مجلة الرسالة/العدد 159/صوت الجبل

مجلة الرسالة/العدد 159/صوت الجبل

ملاحظات: بتاريخ: 20 - 07 - 1936



(مهداة إلى الأستاذ الزيات)

للأستاذ معروف الأرناءوط

(. . . لقد قال لها إن الجبل يناديني يا (سافو). . . ثم رفع

صوته قائلا: إن الله قريب مني وإني لأراه في هذا النور الذي

يطفو على (سيناء)! وفي هذا الفتون الذي يراق على بادية

التيه!)

قال (كريستيا) (لسافو) وقد اطرح الدير في الليلة الجوناء وهبط (وادي العربة) تاركا وراءه قنن جبل (حور): ناشدتك الله يا أخية أن تسمعني شيئا من حوار (أوديب) حينما اشتملت عليه جبال وطنه، فإنه ليروق لي وقد شابهت هجرتي هجرته وماثلت شجوني شجونه، وحاكت ليالي لياليه، أن استمع لجرسه الشجي في هذا الوادي المصحر. . . إنك لتتذكرين خروج هذا الملك في ذات ليلة إلى جبال (كولون) ومعه ابنته (أنتيغون) فلما أظلته السحب وأرزمت السماء وقعقعت تهافت على ابنته في رفق وحب وسألها أن تذكر له اسم الأرض التي وطئها وقال لها انه يحب أن يدفن آلامه ومتاعبه وذكرياته في المنفى، فطفقت (أنتيغون) تتحدث إليه عن وطنه الجديد، فرق وسكن ولطفت أحاديثها حزنه. نعم حدثيني يا (سافو) عن (أوديب) وعن (أنتيغون) فإنما أنا ذلك التعس (أوديب)، وأنت (أنتيغون) رفيقته في أرض المنفى، ولكن سافو كانت تفكر في (فروه ابن عمرو) وفي المعركة التي نهد إليها برجال حصدت نصفهم الحرب وما يستطيع الذين نجوا من غضب (قيصر) أن يستبقوا الحياة إلى ليل فلقد تتعاورهم الرماح والنبال والسيوف من كل ناحية ويمنعهم هذا الجيش الكثيف الرابض عند منافذ الأودية ومسارب الطرق من الإفلات. فتضيق بهم (سلع) ويضنيهم الحصار والطوى والبرد وانقطاع المدد:

لقد كانت تفكر في هذا كله ساعة أرادها الشاعر المثال على قراءة قصة (أوديب) الملك، فلما لم تسمعه صوتها تغنى بشعر (سفوكليس) وحسب نفسه وهو يطأ الجبل أنه ذلك التعس (أوديب) فقال بصوت شجي يشبه الرثاء:

أوديب

(انتيغون، يا ابنة ذلك الأعمى الشيخ، ناشدتك الله ألا ما حسرت لي عن هذا البلد الذي بلغنا نواحيه، وأي شعب هذا الذي نزلنا منازله، ومن هم جيرتنا في البلد النزح؟ في هذا اليوم يستجدي (أوديب) الهائم السادر الناس، فيعطيه هؤلاء عطاءا حقيراً، بلى لقد طلبت قليلاً وأعطيت يسيراً، وفي هذا غناء لي وكفاء، فقد علمتني الآلام والأهوال والمحن وتعاقب السنين ونفسي الصابرة، علمني كل أولئك الاستسلام والرضى، فهلمي يا بنية، هلمي إلي فلئن لمحت مقعداً في مكان رجس أو في غاب مقدس فقفي بي عنده وانزلي بي في أديمه، ثم لا يضيرني ولا يضيرك أن نمضي إلى الناس فنسألهم الطريق وفي أي موضع منه نحن؟ فإننا غرباء عن الديار ومن حقنا أن نسأل الغادي والرائح)

ولكن سافو لم تفعل ما فعلته (أنتيغون)، ولم تدله على المكان الذي نزل فيه فانثنى هامساً بمثل ما همست به (أنتيغون) في أذني أيها البائس:

أنتيغون

أوديب! أيها الوالد التعس، يا من أضماه الألم، وأذبله الداء! ليخيل إليَّ إن سور مدينة قد ارتسم في الأفق أمام عيوننا، وهذه الأرض التي تنزل فيها لا يزال عليها عبق من قداسة ونفاسة، يدلك على ذلك هذا الغار المتشابك وهذه الأدواح الظليلة، وهذه الينابيع الرقراقة، ثم هذه البلابل التي تغني في الغاب الوارف. اطو يا أبتاه قدميك فلعلك تستطيع الجلوس على هذا الصخر الوعر، فلقد طال شرودك، وامتدت المسافات بك، وأنت ذلك الشيخ الذي لا يستطيع إمعاناً في صعود وفي هبوط

أوديب

بلى، بلى، دعيني اجلس، واسهري على الأعمى العاثر الجد

وراح (كريستيا) جالساً على الصخر وقلبه يميد وجبينه يتندى عرقاً وعيناه ترعشان في كل ناحية من نواحي هذا الأفق المديد الفسيح؛ وجلست (سافو) بجواره وفي نفسها اثر من جراح نفسه، ثم لم تلبث أن رقت له رقة أليمة، وأخذت يده وقالت له: أتدرى أين مسكنك؟ قال لا، قالت في (وادي العربة) هذا الذي يفصل (البحر الميت) عن (خليج أيلة)

وكان قد أمضى بعض ليله على روابي جبل حور، فلما نزل فرع الوادي لم يشعر بالمسافات الطويلة التي خلفها وراءه ولم يفطن إلى ثوبه الذي مزقته الصخور والأدغال المتشابكة ولم ينتبه إلى الإعياء الذي تعاور (سافو) وكذلك ما كان يهمه أن يحتويه المكان الفارع، فلقد جلس على الصخر في سكينة ودعة، وجعل يقلب عينيه في الجبال التي تحيط بالسهل من الشرق إلى الغرب وقد خلعت على الوادي ظلاً شاحباً فبدا عميقا كأنه هوة من هوات الجحيم!

وكان من احب أمانيه أن يتعرف إلى طريق البحر الميت والأردن ليلحق بحسناته (بنيامينا) ويقضي ما تبقى من أيامه في الأرض التي نبت عنها الشهرة وأطرها المجد فما يردد نظراته في جنوب الوادي حتى يكرهه ويمله وحتى يعاف أن يحدق إليه، وذلك لأن في جنوب وادي العربة طريقا تدفع إلى خليج أيلة، إلى ذلك البحر الذي لا تفارقه سفن (هراقليوس) وفلكه ثم يحلق وهمه في طريق الشمال فتتمثل له الأرض منحدره هابطة إلى البحر الميت وإلى الأردن فيرق ويتشاجى ويذكر (بنيامينا) النازلة شواطئ النهر المقدس ثم يتلفت إلى (سافو) ليسألها أن ترافقه فيرى إليها نائمة حالمة فيمنعه حبه لها وبره بها أن يبتعثها على استفاقة تخرجها من أحلامها الهادئة ثم يعود فيستعرض وادي (العربة) من مكانه على الصخر، فإذا امتدت نظراته من الشمال إلى الشرق استبحر المكان أمامه وعرض له أخدود راعب يتساقط الماء على جوانبه من قلل جبل الشراة فيزعجه ويؤلمه أن ينبطح السيل في مفاجر الوادي ومرافضه فيضع يده على راس (سافو) النائمة الحالمة فتستفيق وتنهض وتدير لحاظها في تلك الأرجاء الفيحاء ثم لا تلبث أن تدرك مأساة حياتها، ويزيدها غماً ويأساً أن يلبس هذه المأساة هذا الحزن الذي يغشى جروف (العربة) وفلوجه ومسايله ومنحدراته، ولما أرادها (كريستيا) على اصطحابه في طريق البحر الميت لم تجد معدى عن مجاراته ومسايرته، فوقفت على الصخر ونظرت إلى الجنوب فإذا الطريق قد فرقت فروقاً عظيما حتى لتوشك أن تنتهي عند خليج (أيلة) فأخافها أن تمتد الطريق وتفيح، ثم نظرت كرة أخرى إلى الشمال فإذا الوادي يهبط إلى خيف لين رقيق ثم هو يزلق إلى الغور وقد كان عسيراً على الأخوين وقد برح بهما السير في الأخاديد والأغوار والهوات والأودية أن يستأنفا الرحلة في الأرض البراح، ومع هذا كله ما كانت (سافو) تستطيع أن ترده عن منازعه، فلما جاز الإخوان بعض الطريق وأوشك وادي (العربة) أن يتقلص ويغيب ترقرقت خيالة (سلع) في عيني (سافو) فذكرت زوجها الغطريف، وابتعثها التذكار على الوفاء له فقالت لأخيها:

- إنه ليجمل بك أن تدأب في سيرك حتى يطلع عليك (الأردن) أما أنا فلقد نذرت رجوعاً إلى (سلع) حيث الحق بزوجي الذي لم يترك سلاحه بعد!

وكانت لهجتها صريحة وصادقة، فلم يستطع (كريستيا) وهو الذي يعرف حبها لزوجها أن يعصى لها أمراً، فلحق بها إلى وادي (العربة) وكان لا ندحة لهما عن الرجوع معاً إلى جبل (حور) ثم ينحدران إلى الدير ويلحقان (بسلع)!

وبعد طوافٍ عنيفٍ في الأرض الغطشاء، فرع الشقيقان في جبل (حور) فنزلا بضلعه الشرقية وقدر لهما وهما على المرتفع الشاهق المطل على الطريق، أن يريا إلى وادي (العربة) الجميل وإلى صحراء (التيه) فوقف (كرستيا) خاشعاً أمام هذا المنظر الرائع حتى لقد جنب شعوره أن يحلق في عالم آخر. وكيف يستطيع إحساسه الثائر أن يحلق في عالم آخر، وهذه الأرض المقدسة من (سيناء) ترعش في نظراته وتطفو على جوارحه وتلهب ذكائه وتذكره بماضي هذه البطحاء التي استمعت إلى صوت الله وهو يتحدث إلى نبي!

خيل إلى (كريستيا) وقد وطئ كرة أخرى حضيض الجبل الملهم أن الدنيا طويت له واجتمعت عنده فأنّى تلفت تمثلت له قلل جبل الشراة الرفيعة يغمرها موج دافق من رواء المساء وبهاء السماء، وأنّى استقر أخذته المشاهد الموحشة وعليها من الروعة والجلال والتذكارات ما ليس يجده الشعر المهذب في خيال رواته وقائليه، بل لم يكن يستطيع وقد عرضت له (سيناء) وصحراء (التيه) وقيعان وادي (العربة) وجروفه أن ينزع من صدره صورة هذه الدنيا العبقة بعطر النبوة والوحي

ولما أوشك أن يرقى القنة التي عليها قبر (هارون) أرخى الشفق عليه ظلاله الساجية فاستراح بجوار القبر المقدس، ووقفت (سافو) حياله، فما فاتها وقد لصقت به أن تسمع صليل جوفه، وأن ترى إلى عينيه وقد غابتا في عقيق (سيناء)! في تلك الأثناء حفا البرق في الصحاري، وامتدت شعله وخيوطه على حواشي جبل (سيناء) حتى ضوأت قلله وقننه، وكشفت ربوده ومصاده وشعافه، وحسرت عن جروفه وفلوجه وغيرانه، ثم أضاء البرق ولمع، ثم أضاء ولمع، وتلت ذلك أصوات تشبه الهزيم، وترقرقت ألوان الشفق الحمراء في كل ناحية حتى اصبح الأفق وردة كالدهان، فخيل إلى الشاعر أن هذه الأطواد التي تجاوره وتصاقبه لا تريده على فراقها، وإنما هي تريده على أن يستشرق بهذا القبس الشاعل الذي تراءى لموسى النبي في البادية الغلفاء، فلصق بمكانه وقال (لسافو): انه يكره الرجوع إلى (سلع)، وإن من احب المنى إلى نفسه أن يموت وعيناه تنظران إلى أضواء هذا القبس الذي ترمي به قلل (سيناء) الرفيعة إلى الصحارى والبوادي

ومازال البرق يضيء ويلمع على روابي (سيناء)، ومازالت الأصوات الخفية تتغاير في الأفق على مدى بعيد، ومازالت ألوان الشفق الحمراء تتفجر هابطة صاعدة، وريح النعناع تفغم الخياشيم حتى أحس (كريستيا) قداسة هذه الأرض، فخلع نعليه وركع بجوار قبر (هارون) النبي مصلياً وداعياً، منتحباً وباكياً!

لقد قال لها إن الجبل يناديني يا (سافو)، وكل جارحة من جوارحي تقول لي لا يجمل بك أيها الشاعر أن تغمض عينيك على السحب الصادرة في (سلع)! ثم رفع صوته وانثنى قائلا: إن الله قريب مني، وإني لأراه في هذا النور الذي يطفو على (سيناء)، وفي هذا الفتون الذي يراق على بادية (التيه)، بل إني لأسمع صوته في قسطلة الماء عند سفوح جبل (حور). لم يعد في هذه الحياة التي أخذتني خطوبها وكوارثها ما أخافه، وما احرص عليه، فالمجد الذي جنبني طيفه في ميدان (سلع) حيث يقتتل الناس أما زلفى (لقيصر)، وأما زلفى (لفروة ابن عمرو)، قد تمثل لي أحد هذه القنن الرفيعة بألوانه وأنواره وطيوبه ونغماته، وروحه الساكن الوادع، وشبحه المضيء، وجرسه العذب؛ إنه ليخلع على جسمي الذي قرسه برد العشية دفء نفسه لأموت محترقاً في سناه، فذلك امثل من موت يزحمني ظله الصادر عند رواميس (سلع)! ولان تحتويني هذه الأرض المقدسة افضل من أن تحتويني هذه الأرض التي لا تعرف القداسة!

وعبثاً كانت تصده عن ميوله ومطامعه، فلقد احب أن يموت على جبل (حور) كما مات موسى النبي، وكما مات هارون النبي، ثم هو إلى ذلك شاعر يحب فنه وما يليق بالشاعر أن يموت في الأرض التي لا تتصدع فيها السحب والبروق، ولا يزهر على حواشيها الآس والنعناع والورد

وانهما ليتحاوران ويتساجلان في غير جدوى ولا طائل، إذ حملت أعراف الليلة الساجية ترجيع الأبواق في وادي (سلع) فرجفا معاً. وقالت (سافو): إنها أبواق (فروة) يا (كرستينا)، وانه المنتصر على (هراقليوس). ناشدتك الله أن تمضي معي أو تبقى لوحدك على هذه القنن

ورأى المسكين وقد اذكره صوت البوق حاضره أن يلحق بها، ولكنه لم يكد يبرح مكانه حتى حفت البروق وتوامضت على مدى واسع فبانت له كرة أخرى جبال (سيناء) وصحراء (التيه) فألاعته الأضواء الغامرة وأحرقت أحلامه، فوقر في ذهنه أن يبقى في جبل (حور) طوال ليله فلا يفارقه ولا يخفره ولا يمل الطواف بشغافه ورعانه، ولا يسأم الهبوط إلى حضيضه وسفحه، نعم انه مريض وإنه مُدْنف وإنه ذلك المنفى الذي يقبس أغانيه من نفس عامرة بالألم زاخرة بالشجن، ولكنه على مرضه ودنفه كان يلذ أعراف هذه الأماكن المقدسة ويرى فيها العافية التي يشتاقها ويحب أن يغني أغانيه في هذه الأصلاد بصوت الشاعر الملهم لتسمعها روابي (سيناء) كما سمعت صوت النبي الملهم؛ وكان يشعر بقرب النهاية فنازعه شعوره إلى المكوث في هذه الأرض حتى يأخذ الله وديعته فيرقد رقاده الأبدي في شعفة تطل على (الأردن) وعلى (حرمون) وعلى (بيت المقدس)!

لقد باح بخواطره، وقال لها إن في (سلع) مكاناً للبطولة الرائعة، وليست تعرف فيه ذلك البطل المقارع فمن حقه أن يجد مكانه على الربى الشم حيث تترقرق أضواء السماء، وحيث ذكاء الشاعر يبحث عن السنى والسناء! فلما سمعت قوله لم تأنف أن تطرحه في الجبل فتولت عنه وتدفقت في سيرها تحت ضياء الكواكب، ومازالت تمعن في الهبوط حتى استقبلت السفح ووارتها عن عيني (كريستيا) فجاج وشعاب

وقلب عينيه في هذه الأرجاء الفيحاء، فإذا هو وحده على الشعفة السامقة يحيط به عالم تطفو على حواشيه أشباح وأرواح، وتجري في سمائه كواكب متقاربة متباعدة، وتنوح على أطرافه وجنباته ريح ذات هدير وصليل، وتخرج من جروفه وغيرانه أصوات كأنها عزيف الجن، يضاف إلى هذه المشاهد الراعبة قبس يخطف على سيناء في أقصى الأفق!

لقد روعته العزلة فتمايد وتمايل، وخيل إليه أن بهذه النجوم الدانية من القلل والقنن عيونا تنظر إليه، ففغر فمه وبرق بصره، ثم تساقطت الشهب في الأبعاد النائية كأنها الحريق الشاعل. فغشيته ذهلة أليمة، وخيل إليه أن السماء قد ألقت إليه بنارها ودخانها فجفا مكانه على القبر وطفق ينادي: (سافو)! لك الله يا أخية أين أنت؟

وهام على وجهه فما ينحدر من رابية حتى يغيب في أخدود ضيق، فإذا حسر الأخدود عنه أمسى في غار مظلم، فإذا أوغل في ظلمة الغار تساقط الماء على ثوبه من صدوع في الصخر النابي فتندى وقَرَسهُ البرد، ثم يخرج من الغار فإذا هو بعد طوفة جاهدة عند سفح الجبل وإذا (سافو) لا تزال على السفح كأنها كانت تتوقع أن تضجره العزلة وتخيفه الوحدة فيأنس إلى إلحاق بها

ورأت (سافو) إليه تحت ضياء العشية فنادته بصوتها الرقيق الناعم: إني أخاف عليك برد الجبال فهلم فاتبعني إلى (سلع) فلعلك تجد عندها ذلك القبس الذي يضرم شعورك

وكان الانحدار إلى (البتراء) سائغا ولذيذا فأحوتهما معاً طريق قديمة نقرت في الجلامد فأوغلا فيها، وأظلتهما حجارتها، الناعمة الملساء، وتراءت لهما في اليمين وفي الشمال أسوار حمراء بلون العقيق، ولكنها أسوار عظيمة لم تتحيفها غلظة ولم تتخللها قرون وشعف، فجازا الطريق إلى الوادي وطلعت عليهما غيران ضيقة ولكنها قصيرة، ثم إذا هما يخرجان إلى طريق تدفع إلى دغل تكاثفت على حضيضه النباتات فسلخا في اجتيازها ساعتين ثم طلعت عليهما قبور (سلع) الأولى

ولم تكن سلع قد أطلت عليهما بعد، فلقد وارتها حوائط من الحجر الصلد فارتدا إلى ناحية الشمال وفزعا إلى الجانب المظلم من صخور لا تضيئها أنوار المساء، ورأيا إلى القبور المحفورة وقد تراكب بعضها فوق بعض وفتحت أشداقها وحسرت عن ثقوبها فأخذتهما أشعة خفيفة تزلق إليهما من الجبال، وسحرهما أطلال هذا المشهد بعد تلك السياحة الكامدة فأحسا الحياة وطفقا يتأملان معاً في هذه المدافن المعلقة بين السماء والغبراء، وسرهما أن يتعرفا الديار والرسوم والأطلال، ولذهما أن خيالة (سلع) عادت تطوف بصدريهما الراعشين في أعماق هذا الجرف الذي تحميه من كل نواحيه أطواد وأصلاد تنام مدينة (سلع) عن كثب من أطلالها وقصورها وخرائبها وينبوعها الثر!

جلس (كريستيا) على عمود رخامي كان جاثماً على الأرض، فجلست (سافو) حياله وطفقا معاً ينظران في ذهلة إلى هذه الروائع الفواتن يحفهما صمت ويغشهما سكون، ويخترق آذانهما هدير الماء ودفعه على الأصنام المتداعية والعمد المنهارة في ظل ظليل من أشجار الغار الواشجة

لم يجرؤ (كريستيا) على الهمس فلقد أمالته الصور البارعة إلى غرق وأنسته ذلك الألم الذي تحيفه خلال طوافه بقنن جبل (حور) ونزوله إلى حدور وادي (العربة) بل لقد ألهته قسطلة الماء في الصعيد المهجور عن أولئك الناس الذين نفروا إلى قتال (قيصر) تحت لواء (فروة بن عمرو) فما عادت صورهم تمر بصدره، وكذلك كان شأن (سافو) فلقد غرقت مثل غرقه وسبحت مثل سبحه، وأنستها هذه الظلال الندية الرخية تلك الثورة التي عصفت بنفسها الرقيقة في ذلك الوادي الذي تتلاقى عند قيعانه وكثبانه طرق (أيلة) والبحر الراعب، فأية فتنة هذه التي هدهدت التياع الملتاعين وحملت إلى النفوس الضارعة بعض العزاء التي تحبه وتأنس إليه

هذه الرائعة ما كانت تعدو ماضي (سلع) ففي هذه الدمن التي يغنيها الماء الدافق الهادر غناءه الشجي من أبعد عصور التاريخ لا تستطيع النفوس الكامدة أن تستبقي حزنها إلى الأبد، إذ لا معدى لها عن استمراء الوحدة والإصغاء إلى حديث حياة منقرضة وإذ هي محمولة على الشرود في جلال الموت وفي روعة السماء

معروف الارناءوط

عضو المجمع العلمي العربي