مجلة الرسالة/العدد 162/أندلسيات

مجلة الرسالة/العدد 162/أندلسيات

ملاحظات: بتاريخ: 10 - 08 - 1936



أبو بكر بن العربي

للأستاذ عبد الرحمن البرقوقي

أسلفنا أن المترجم له قدم الأندلس من رحلته بعلم كثير، واتخذ بلده أشبيلية مقاما له، وأخذ يذيع علمه، وجلس للوعظ والتفسير والإفادة، ورُحِل إليه للسماع، وصنف في غير فن تصانيف كثيرة حسنة ضخمة، حتى يروى أنه ألف أربعين مؤلفا في موضوعات شتى فُقِد معظمها، ذكروا منها كتاب العواصم والقواصم، والمحصول في أصول الفقه، وكتاب المسالك في شرح موطأ الإمام مالك، وكتاب الناسخ والمنسوخ، وكتاب أنوار الفجر في تفسير القرآن، قالوا إنه ثمانون ألف ورقة في ثمانين مجلدا، وكتاب عارضة الأحوذي على كتاب الترمذي الخ ولمناسبة كتابه أنوار الفجر في التفسير نورد كلمة له قالها عند تفسير قوله تعالى: (إنْفِروُا خِفَافا وثِقاَلاً)، تدل على أنه كان إماما طليقا واسع آفاق الفكر عصريا كما نعبر اليوم. . . وهي هذه: (ولقد نزل بنا العدو - الأسبانيون - قصمه الله سنة 527، فجاس ديارنا وأسر جيرتنا، وتوسط بلادنا في عدد حدّد الناس عدده، وكان كثيرا وإن لم يبلغ ما حددوه، فقلت للوالي والمولى عليه: هذا عدو الله قد حصل في الشرك والشبكة، فلتكن عندكم بركة، ولتكن منكم إلى نصرة الدين المتعينة عليكم حركة، فليخرج إليه جميع الناس حتى لا يبقى منهم أحد في جميع الأقطار فيحاط بهم فإنه هالك لا محالة إن يسركم الله له، فغلبت الذنوب، ورجفت بالمعاصي القلوب، وصار كل أحد من الناس ثعلبا يأوي إلى وجاره، وإن رأى المكيدة بجاره، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وحسبنا الله ونعم الوكيل. .) وقد أسند إلى المترحم له قضاء بلده. قال تلميذه القاضي عياض: فنفع الله به أهلها لصرامته وشدته ونفوذ أحكامه، وكانت له في الظالمين سورة مرهوبة، وتؤثر عنه في قضائه أحكام غريبة، ثم صرف عن القضاء، وأقبل على نشر العلم وبثه. . .

تلاميذه

وقد تتلمذ للمترجم له عدة ممن تخرجوا عليه وكان لهم شأن يذكر، فمنهم القاضي عياض صاحب الشفاء، وسنترجم له إن شاء الله - ومنهم الإمام الحافظ ابن بشكوال صاحب كتاب الصلة وخلافه، ومنهم الإمام السهيلي صاحب كتاب الروض الأُنف في شرح سيرة رسول الله وغيره من التواليف، وصاحب هذه الأبيات المشهورة التي أنشدها للإمام الحافظ أبي الخطاب بن دحية وقال له: ما سأل الله تعالى بها حاجة إلا أعطاه إياها، وكذلك من استعمل إنشادها، وهن:

يا من يرى ما في الضمير ويسمع ... أنت المُعَدُّ لكل ما يتوقع

يا من يُرجّى في الشدائد كلها ... يا من إليه المُشْتكى والمفزع

يا من خزائن رزقه في قول كن ... أُمْننْ فإن الخير عندك أجمع

ما لي سوى فقري إليك وسيلة ... فبالافتقار إليك فقريَ أمنع

ما لي سوى قرعي لبابك حيلة ... فلئن رُددتُ فأي باب أقرع

ومن الذي أدعو وأهتف باسمه ... إن كان خيرك عن فقيرك يمنع

حاشا لمجدك أن تقنط عاصياً ... الفضل أجزل والمواهب أوسع

أقوال مؤرخي الأندلس فيه

وإليك نتفاً مقتطفة مما قاله في حق المترجم له مؤرخو الأندلس ممن عاصره وتتلمذ له. قال الحافظ بن بشكوال في كتابه الصلة: هو الحافظ المستبحر، ختام علماء الأندلس وآخر أئمتها وحفاظها. . كان من أهل التفنن في العلوم والاستبحار فيها والجمع لها مقدماً في المعارف كلها، متكلما في أنواعها، نافذاً في جميعها، حريصاً على أدائها ونشرها، ثاقب الذهن في تمييز الصواب منها، يجمع إلى ذلك كله آداب الأخلاق مع حسن المعاشرة ولين الكنف وكثرة الاحتمال وكرم النفس وحسن العهد وثبات الود الخ الخ وقال أبو نصر الفتح بن خاقان صاحب المطمح والقلائد:

الفقيه الحافظ أبو بكر بن العربي علم الأعلام الطاهر الأثواب، الباهر الألباب الذي أنسى ذكاء إياس، وترك التقليد للقياس، وأنتج الفرع من الأصل، وغدا في بدء الإسلام أمضى من النصل، سقى الله به الأندلس بعدما أجدبت من المعارف، ومد عليها منه الظل الوارف، وكساها رونق نبله، وسقاها ريق وبله. وكان أبو محمد باشبيلية بدرا في فلكها، وصدرا في مجلس ملكها، واصطفاه معتمد بني عباس اصطفاء المأمون لابن أبي دؤاد، وولاه الولايات الشريفة، وبوأه المراتب المنيفة؛ فلما أقفرت حمص (يريد أشبيلية) من ملكهم وخلت، وألْقتهم منها وتخلت، رحل به إلى المشرق، وحل فيه محل الخائف الفرق، فجال في أكنافه، وأجال فيها قداح الرجاء في استقبال العز واستئنافه، فلم يستردّ ذاهباً، ولم يجد كمعتمده باذلاً له وواهباً، فعاد إلى الرواية والسماع، وأبو بكر إذ ذاك في ثرى الذكاء قضيب ما دوّح، وفي روض الشباب زهر ما صوّح، فألزمه مجالس العلم رائحاً وغادياً، ولازمه سائقاً إليه وحادياً، حتى استقرت به مجالسه، واطردت له مقايسه، فجد في طلبه، واستجدبه أبوه متمزق أربه، ثم أدركه حمامه، ووارته هناك رجامه، وبقي أبو بكر منفرد، وللطلب متجرداً، حتى أصبح في العلم وحيداً، ولم تجد عنه رياسته محيداً، فكَرّ إلى الأندلس فحلها والنفوس إليه متطلعة، ولأنبائه متسمعة، فناهيك من حظوة لقى، ومن عزة سقى، ومن رفعة سما إليها ورقى، وحسبك من مفاخر قلدها، ومحاسن أنس أثبتها فيها وخلدها، الخ الخ. . وقد وصفه القاضي عياض بما أوردنا بعضه عن حاله في القضاء، وفي هذا القدْرِ غناء. .

مقتطفات من منظومه ومنثوره

وأظنك لا تجهل أن أكثر علماء الأندلس وفلاسفتها وسائلا مثقفيها يقرضون الشعر، وقلّ أن تظفر بأندلسي لا يقول الشعر، ومن ثم لا تستغرب أن يكون مثل القاضي أبي بكر بن العربي شاعراً وشاعراً ظريفاً. . . فمن شعره وقد ركب مع أحد الأمراء الملثمين، وكان ذلك الأمير صغيراً، فهزّ عليه رمحاً كان في يده مداعباً، فقال:

يهزّ عليّ الرمح ظبي مهفهف ... لعوب بألباب البرية عابث

ولو كان رمحاً واحداً لاتقيته ... ولكنه رمح وثان وثالث

ولعل الرمح الثاني والثالث القد واللحظ. . ومن بديع شعره:

أتتني تؤنبني بالبكا ... فأهلاً بها وبتأنيبه

تقول وفي نفسها حسرة ... أتبكي بعين تراني بها

فقلت إذا استحسنت غيركم ... أمرت جفوني بتعذيبها

وحكى رحمه الله قال: دخل على الأديب بن صارة - وهذا ابن سارة أو صارة شاعر فحل من شعراء الأندلس - وبين يدي نار عليها رماد، فقلت له: قل في هذه، فقال:

شابت نواصي النار بعد سوادها ... وتسترت عنا بثوب رماد

ثم قال لي أجزْ، فقلت: شابت كما شبنا وزال شبابنا ... فكأنما كنا على ميعاد

ويروى أنه كتب كتاباً فأشار عليه أحد من حضر أن يذرْ عليه نشارة، فقال قف، ثم فكر ساعة، وقال اكتب:

لا تشنه بما تذرّ عليه ... فكفاه هبوب هذا الهواء

فكأن الذي تدرّ عليه ... جُدَري بوجنة حسناء

ومن شعره:

ليت شعري هل دروا ... أي قلب ملكوا

وفؤادي لو درى ... أي شِعب سلكوا

أتراهم سلموا ... أو تراهم هلكوا

حار أرباب الهوى ... في الهوى وارتبكوا

وشعر هذا القاضي الجليل كثير جميل يدل على صفاء نفس وحِسّ مرهف وقريحة خصبة مواتية. ونكتفي بهذا القدر ونورد هنا بعض فوائد هن فرائد لهذا الإمام العظيم ذكرها في رحلته وغيرها وأوردها المقري. فمن هذه الفرائد قوله: سمعت الشيخ فخر الإسلام أبا بكر الشاشي، وهو ينتصر لمذهب أبي حنيفة في مجلس النظر يقول: يقال في اللغة العربية لا تَقْرَبْ كذا بفتح الراء، أي لا تلتبس بالفعل. وإذا كان بضم الراء كان معناه لا تدن من الموضع. . وهذا الذي قاله صحيح مسموع. . . ومنها ما نقله عن ابن عباس رضي الله عنه: لا يقل أحدكم انصرفنا من الصلاة فإن قوما قيل فيهم ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم؛ وقد أخبرنا محمد بن عبد الملك القيسي الواعظ، أخبرنا أبو الفضل الجوهري سماعا منه: كنا في جنازة فقال المنذر بها: انصرفوا رحمكم الله. فقال: لا يقل أحدكم انصرفوا، فإن الله قال في قوم ذمهم، ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم، ولكن قولوا انقلبوا رحمكم الله فإن الله تعالى قال في قوم مدحهم: فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء. . . ومنها قوله في تصريف المحصنات: يقال أحصن الرجل فهو مُحصَن بفتح الصاد في اسم الفاعل وأسهب في الكلام فهو مسهَب - بفتح الهاء - إذا أطال البحث فيه وألْفَج فهو مُلْفَج إذا كان معدما - فقيراً - فهذه الثلاثة جاءت بالفتح نوادر لا رابع لها. . ومنها قوله: سمعت إمام الحنابلة بمدينة السلام - بغداد - أبا الوفاء علي بن عقيل يقول: إنما تبع الولد الأم في المالية وصار بحكمها في الرق والعبودية لأنه انفصل عن الأب نطفة لا قيمة له ولا مالية فيه ولا منفعة مبثوثة عليه، وإنما اكتسب ما اكتسب بها ومنها فلذلك تبعها، كما لو أكل رجل تمراً في أرض رجل وسقطت منه نواةٌ في الأرض من يد الآكل فصارت نخلة فإنها ملك صاحب الأرض دون الآكل بإجماع من الأمة لأنها انفصلت عن الآكل ولا قيمة لها، وهذا من البدائع. . ومنها قوله: كان بمدينة السلام إمام من الصوفية وأيُ إمام يعرف بابن عطاء، فتكلم يوما على يوسف وأخباره حتى ذكر تبرئته مما ينسب إليه من مكروه، فقام رجل من آخر مجلسه وهو مشحون بالخليقة من كل طائفة، فقال: يا شيخ، يا سيدنا، إذن يوسف همّ وما تمّ، فقال: نعم لأن العناية من ثم. . . فانظروا إلى حلاوة العالم والمتعلم، وفطنة العامي في سؤاله، والعلم في اختصاره واستيفائه؛ ولذا قال علماؤنا الصوفية إن فائدة قوله تعالى: ولما بلغ اشده آتيناه حكماً وعلماً أن الله أعطاه العلم والحكمة أيام غلبة الشهوة ليكون له سبباً للعصمة. . . ومنها قوله: تذاكرت بالمسجد الأقصى مع شيخنا أبي بكر الفهري الطرطوشي حديث أبي ثعلبة المرفوع: إن من ورائكم أياماً للعامل فيها أجر خمسين منكم. فقال: بل منهم. فقال: بل منكم، لأنكم تجدون على الخير أعواناً وهم لا يجدون عليه أعواناً. . . وتفاوضنا كيف يكون أجر من يأتي من الأمة أضعاف أجر الصحابة مع أنهم أسسوا الإسلام، وعضدوا الدين، أقاموا المنار، وافتتحوا الأمصار، وحموا البيضة، ومهدوا الملة، وقد قال في الصحيح: لو أنفق أحدكم كل يوم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه. . فتراجعنا القول وتحصل ما أوضحناه في شرح الصحيح، وخلاصته: أن الصحابة رضي الله عنهم كانت لهم أعمال كثيرة لا يلحقهم فيها أحد ولا يدانيهم فيها بشر، وأعمال سواها من فروع الدين يساويهم فيها في الأجر من أخلص إخلاصهم، وخلَّصها من شوائب البدع والرياء بعدهم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باب عظيم هو ابتداء الدين والإسلام، وهو أيضاً انتهاؤه. وقد كان قليلاً في ابتداء الإسلام صعب المرام لغلبة الكفار على الحق، وفي آخر الزمان يعود كذلك لوعد الصادق بفساد الزمان وظهور الفتن وغلبة الباطل، واستيلاء التبديل والتغيير على الحق من الخلق، وركوب من يأتي سنن من مضى من أهل الكتاب كما قال : لتركَبُنَّ سَنن مَن قبلكم شبرا بشبر وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جُحْر ضب خرب لدخلتموه. . .

وقال : بدا الإسلام غريبا، وسيعود غريباً كما بدا. . . فلابد والله أعلم بحكم هذا الوعد الصادق من أن يرجع الإسلام إلى واحد كما بدأ من واحد، ويضعف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى إذا قام به قائم مع احتواشه بالمخاوف وباع نفسه من الله تعالى في الدعاء إليه كان له من الأجر أضعاف ما كان لمن كان متمكنا منه معاناَ عليه بكثرة الدعاة إلى الله تعالى، وذلك قوله: لأنكم تجدون على الخير أعواناّ وهم لا يجدون عليه أعوانا حتى ينقطع ذلك انقطاعاً باتا لضعف اليقين وقلة الدين، كما قال : لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض: الله الله. . يروى بفتح الهاء ورفعها، ورفع على معنى لا يبقى موحد يذكر الله عز وجل، والنصب على معنى لا يبقى آمر بمعروف ولا ناه عن منكر يقول أخاف الله، وحينئذ يتمنى العاقل الموت كما قال لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيقول: يا ليتني كنت مكانه. . . .

(وأما بعد)، فهذا هو تاريخ القاضي أبي بكر بن العربي، سردناه لك في أخصر قول وأجزأ اختصار؛ وحسبك من القلادة ما أحاط بالعنق. ومن هذه الترجمة تتبين منزلة هذا الإمام والمكان الذي يشغله بين علماء الإسلام، وأنه كان إلى فقهه في الدين كأكثر السلف الصالح أديبا كاتبا شاعراً فصيحا كثير الملح مليح المجلس وهكذا كان أكثر علماء الأندلس

وقد كانت وفاة هذا الإمام سنة 543. وقال القاضي عياض: وتوفي منصرفه من مراكش من الوجهة التي توجه فيها مع أهل بلده إلى الحضرة بعد دخول الموحدين مدينة أشبيلية، فحبسوا بمراكش نحو عام ثم سرحوا، فأدركته منيته ودفن بفاس وقبره هنالك مقصود رحمة الله عليه.

عبد الرحمن البرقوقي

رئيس قلم المراجعة بمجلس النواب