التي كتبها الأديب المؤرخ الأمريكي الشهير برتن راسكو والتي سماها (جبابرة الأدب أو - أعاظم كتاب العالم)، وقد أختار لها برتن راسكو أربعين أديباً وشاعراً من أكبر أدباء التأريخ وشعرائه، بدأهم بهوميروس وختمهم بجورج مور، ثم ختم الخلاصة بلمحة عن الأدب العالمي في الخمسين سنة الأخيرة. وبرغم هؤلاء الأربعين أديباً، فأنك لا تكاد تذكر أديباً أو كاتباً في كل عصور التأريخ إلا وجدت المؤلف حام حوله، وأعطاك لمحة عما يهمك جداً من فنه وطريقته وأشهر مؤلفاته، ومع ذاك فثمن كتابه زهيد جداً.

لذلك أنصرف الناس عن الموسوعات لغلائها ولاشتمالها على موضوعات لا تهم غالبيتهم إلى الخلاصات لرخص ثمنها ولتركزها في باب بعينه كما في خلاصة الفن وخلاصة الموسيقى.

بيكون بين النقص والكمال يغلو بعض مؤرخي الأدب الإنجليزي فيدعى أنه لا يوجد منذ أرسططاليس إلى فرنسيس بيكون فيلسوف مثل بيكون! ومع اعترافنا بما كان لهذا الرجل من الأثر الكبير في الذهن الإنجليزي في عصر النهضة فأننا لا نفضله على كثيرين من أبطالها ولا سيما هارفي وكبلر وغاليلو. وقد اشتهر بيكون بتفضيله التجربة في العلوم على الاستدلالات المنطقية العقيمة وأكثر المؤرخين على أنه ليس مبتدع تلك النظرية، فقد سبقه إليها العرب، ثم أقتبسها عنهم غير بيكون من علماء النهضة. وكان بيكون معروفاً دائماً بالشذوذ الغريب حتى إنه كان يؤلف أحسن كتبه باللاتينية وذلك لعدم إيمانه بالإنجليزية في ذلك العصر!!

على أن الذي يعنينا في هذه اللمحة عن بيكون هو خلقه الذي أنحدر إلى الحضيض الأسفل من اللؤم والضعة. قال بوب (بيكون فيلسوفنا المحترم! هو أعظم بني الإنسان وأعقلهم، كما أنه أخسهم وألأمهم!!) ولنذالة بيكون قصة مشجية تتلخص فيما يلي:

عندما عاد بيكون من باريس كان أبوه قد مات، وكان أخوه الأكبر قد استولى على جميع التركة بحكم التقاليد الإنجليزية البالية التي كانت سائدة وقتئذ في ذلك الشعب المحافظ العتيق. والتحق بيكون بوظيفة في أحد الفنادق ليعيش، ثم أكب على دراسة القانون حتى نال إجازة الحقوق فأنخرط في سلك القضاء فأبدى نبوغاً عظيماً وعبقرية فذة. وكان اللورد بيرلي يعرف ما لهذا القانوني الشاب من خطر، فشرع يقيم في سبيله العراقيل حتى لا يبذ أبنه روبرت سيسيل الذي كانت له مطامح وآمال في أكبر المناصب القضائية في إنجلترا، فلما شغرت وظيفة (الأفوكاتو العمومي) رشح لها بيكون بعبقريته ورسوخ قدمه في القانون، ثم روبرت سيسل بحسبه ونسبه وضلع أبيه - اللورد بيرلي - في الحكومة ومنزلته السامية لدى الملكة اليزابث، وكانت هذه المؤهلات كلها (!) كفيلة بتعيينه في المنصب واطراح بيكون

وكان (ايرل اسكس) يعجب ببيكون ويميل إلى تعيينه، فلما ضاعت مجهوداته عبثا عز عليه أن يقتل اليأس نفس الشاب النابغة، فحدب عليه وواساه مواساة طيبة، ثم وهب له أرضاً واسعة تغل له غلة كبيرة، وقصرا من أفخم قصور لندن على نهر التاميز!!

ودار الزمن دورته، وساءت الأحوال بين الملكة وبين ايرل أسكس، وقدم للمحاكمة بتهمة الخيانة العظمى، فانتدبت الملكة أعز أصدقاء الأيرل، فرنسيس بيكون ليكون عضوا في الهيئة التي تتولى الدفاع عنها. . . فماذا جرى؟! لقد كان بيكون أشد المستشارين حماسةً للملكة ضد صديقه الذي حدب عليه، وأبعد عنه شبح الفاقة، برغم ما كان يبدو من براءة الأيرل، وبرغم ما كان يبدو من ميل بقية المستشارين إلى تبرئته. . .

ولم يكتف بيكون بهذا الموقف الشاذ اللئيم، بل قدم مذكرة مسهبة بإدانة صديقه، ثم طلب في نهايتها الحكم عليه بالإعدام! وكافأته الملكة على حماسته، فرفعته إلى أعلى المناصب، وأغدقت عليه أرفع الألقاب، حتى غدا (لورد بيكون!)

ولما كتب بيكون كتابه في الأخلاق عقد فيه فصلاً من أحط ما عرفت البشرية عن (الحب والزواج والعزوبة) وذكر فيه أن الحب هو علاقة جنسية خالصة، وغريزة شهوية وضيعة، وأن المرأة بذلك إن هي إلا متعة للرجل وأنها مطيته إلى اللذة الحيوانية الطارئة. . . الخ. . . فلما تقدم إلى ليدي هاتون يطلب يدها لم تستح هذه المرأة المثقفة أن تصفعه في وجهه بهذه الكلمة الخالدة (ليذهب الفيلسوف البهيم إلى غابة قريبة فلينتق له بهيمة تكون مطيته إلى لذة طارئة ثم ليلقنها فلسفته!)

ودار الزمان دورته مرة ثانية! وأخذت الألسن تلوك إشاعات مخزية عن رشا يأخذها النائب العمومي (وكان هو بيكون في هذه الآونة) واضطر مجلس العموم إلى أن يثور طالباً محاكمته أمامه. . . فلما مثل الرجل وشرع الأعضاء يقذفونه بالتهمة تلو التهمة، لم يسعه إلا أن يعترف، ولم يسعه إلا أن يبكي. . . والتمس من المجلس أن يعامله برحمة. . . وحكم عليه بغرامة هائلة قدرت بأربعين ألف جنيه، ثم بالسجن المؤبد. . . ولكنه لم يحبس غير ليلة واحدة، ثم عفت عنه الملكة!!

هذه لمحة عن أخلاق الرجل الذي وضع كتاباً في الأخلاق ذم فيه أخلاق نبينا!!!

وهذا هو الرجل الذي يخلط بعض مؤرخي الآداب فيدعي أنه كتب كثيراً من الدرامات التي تعزى إلى شاكسبير!!

ترجمة القرآن

لا ندري إذا كان على إمارة المسلمين في زماننا هذا رجل مثل المأمون فماذا عساه كان صانعاً بمن يقولون بعدم جواز ترجمة معاني القرآن بعدما أقرها أكثر العلماء؟

ماذا كان يصنع المأمون بالأستاذ محمد سليمان بعد الذي صنعه بالإمام الكريم ابن حنبل في فتنة خلق القران؟!

لقد كنت أود لو أن الأستاذ محمد سليمان يجيد الإنجليزية إذن لأرسلت نسخة من ترجمة جورج سيل أو الاسكندر روس أو غيرهما ليقرأ بنفسه ما جاء فيها من الشطط في ترجمة الآيات. وهو لو علم أن المسلمين، غير العرب، في مشارق الأرض ومغاربها يتلون كتاب الله في هذه التراجم، ويكاد يصبأ بعضهم لما يلحظه من الضعف والسخف فيها، لهتف حضرته مع الهاتفين بضرورة ترجمة معاني القرآن. . .

هافلوك أليس

ذكرنا في العدد الماضي من (الرسالة) كلمة عن إباحيين من إباحي الأدباء الإنجليز هما لورانس وجيمس جويس، وقد فاتنا أن نشير إلى العلاقة بين مذهبهما ومذهب المنحطين مثل أوسكار ويلد وإضرابه. ونذكر في هذا العدد العالم الكبير هافلوك أليس لا على أنه إباحي مثل لورانس أو مثل جويس، وإن دعا هو الأخر إلى التنعم بلذائذ الحياة من ذهنية وحسية وعدم كبت الغرائز والتفريج عنها. . . ولكن بالوسائل المشروعة.

وهافلوك أليس عالم في التناسليات، ولكنه بكل أسف ليس أديباً، ولكن الأدباء في إنجلترا يصلون بينه وبين جمهورهم لأنهم متأثرون به.

ولأليس ضريب آخر هو برتراندسل سنتكلم عنه في العدد القادم.

(د. خ)