مجلة الرسالة/العدد 158/في النقد أيضا

مجلة الرسالة/العدد 158/في النقد أيضا

ملاحظات: بتاريخ: 13 - 07 - 1936


ً

للأستاذ محمد رفيق اللبابيدي

سيدي الأستاذ صاحب الرسالة

كنت أطمع، وكان القراء يطمعون معي أن نظفر بسلسلة متصلة الحلقات من ردود فحولة أدبائنا على ما عرضت له في (النقد المزيف)، وعلى ما عرض له الأستاذ أحمد أمين ومن جاء بعده؛ وكنا نود أن يكون لنا من هذا باب للولوج في بحوث أخرى تعيد الأدب رجْعه إلى أيام احتدام النهضة الأدبية فيثب بعض الوثوب بعد قعوده هذا القعود طوال عشر السنوات الأخيرة، وكأنا ذهبنا في أمانينا هذه بعيداً فلم يعدُ الكلام بضع كلمات شابها كثير من الألوان التي نشكو منها ويشكو منها أيضاً الأستاذ أحمد أمين. . .

وكاتب هذه الكلمة إليك - أو هذه الرسالة إلى صاحب الرسالة - من تعلم صغير جداً وضئيل، وليس له من القوة ما ينزل به في ميدان يصول فيه كبار الكتاب والأدباء؛ غير أنه ساير البعث الأدبي في مصر منذ حين طالباً فيها، وساير هذا الجمود في الأدب أستاذاً في معهد ثانوي بعيد عنها؛ وقد يرى البعيد ما لا يراه القريب. ونحن معشر القراء في خارج مصر أقدر على الحكم المجرد من العاطفة فيما هو جدير بالاحتفال به من آثار الأدباء والعلماء؛ ثم نحن أقدر على إلغاء المجاملة الأدبية فيما نكتبه وهي ما تعوده الكتاب بعضهم من بعض، يلبس كل منهم نقده لباساً من الأسلوب الصفيق لا تُرى من خلاله الحقيقة إلا كما ترى الشمس في يوم ماطر ملبد بالغيوم

ولست أدري، أو إني لا أحب أن أدري، السر في هذا الذي يغمر بيئتنا الأدبية من قواعد الكياسة في الحذر من إغضاب الأصدقاء والمقربين حين نعرض لنقدهم. فالكاتب يريد أن يقول كلمته، ولكن في لجلجة المشفق الفِرق، ويريد أن يجهر بما في نفسه، ولكنه يتورع أن يكون جريئاً، فقد يكون في الغد فيما يكون فيه سواه اليوم، وقد يقال فيه ما سيقوله هو في غيره، فهو واسع الحيلة يداور في إرضاء القراء والذين يعرض إلى نقدهم مداورة تحمله أن ينقد نقداً مجملاً فيه إمتاع بالفكرة التائهة والرأي الطائر، وذلك حسبه في نقده

والحق أني لو كنت كاتباً نابه الذكر، طائر الصيت، لربما كنت أشفق أن أقول إشفاق هؤلاء الكبار الفحول؛ وداؤنا في الشرق مستعص ما دام النقد شخصياً بعيداً عن المثل الأعلى؛ وهذا الضعف الخلقي في النقد إليه وحده يرجع - فيما نعتقد - سبب هذا الركود وهذا الجمود في أدبنا المقعد

وبعد فيا سيدي الأستاذ هل النقد بالمعنى الذي نراد عليه نحن معشر القراء - والقراء من فئة خاصة طبعاً - هو هذا اللون من تناول الكتاب أو البحث تناولاً صورياً والكتابة فيه مثل هذه الكلمات الضافية، فيها قدرة الكاتب وبراعته، وليس فيها علمه وعقله،؟؟ وهل النقد الأدبي هو هذا الذي نسيغه في صحافتنا كل يوم أو كل أسبوع من عجالات الكتاب وبحوثهم العابرة؟؟

وهل النقد هو هذا التقريظ الذي يتولاه كتابنا حين يدفع المؤلف أو الباحث إلى المطبعة كتابه أو مؤلفه فيخرجه بعد الجهد الجاهد في أيامه وأعوامه ليتولى الحكم فيه كاتب يقلب صفحاته بعض الساعة وقد لا يزيد؟.؟.

الحق يا سيدي الأستاذ أن ضعف النقد يرجع إذا أجملنا القول إلى:

1 - احتفال الناقد بشأن المنقود

2 - النقد العابر الصوري

وإن النقد في مصر - وهي سوق عكاظ العرب اليوم - لا يتجاوز هذين اللونين. والكتاب بين فريقين: فريق يتحامى المنقود، وفريق يجهل فضله فيقول ما لا وزن له ولا قيمة، فلا يعبأ بما يقوله القراء

ثم إن الطائل الذي يقع على كتاب مصر الفحول ومشيخة الأدب فيها عظيم جداً، فهم قادة مسئولون ورعاة مطالبون بتأدية رسالتهم الأدبية؛ والنقد بمقاييسه العلمية الصادقة يكشف المخبوء المتواضع من العبقريات المغمورة. وربَّ بحثٍ في صحيفةٍ وجّه الأدب وجهة قوية ودفعه إلى الغاية التي ينشدها هؤلاء العامة عليه دفعاً لا ازورار بين يديه ولا نكوص

ومتى كان لهذا النقد هذا الوزن فقال الناقد قوله لم يخطب به ودّ المنقود، ولم يتملق به عاطفة الجمهور، ولم يستلّ به سخيمة في نفسه، اختفت هذه العيوب التي نشكوها، وقويت الصراحة على هذا الضعف، وأحجم غير الأكفاء أن يلجوا بابه ويقتحموه ولوجهم له اليوم، وكان ما يدور بين الكتاب والأدباء والعلماء درساً من دروس عامة يفيد منها الجمهور وتفيد منها البيئة الأدبية، ثم كان هذا النقد أساساً صخرياً في بناء نهضتنا الأدبية في عصرنا الحاضر

هذا وحسبي يا سيدي الأستاذ أن أكون في كلمتي هذه قد بثثتك بعض ما يُحسُّ به كثير من القراء في الخارج، وقد يكون بعض ما يحسُّ به كثيرون في مصر؛ ورجاؤنا أن يتسع صدر (الرسالة) لمثل هذا النقد اتساعه للنواحي الأخرى التي نرى، وان تكون رسالتها سفارة الحقيقة المبسوطة بين الكتاب والقراء لا ترعى في ذلك غير ما تقتضيه إياها المقاييس الأدبية؛ والسلام على الأستاذ ورحمة الله وبركاته

محمد رفيق اللبابيدي