مجلة الرسالة/العدد 158/أثر الحرب الكبرى في بريطانيا

مجلة الرسالة/العدد 158/أثر الحرب الكبرى في بريطانيا

مجلة الرسالة - العدد 158
أثر الحرب الكبرى في بريطانيا
ملاحظات: بتاريخ: 13 - 07 - 1936


2 - أثر الحرب الكبرى في بريطانيا

للأستاذ رمزي ميور

أستاذ التاريخ الحديث في جامعة منشستر سابقاً

ترجمة الأستاذ محمد بدران

ناظر مدرسة بمباقادن الابتدائية

كذلك لم يعد لبريطانيا بعد الحرب ذلك السلطان الكبير الذي كان يوليها إياه تفوقها التجاري على أمم العالم أجمع. نعم أنها لا تزال تمتلك وتُسير ثلث سفائن العالم، وذلك لأنها أوسع أسواق الأرض حرية، لكن نصف سفنها معطل؛ وقد خسرت جزءاً كبيراً من تجارتها الخارجية التي تُعَوّل عليها في حياتها وإن كانت صادراتها (منسوبة إلى عدد السكان) لا تزال ضعفي صادرات أكبر الأمم المنافسة لها تقريباً. على أن ما فقدته من تجارتها الخارجية إذا رجع بعضه إلى خطأ ارتكبته فلا يرجع كله أو جله إلى ذلك الخطأ. ذلك بأنها في أثناء الحرب اضطرت أن تضحي بمعظم أسواقها الخارجية لكي تركز جميع قواتها القومية في الأعمال الحربية. وذلك الفراغ الذي تركته شغلت بعضه أمم أخرى (كاليابان والولايات المتحدة) لم يُنقِض ظهرها عبء الحرب وشَغَل البعض الآخر ما قام من الصناعات القومية على أنقاض الواردات البريطانية. فلما وضعت الحرب أوزارها أقيمت لحماية هذه الصناعات حواجز من الضرائب الجمركية العالية، وأخذت الأمم جميعها في داخل أوربا وخارجها تعمل (للاكتفاء بنفسها)، فأدى ذلك العمل إلى النتيجة السالفة الذكر؛ وكان من جراء ذلك أن بريطانيا التي لا أمل لها في أن تكتفي بنفسها والتي لا تستطيع أن تحيا إلا بالاتجار مع العالم أجمع تجارة واسعة، انحطت إلى المنزلة التي انحطت إليها مدينة (ويانة) بعد الحرب. لقد كانت بريطانيا كما كانت ويانة تعتمد في رخائها على موقعها في ملتقى الطرق التجارية الكثيرة فنالها ما نال ويانة بعد أن أقيمت الحواجز المتعددة في هذه الطرق التجارية، وإلى هذا يرجع معظم السبب في ازدياد عدد المتعطلين. وقد بلغ من خطورة هذه الحال الجديدة أن أخذ قسم كبير من الرأي العام يدعو إلى ترك نظام الحرية التجارية الذي تسير عليه بريطانيا واتباع سياسة (الاكتفاء بالنفس) التي تتبعها البلد الأخرى. ولما كانت بريطانيا لا تستطيع أن تكتفي بنفسها إلا إذا خلصت من نصف سكانها فقد قويت فيها الدعوة إلى التوسل لتلك الغاية، غاية الاكتفاء بالنفس اكتفاء تاماً - بتوحيد الإمبراطورية من الناحية الاقتصادية. فإذا ما رضيت أجزاء الإمبراطورية بأن تتخلى عن مسعاها للاكتفاء بنفسها - وبعيد أن ترضى بذلك في القريب العاجل - كان معنى رضائها أن بريطانيا تضعف باختيارها أو قل تعطل ثلثي تجارتها الخارجية لكي تتفرغ إلى إنماء الثلث الباقي؛ وإذا فعلت ذلك فإنها تكون قد تحولت تحولا تاما عن السياسة التي قام عليها النظام الاقتصادي البريطاني حتى الآن

هذه التطورات تعد في مجموعها انقلاباً خطيراً في مركز بريطانيا ومبادئها يتطلب تعديلاً في سياستها القومية، ولاشك في أن بريطانيا تجتاز الآن أزمة بل خطراً قومياً شديداً. على أن كل تغيير بمفرده لا يعد خطيراً في ذاته. فإذا كان مركز بريطانيا الجزري لم يعد يكفل لها السلامة فان سياسة عالمية رشيدة تكفل لها سلامة أبقى وأعظم؛ ولا يزال موقع هذه الجزيرة في وسط أهم الطرق التجارية البحرية وفي قلب العالم المتمدين تقريباً خير موقع جغرافي يتمتع به بلد على وجه الأرض. وإذا لم تكن بريطانيا الآن سيدة البحار بلا منازع فان ذلك لا أهمية له إذا بقيت البحار في سلام. وإذا لم تكن لها (السيطرة على إمبراطورية فان خيراً من هذه السيطرة أن تكون هي القلب النابض لمجموعة من الأمم الحرة على شريطة أن تنظم هذه المجموعة تنظيماً يمكنها من أن تتعاون تعاوناً حراً. وقد تكون بريطانيا وراء غيرها من الأمم في اتباع أحسن وسائل التنظيم الصناعي، ولكن هذا أمر يستطاع تداركه بالعمل والحكمة. وإن اندماج أجزاء مقاطعاتها الصناعية وقربها من الثغور التي تستمد منها حاجاتها ومن مصادر القوى اللازمة لها، كل ذلك يكسبها ميزات عظيمة إذا أحسن الانتفاع بها. وقد لا تجد بريطانيا في بلادها حاجتها من الزيت أو القوى المائية. ولكن العلم والعمل كفيلان باستخراجهما من مناجم فحمها الغنية؛ وربما كان النقص قد اعترى قدرتها المالية، ولكن هذه القدرة لا تزال عظيمة برغم هذا النقص، وفي الإمكان زيادتها إذا اتخذت الوسائل الكفيلة بتشجيع الادخار؛ وإذا أحسن توحيد مجهودها القومي بقيادة رشيدة فان هذا المجهود خليق بتخفيف عبء الضرائب الذي لا يزيد كثيراً على ما كان عليه منذ مائة عام إذا روعيت النسبة بين العهدين. كذلك لا يرجى أن تحتفظ بريطانيا بما كان لها من تفوق عظيم في التجارة العالمية، ولكن إذا أيقن عمالها والمشرفون على الصناعة فيها أن الواجب يقضي عليهم بأن يقاوموا كل منافسة شريفة بكفايتهم وحدها وأن يكونوا أنداداً لمنافسيهم وأن ينظموا بيوتهم، إذا أيقنوا بذلك استطاعت بريطانيا أن تستعيد من الأسواق ما يضمن لأهلها ارتقاء مطرداً في مستوى معيشتهم، وأن تنمي مواردها وموارد الإمبراطورية نماء عظيما

ولكن يلوح أنها إذا شاءت أن تنال هذه الأغراض فان عليها أن توجه إليها مجهوداً قومياً عاماً شبيهاً بالمجهود الذي أنالها النصر في الحرب. ولا بد لها أن تتغلب على روح الاستسلام والقنوط وما يؤدي إليه من خور في العزيمة. وأخيراً إن بلوغ هذه الغاية موقوف على نوع الحكومة القائمة في البلاد وصفاتها، وذلك لأن واجبات الحكومة في الوقت الحاضر أكبر شأناً وأعظم أثراً مما كانت في الماضي. وإن للطريقة التي تؤدى بها هذه الواجبات أثراً بليغاً في نفوس الشعب لا يعادله أثرها في الماضي، ولذلك يهمنا أن نعرف كيف عدل نظام الحكومة البريطانية ذو الشهرة العالمية الكبيرة لكي يتفق مع مقتضيات العهد الذي أعقب الحرب

ليس الجواب عن هذا السؤال مما يسر له الخاطر؛ فإننا إذا حكمنا على الأشياء بنتائجها تبين لنا أن نظام الحكم البريطاني أقل نجاحاً من النظام الفرنسي أو الألماني الحديث في بعث روح النشاط القومي الموحد وفي قيادة الأمة في هذه الأوقات العصيبة؛ وإذا حكمنا على هذا النظام بأثره في أخلاق الناس من كافة الطبقات رأينا أنه لم يخلق زعماء أنجادا قادرين على التفكير والإنشاء ينالون ثقة الأمة ويتحملون التبعات أمثال شترزمان في ألمانيا، أو بوانكريه وبريان في فرنسا (رغم ما فيهم من نقص). وقصارى القول إن هذا النظام لم يفلح في إشعار الأمة بحاجتها إلى توحيد جهودها وخلق الزعماء الذين يقودونها في بذل هذه الجهود

وقد يكون سبب هذا العجز أن بريطانيا الآن تواجه عهداً جديداً بإداة حكومية لا تستطيع أن تعالج ما فيه من المشاكل. ويلوح أن السياسة البريطانية يسيطر عليها أكثر مما يجب التنافس الدائم على السلطة بين الأحزاب المختلفة التي لا يبذل كل منها جهده في العمل الإنشائي المنتج بل في التشهير بغيره وكشف عيوبه ونقائصه. لسنا ننكر أن الأحزاب السياسية أداة ضرورية للحكم الديمقراطي، ولكن يلوح أن نظام الأحزاب البريطانية جامد خال من المرونة يجعل المشرفين على سياستها شرذمة قليلة من الزعماء المطلقي التصرف يستقلون بوضع خطط الحزب، ولا ينفكُّ أتباعهم أنفسهم يضمرون في نفوسهم الثورة عليهم وإن أطاعوهم في إعطاء أصواتهم، وذلك لأن هؤلاء الزعماء ينكرون عليهم حرية المناقشة بله حرية العمل

لقد تكلمنا من قبل عما طرأ على نظام الحكم البريطاني من تغيير، وقلنا إن أهم مظاهر هذا الحكم مظهران: أولهما تركيز السلطة جميعها من تشريعية ومالية وإدارية في يد وزارة حزبية قليلة العدد أوقرت ظهرها المسئوليات الجسيمة التي أخذتها على عاتقها فأصبحت عاجزة عن النظر إلى حاجات الأمة نظرة واسعة المدى. وثانيهما حرمان البرلمان من كل سلطة إلا من إشراف صوري محض على أعمال الحكومة حتى صار عمله في الحقيقة مقصوراً على نقدها. إن في وسع البرلمان أن يشهر بأعمال الحكومة ويعطلها. ولكنه ممنوع من أن يعمل شيئاً من عنده لإصلاحها، فلا عجب والحالة هذه إذا لم يكن في الإمكان مواجهة الطوارئ القومية الخطيرة وعلاجها علاجاً ناجحاً. وإذا شاءت بريطانيا أن تنازل الصعاب التي قامت بعد الحرب وهي واثقة من النجاح كان عليها كما يلوح أن تبدأ بإصلاح زعامتها وأداتها الحكومية

2 - الإمبراطورية البريطانية

تتألف الإمبراطورية البريطانية من ثلاثة عناصر مختلفة: أولها الأملاك العظيمة التي تحكم نفسها بنفسها، وهي أملاك كانت منذ زمن طويل ولا تزال حتى الآن دولاً مستقلة كل ما بينها وبين بريطانيا من روابط أنها تدين معها بالطاعة لتاج واحد، وأنها تشترك معها فيما تتمتع به من نظم الحرية. وثاني هذه العناصر هو البلدان الشرقية ذات الحضارة القديمة، وهي الهند وسيلان وبلاد الملايو؛ وهي بلاد للحكومة البريطانية عليها إشراف مباشر أكبر مما لها على البلدان الأولى، وإن كانت هذه البلدان أيضاً أخذت تطالب بحقها في حكم نفسها بنفسها ونالت بعض هذا الحق في السنين الأخيرة. والعنصر الثالث أجزاء الإمبراطورية المحكومة، وتشمل أصقاعا واسعة في أفريقية لم تنضم إلى الإمبراطورية إلا في خلال الخمسين سنة الأخيرة. وهذه الأملاك تسيطر عليها الحكومة البريطانية سيطرة فعلية بأشكال مختلفة. هذه الإمبراطورية العجيبة التكوين التي تشمل ربع مساحة المعمورة وربع سكانها، ليست موحدة التركيب ولا النظام، وليست لها قوة مركزية فعالة تفرض طاعتها على هذه الأجزاء، اللهم إلا قوة الأسطول. ولقد أخذ شكل هذه الإمبراطورية منذ عام 1830 يتغير تغيراً مضطربا حسب الظروف، ويتحول بالتدريج من إمبراطورية بالمعنى الصحيح إلى ما يسمونه الآن أسرة من الأمم

على أن هذه الإمبراطورية كانت إلى ما قبل الحرب بقليل وحدة متماسكة من ناحيتين مهمتين على أقل تقدير، فقد كان لها سياسة خارجية واحدة تسيرها كلها (هويت هول)؛ وكانت جميع أجزائها حتى الأملاك المستقلة التي كانت الروح القومية تضطرم فيها راضية بترك العلاقات الخارجية في يد وزارة الخارجية البريطانية، وذلك لقلة دراية هذه الأجزاء وقلة اهتمامها بمشاكل أوربا، واعتقادها أن لا شأن لها بهذه المشاكل؛ ولم يؤخذ رأي مندوبي الأملاك المستقلة في السياسة الخارجية إلا في السنين المضطربة التي سبقت الحرب عندما اشتد الخطر الألماني، فعقد المؤتمران الإمبراطوريان في عامي 1907، 1911؛ على أنه حتى في ذلك الوقت لم تتخذ وسائل رسمية لتنظيم طرق هذه الاستشارة أو الإدارة العامة، وبقي وزير خارجية بريطانيا هو نفسه وزير خارجية الإمبراطورية جميعها. كذلك كانت الإمبراطورية كلها تعتمد على نظام مشترك للدفاع عن جميع أجزائها، وكان عبء هذا الدفاع يكاد يقع كله على عاتق بريطانيا، كما كانت أداته الفعالة بطبيعة الحال هي الدستور الذي يحفظ طرق المواصلات البحرية بين مختلف أجزاء الإمبراطورية مفتوحة. والذي جعل للأسطول هذه الأهمية أن الإمبراطورية البريطانية لا يستطاع غزوها براً إلا من مكان واحد هو حدود الهند الشمالية الغربية؛ فلما بدأت بريطانيا تخاف ألمانيا قبيل الحرب تبادلت أجزاء الإمبراطورية الرأي لأول مرة في شؤون الدفاع، واشتركت الأملاك المستقلة بعض الاشتراك في نفقات الأسطول، واتبع في تنظيم القوات الحربية القليلة التي كانت هذه الأملاك تحتفظ بها نظام الجيش البريطاني؛ وكان هذا الجيش قد أعيد تنظيمه قبل ذلك الوقت على يد اللورد هلدين، ولكنه مع ذلك لم توضع خطة للدفاع الإمبراطوري، كما أنه لم تكن ثمة استشارة إمبراطورية في الشؤون الخارجية

وكان كثير من الناس يتوقعون أن الإمبراطورية ستنهار وتتقطع أوصالها إذا ما لاح شبح الحرب لسبب ما هي عليه من ضعف في النظام. وكانت ألمانيا بوجه خاص تتوقع أن تنفض الأملاك المستقلة يدها من النزاع، وأن يندلع في الهند لهيب الثورة؛ وأن الأملاك الجديدة في أفريقية وغيرها من القارات سيحتاج الاحتفاظ بها إلى قوى كبيرة. لكن مجرى الحوادث بدد هذه الأوهام، وكان من أعظم مظاهر الحرب ما تجلى من روح الإخلاص الإجماعي الحماسي في كل جزء من أجزاء الإمبراطورية تقريباً، وما ضحت به هذه الأجزاء من أنفس وأموال تقدمت بها الشعوب في أطراف الأرض عن رضا وطيب خاطر، فقد جندت كندا وزيلندة الجديدة وأستراليا جميع رجالها تقريباً. ولما تمردت طوائف البوير المشاكسة في جنوب أفريقية أخمد البوير أنفسهم هذا التمرد على الفور، ثم بذل الشعبان اللذان تتكون منهما تلك البلاد جهداً عظيماً في الاستيلاء على المستعمرات الألمانية، وأرسلا كتائب من بلادهما إلى خنادق فرنسا. وفي الهند سكن الاضطراب السياسي الذي كان منتشرا قبل الحرب وأرسلت منها إلى فرنسا وفلسطين والعراق والصين جيوش لم ترسل الهند مثلها من قبل إلى ميادين القتال، ولاح أن الحرب ومحنها أثبتت صلاحية نظام الإمبراطورية الحر الطليق على الرغم من تراخيه وقلة تماسكه. لكن ضخامة هذه التضحيات بدل موقف الإمبراطورية بازاء مشاكل الدفاع والسياسة الخارجية، وأحدث في بناء هذه الإمبراطورية تطورات غاية في الأهمية، فلم يعد في الإمكان بعدئذ أن تعالج هذه الأمور وكأنها لا تعني الأجزاء النائية من الإمبراطورية، بل كان لا بد من استشارة ممثليها بوسيلة من الوسائل إذا أريد أن تبقى هذه قائمة

وفضلا عن ذلك فقد شعرت الهند، وكان لا بد أن تشعر، أنها بعد أن اضطلعت في الحرب بهذا العمل الخطير قد قويت حجتها في أن يؤخذ رأيها عن طريق الموظفين البريطانيين الذين يديرون دولاب حكومتها، وأن يعترف بأنها وحدة قائمة بذاتها، وأن تتمتع بما يتمتع به غيرها من أجزاء الإمبراطورية من حقوق الاستقلال الداخلي؛ وبذلك كانت الحرب سبباً في تقوية الحركة القومية في الهند وفي غيرها من أجزاء الإمبراطورية

(البقية في العدد القادم)

محمد بدران