مجلة الرسالة/العدد 162/شعراء الموسم في الميزان

مجلة الرسالة/العدد 162/شعراء الموسم في الميزان

مجلة الرسالة - العدد 162
شعراء الموسم في الميزان
ملاحظات: بتاريخ: 10 - 08 - 1936



نقد وتحليل

للأديب عباس حسان خضر

- 4 -

ميلاد الرسول

كانت هذه القصيدة من أقوى العمد التي قام عليها نجاح الموسم، وقد عرف الأستاذ محمد الأسمر كيف يحكم فيها الصلة بين وجدانه ووجدان المستمعين باختيار الموضوع، وحسن الالقاء، وبراعة التأدية. وإذا كانت الطبيعة الشعرية خصبة، وكان التعبير عما تنتجه، وتوصيل هذا التعبير إلى (مستهلكي) الشعر جيدين، فقد بلغ الشاعر ما يرمي إليه من غرض الإجادة. فما حظ هذه القصيدة من ذلك؟ إليك منها في وصف يوم ميلاد الرسول:

يوم أغر كفاك منه أنه ... يوم كأن الدهر فيه تجمعا

ويكاد غابر كل يوم قبله ... يثني إليه جيده متطلعا

فلو استطاع لكر من أحقابه ... وثبا على هام السنين ليرجعا

ويكاد مقبل كل يوم بعده ... ينسل من خلف الزمان ليسرعا

فلو استطاع لجاء قبل أوانه ... وانساب يخترق السنين وأتلعا

تتنافس الأيام في الشرف الذي ... ملأ الوجود فلم يغادر إصبعا

فانظر كيف يمثل الزمان في ركب يبرز في وسطه يوم الميلاد كأنما هو المقصود من الدهر كله، فالأيام قبله تتطلع إليه وتود الرجوع إليه، والأيام المقبلة توشك أن تفلت من نظام الركب لتسرع اليه، وكلها تتنافس لنيل شرف الميلاد النبوي، ومجمع هذه المعاني قوله: (كأن الدهر فيه تجمعا) فهذا التعبير في تفرعه إلى تلك المعاني يشبه مقذوف النور الذي ينبعث في الجو على شكل شرارة مقتضبة، فلا يلبث أن ينبسط متفرعا إلى شجرات أو طائرات أو غير ذلك، وهكذا يكون في المولد النبوي!

فهذه الطبيعة التي تنتج هذا الخيال، هي - ولا شك - صالحة لإنتاج الشعر الذي تتم جودته بمثل ذلك التبيين الذي يزاوله ومن أبيات القصيدة التي لا تصدر إلا عن طبيعة فنية قوله:

والحق أخفى ما يكون مجردا ... وتراه أوضح ما يكون مدرعا

بعد أن تنظر إلى التركيب من حيث تأديته للمعنى التأدية العادية، قف عند كلمة (أوضح) فهي بعد أن تعبر عن وضوح الحق والانصياع له إذا كانت تلابسه القوة، تومئ إيماءة لطيفة إلى وضوح الحق ملبساً بالدروع الملتمعة

وقوله معبراً عن زوال ملك فارس والروم بالفتح الإسلامي:

من لم تزعزعه العواصف قبلها ... بعثت له بنسيمها فتزعزعا

فقد صور الشاعر روح الشريعة السمحة وما تشمله من لطف ورقة بالنسيم، ولكنه أوضح أن النسيم الإسلامي كان قوياً في لطفه ورقته قوة زعزعت ما تقاصرت عنه عاتية العواصف

والأستاذ الأسمر يسوق المعاني في الألفاظ، فتطربك من ذلك وحدة مركبة، وهذا قوله في مطلع القصيدة:

فجر أطل على الوجود فأطلعا ... شمسين شمس سنا وشمس هدى معا

ظلت مطالع كل شمس لا ترى ... من بعده شيئاً كمكة موضعا

قبس من الرحمن لاح فلم يدع ... لألاؤه فوق البسيطة موضعا

فليس من الميسور الفصل بين جمال هذه المعاني وجمال قوالبها

ومن الغريب أن القصيدة مع تجاوز معظمها أصل الموضوع وهو ميلاد الرسول قد جاءت وحدة منسجمة، فقد تخلص الشاعر - بعد نحو ثلث القصيدة - من القول في ميلاد الرسول إلى الإفاضة في الدعوة الإسلامية ومدح الرسول: فذلك الخير الذي أصاب الناس بميلاده، والسنا الذي أزاح الله به الظلمات قد

وافى وليل الجاهلية مطبق ... فإنجاب عن جنباتها وتقشعا

ومن هنا ينقطع الحديث عن الميلاد الذي هو موضوع القصيدة، ويشغل معظمها مدح الرسول والإشادة بدعوته؛ ولكن ما غاية الميلاد؟ أليست وجود هذا الرسول العظيم، وأثر دعوته للناس إلى الهدى؟ قد يقال هذا، وقد تكون عليه مسحة من الوجاهة، ولكن كان ينبغي أن يكون أكثر القصيدة في أصل الموضوع. ولن يخدعنا الشاعر عن ذلك بصنعته في جمع الشتات والتأليف بين الأجزاء

وفي القصيدة كثير من المعاني المطروقة التي اعتورها جمهور الشعراء قديماً وحديثاً، حتى أصبحت (منافع عامة) كقوله:

نادى إلى الحسنى فلما أعرضوا ... واستكبروا شرع الرماح فأسمعا

والحق أعزل لا يروع فإن بدا ... مستلئما لاقى الطغاة فروعا

وقوله:

بعض الأنام إذا رأى نور الهدى ... عرف الطريق، ولم يضل المهيعا

ومن البرية معشر لا ينتهي ... عن غيه حتى يخاف ويفزعا

التجديد والتقليد

الأستاذ محمد الهراوي على رأس المحافظين من الشعراء، فهو يسخر من دعوة التجديد، ويعلن هذه السخرية في هذه القصيدة. على أنه يجب أن ينصف نفسه، فما أظنه يكره التجديد في ذاته، وإن كان يحمل على أدعياء الجديد الذين يسترون سخفهم بدعوى التجديد. . ولما كان هؤلاء قد ملأوا الجو بصيحاتهم الجوفاء، فقد أصبح التجديد في نظر الشعراء كلمة مقرونة بذلك السخف، وأصبح السخف من مدلولات التجديد! والحق أن التجديد مظلوم بين هؤلاء وهؤلاء. ويشير الأستاذ الهراوي إلى ريبته في الجديد بقوله:

يا قادة الرأي الجديد تحية ... لو صح زعمكمو، وألف سلام

فهو يرتاب في زعمهم أنهم مجددون، وأنهم قادة الرأي الجديد. وهو في القصيدة كلها يفند دعاواهم في التجديد، ويردها إلى تقليد الغربيين: فالقصص ليست جديدة، فأسواق الغرب مزدحمة بها، على أن مهد القصة هو الشرق، وهذه قصص ألف ليلة وليلة والشهنامة قد نشأت فيه، وهذا القرآن زاخر بالقصص السامية

وملاحم اليونان أهي جديدة ... وحديثها من قبل ألفي عام

أتعيد ثرثرة الحديث مجدداً ... ونرده لخرافة الأصنام

ثم جعل الأستاذ الهراوي يتهكم على تعبيرات (المجددين) بقوله:

فتقول: (في اثنين يوم) مثلهم ... لا (في مدى يومين في الأيام)

وتقول: (مثل الثلج غرة وجهه) ... لا (مثل وجه البدر حين تمام) وتقول: (مثل الأرز مبسم ثغرها) ... لا (الدر في نسق وحسن نظام)

وتقول: (أوكازيون) يا من يشتري ... وتقول: هذا السعر (للركلام)

وفي هذه الأبيات ركاكة مرجعها العبارات التي يحكيها عن (المجددين) فالإسفاف في الأصل، وناقل الإسفاف ليس بمسف، والشاعر يهجو بهذه الأبيات صنيع المجددين؛ ويقولون: (إذا هجوت فأضحك) فهو ينحو فيها منحى الفكاهة، وهذا المنحى يقتضي التبذل في التعبير. واستمع إلى ما قاله بعد ذلك، وقد جد الجد:

أنكرتمو الأعلام في أوطانكم ... في ذكر ما للغرب من أعلام

فكأنما الغربي في آدابه ... هو وحده المختص بالأحكام

ماذا من التجديد في تقليدهم ... غير الرجوع لأظلم الأيام

لم يضربوا مثلاً لنا من صنعهم ... بكراً ولا جاءوا برمية رام

لقطوا فتات الأجنبي وأقبلوا ... يتلمظون لنا بشبه طعام

ورموا بما التقطوا كأنا عندهم ... قطط الموائد تكتفي بعظام

هذا هو (الكلام الجد) يقوله (زعيم المحافظين)

إلى هنا ينتهي شأن الشاعر مع المجددين، ويبتدئ مع النقاد شأناً آخر، فيقول:

مالي وللنقاد أسمع رأيهم ... ما قادني عقلي إلى الأوهام

لي خطة وحدي وملء عقيدتي ... رأيي وعقلي رائدي وإمامي

وطني هو المملي عليّ قصائدي ... جددا وشعري لوحة الرسام

فكيف لا يسمع رأي النقاد؟ وهل خطة الشاعر ورأيه وعقله وإملاء وطنه عليه قصائده - هل هذه الأشياء تمنع من سماع رأي النقاد؟

وطني

قبل أن أسطر هذه الكلمات محوت كلمات وسطوراً، إذ أنني عند ما شرعت أكتب عن هذه القصيدة شككت في كل كلمة كتبتها، فأنا أريد فيما أكتبه عن هذه القصيدة خاصة أن أطبق المفصل، كما يقولون، فليس ينبغي إلا أن يقال عنها مثل ما قيل فيها. . ولعل هذا إيحاء من القصيدة وما صنعه فيها الأستاذ محمد الهيهاوي من الدقة والتجويد، وليس هذا كل ما صنعه، وليس هو فحسب الذي أوحى إلى المهابة، إن الذي أوحى إلى المهابة هو ما أُوحىَ إلى الشاعر من المعاني السامية والروائع الوطنية التي ضمنها القصيدة، والتي ألهمته إياها مصر، كما قال:

أبدا يلج بك الحني ... ن لذات ملهمة الحنين

فجعل يبعث إيحاءه إلى النفوس فتمتلئ بما امتلأت به نفسه وتتأثر بما تأثرت به. وهاهو ذا يقول فيما تعانيه مصر من سالبي حريتها:

قل للذي بر اليمي ... ن على يديه ردى اليمين

أضنى المئين من الوعو ... د الخلف أو فوق المئين

أنت الذي أفتى السجي ... ن بحسن منقلب السجين

وضع القيود وقال ما ... أشجى رنينك من رنين

فاشرب على شدو الحدي ... د حلاوة الرق الحنون

واغنم رخاء الطوق جا ... ور حبله حبل الوتين

فترى في هذا الشعر آلام مصر مصورة تصويراً دقيقاً، تنتظمه الروح المصرية الصميمة، تكسو كل ذلك أردية عربية متينة. وقوله: (فاشرب على شدو الحديد. . الخ) من الشعر المرقِص

وقد ظهر لي مأخذ في الأبيات الآتية، وهو من المآخذ التي لا تظهر إلا في الشعر الجيد، قال يخاطب مصر:

أجريت فيض مدامع ... من نيلك الباكي الحزين

حمراء حيناً كالدم ال ... جاري على الداء الكمين

فإذا تطامن جأشك ان ... هملت كصافية الشؤون

فهو يقول إن المدامع تكون حمراء في حين، ولم يبين هذا الحين، ثم يقول إذا تطامن الجأش انهملت الدموع صافية، فكيف تنهمل الدموع في حالة سكون الجأش؟ إن الدموع لا تكون إلا في حالة الاضطراب وجيشان العاطفة، أما احمرارها وصفاؤها فيكونان على درجتين من درجات الاضطراب؛ على أن الصفاء لا يقابل الاحمرار ولا يقاسمه، فقد يكون الأحمر صافياً والصافي أحمر

أنة شاعر وهذا شاعر يئن من هجر حبيبته، وهو الأستاذ محمد عزيز رفعت، والقصيدة كلها مبنية من الكلمات والعبارات المبتذلة التي كثر استعمالها في الشكوى من فعل الجوى وتبريح الصبابة، يقول:

أشكو هوى بين الجوانح شفني ... في هجعتي - سقماً - وفي يقظاتي

وتظهر في بعض أجزائها محاولة الإجادة، وتبدو في قليل من أبياتها مخايل الشعر كقوله:

عبثاً شكوت فيا لصب مغرم ... لم يجن غير اليأس من ثمرات

(واليأس إحدى الراحتين) لو أنني ... لما يئست ذهلت عن صبواتي

وفي القصيدة ركاكة في الأسلوب، وتكلف في النظم، وأخطاء في بعض المعاني والألفاظ؛ قال:

واسود وجه الرأي لا لي حيلة ... لنوال عطفك أو لكبت وشاة

النوال: العطاء، وهو يريد النيل مصدر نال ينال، فاستعمال النوال هنا خطأ

وركاكة البيتين الآتيين لا تحتاج إلى بيان، قال:

وصددت عني حين أنت مدينة ... بالعهد عهد سرائر المهجات

وقطعت لأرسل إليك شفيعة ... لي في رضاك ولا صدى هتفاتي

وما معنى قوله: (ولا صدى هتفاتي)! أيعني أن صدى الهتفات لم يشفع في رضاها؛ وكيف يشفع الصدى؟!

ويقول:

والله واليوم الأخير ووقفة=لله أنذرها على عرفات

لو كنت في نزع المنون مخيراً ... ما بين قربك لحظة وحياتي

لاخترت قربك والمنون ولم أشأ ... نعمى الحياة على سرير مماتي

ولو استبنت الدمع يوم منيَتي ... في مقلتيك سعى إليك رفاتي

فلماذا كل تلك الأيمان المغلظة؟ وما معنى هذا النذر؟ أيعني أنه إن اختار الحياة على قربها مع الموت يلزمه أن يقف على عرفات! ثم كيف يستبين الدمع في مقلتيها وهو ميت؟!

ميتة سكير قصيدة الأستاذ محمود رمزي نظيم، وهي قصيدة عذبة رقيقة، تنساب فيها روح خفيفة ساحرة، وأسلوبها من السهل الممتنع، وإليك الدليل، وما من شيء يبلغ في التدليل على جمالها مبلغها هي في ذلك؛ قال في مطلعها:

سقطت أسنانه في ال ... كأس سنا جَرَّ سنا

وأراق الخمر في هي ... كله دنا فدنا

جن بالكأس وهل ين ... هى الذي بالكأس جنا

يحسب الناس الألى لا ... يشربون الخمر جنا

تخذ الحانة دارا ... واحتساء الراح فنا

عاش للراح حبيبا ... واجف القلب معنى

لو تمنيه بغير ال ... كأس شيئاً ما تمنى

إن مشى تحسبه في ... سكره غصناً تثنى

وشمالاً ويميناً ... مال تيهاً وأرجحنا

ما صحا من سكره إلا ... إلى الحانة حنا

فهذا كلام تتراقص فيه الروح الشعرية تراقص الحباب في الكأس. ونأخذ من بين هذه الأبيات قوله:

يحسب الناس الألى لا ... يشربون الخمر جنا

فما الصلة بين الذين لا يشربون الخمر وبين الجن حتى يحسبهم السكير كذلك؟ اللهم إلا أن يكون قد ضعف تصوره من شدة السكر. .

والأستاذ رمزي نظيم شاعر متفنن، وتراه في هذه القصيدة يفتن في الانتقال من صورة إلى صورة في حذق ومهارة؛ فهو بعد أن يصف السكير ينتقل إلى التعبير عن خواطره فيقول:

طالما أوحى إلى النصا ... ح ردوا النصح عنا

إن من يترك شرب ال ... راح عمداً ليس منا

إن في الحانة للخا ... ئف تشجيعاً وأمنا

نحن للكأس خلقنا ... وبها في الكون عشنا

إلى أن أتى على مصرعه فقال: أشبه الوهم فما يس ... مع إن ناح وأنا

وقضى بالأمس لم تح ... زن عليه الناس ضنا

وكنا نحب أن يتفادى الشاعر السناد الذي وقع في قوله:

ورق الكرم أكف ... تحمل الكأس إلينا

الشباب والزواج

قصيدة السيدة منيرة توفيق. وهي الشاعرة المصرية البارزة الوحيدة في هذا العصر، إذ أن مصر تكاد الآن تكون مقفرة من الشواعر؛ والمرأة المصرية تستمد صمتها من أبي الهول، ولا أعني إلا الإمساك عن التعبير عن الإحساس والعواطف تعبيراً صادقاً؛ فمن شعرت من بنات مصر فإنما تقول في الأخلاق والنصائح، متجاوزة خوالج النفس ودقائق الحس، لأن طبعها الصموت الحيي يأبى الحديث عنها. وأعتقد أنها لو فعلت، وكانت موهوبة التعبير والأداء، لأتت بالغرائب

وهذه السيدة الفضلى توجه القول إلى الشباب، محذرة إياهم من الزواج بالأجنبيات، ناصحة لهم أن يقبلوا على الزواج من بنات وطنهم فتقول:

وتزوجوا من عرضكم ... تبقوا على العرض السليم

ودعوا زواج الأجنبي ... ة فهو شر مستديم

عجباً! أَللدور احتلا ... ل آخر فيها يقيم؟

والقصيدة وإن كانت معنونة بـ (الشباب والزواج) إلا أنها مقصورة على التحذير من الزواج بالأجنبيات، فلا تعرض لأعراض الشبان عن الزواج إلا بهذين البيتين:

فدعوا الغواية إنها ... باب يؤدي للجحيم

وخذوا الزواج فإنه ... باب السعادة والنعيم

وقد أحسنت في قولها:

لا يخدعنكمو جمال ال ... أجنبيات الوسيم

كلا ولا سحر الكلا ... م ورقة الصوت الرخيم

هذا لعمري مظهر ... والله بالخافي عليم

وإن كان فيه ظلم لفتياتنا، فهن في هذه الصفات مجلّيات على ما أرى، والله أعلم.

عباس حسان خضر