مجلة الرسالة/العدد 162/الكتب

مجلة الرسالة/العدد 162/الكتب

ملاحظات: بتاريخ: 10 - 08 - 1936



سعد زغلول

سيرة وتحية

تأليف الأستاذ عباس محمود العقاد

بقلم الأديب عبد الرحمن صدقي

آية هذا الكتاب أن اجتمعت له خصال ثلاث تجعله في عداد كتب السيرة المشهود لها لأعلام المترجمين، وتلك الخصال هي: التحقيق التاريخ، والتحليل النفساني، والتأثير العاطفي

يقول العقاد في كلمة التمهيد لترجمته: (إن الصديق والمؤرخ في الكتابة عن رجل كسعد زغلول يستويان أو يتقاربان، لأن الصديق لن يقول فيه ما ينكره المؤرخ، والمؤرخ لن يقول فيه ما ينكره الصديق. ومن النقص في جلاء الحقيقة أن يكتب المؤرخ ترجمة لعظيم ثم لا يكون على مودة لذلك العظيم. ولأن يكون الكاتب مؤرخاً وصديقاً خيرٌ للتاريخ نفسه من أن يكون مؤرخا وكفى، لأن الترجمة فهم حياة، وفهم الحياة لا يتسق لك بغير عطف ومساجلة شعور)

ولما كان الاستقصاء في طبيعة مؤلفنا الكبير، فقد ابتدأ موضوعه من البداية، فتناول (الطبيعة المصرية) بالبحث الضافي، وعرض لمحك النقد أقوال المؤرخين فيها من أقدم عصور التاريخ، وأخذ باطل المبطلين منهم بالتفنيد المدعم بالأسباب والأسانيد. ثم أبان في فصل آخر عن وجه الحقيقة فيها بما لا يدع بعده زيادة لمستزيد

وانتقل إلى أصل المترجم له، فلم يسكت عن تلميح البعض إلى نسبته إلى غير الأرومة المصرية، ومن هؤلاء من يرد أعراقه إلى المغول والترك، وآخرون إلى البدو أو عرب المغرب، ولقد سرد المؤلف مثار الشبهات عند أولئك المتقولين ليعيد فيها النظر على ضوء علم الأجناس، ثم باستقراء ما هو معروف من طريق القبائل العربية النازحة، فانكشف لمرأى العين ضعفها وصرف عنها الأذهان مقررا أن عراقة سعد في بيئة الفلاح المصري لا تفوقها عراقة زعيم من أبناء الأمم الأخرى ثم يجيء الكلام عن جيل سعد وطابعه المميز من طلب الإصلاح والدعوة له والغيرة عليه، وبيان الدوافع لهذه الحركة الإصلاحية من الداخل والخارج، وما كان لهذا الجيل من شأن في نشأة سعد واتجاه همته، وصفة أعماله في مستقبل أيامه، ومن هذا الوصيد الكريم، يتطرق القارئ إلى حمى البيت القديم، ويتعرف إلى جد زغلول وأبويه وقرابته وطبائع قومه وأسرته، ومظاهر الحياة في بلدته، وإذا بك بعدها ترى سعداً في مدارج طفولته، وتتوسم مخايل نجابته، وتتتبع خطواته من مكتب القرية، إلى الجامع الدسوقي، إلى حلقات معهد الأزهر الكبير

وفي هذه القاهرة المعزية، اندمج الفتى سعد في حركة دعاة الإصلاح وألقى بسهمه مع سهامهم، وكان يحضر الدرس على الشيخ محمد عبده، ويختلف إلى مجلس السيد جمال الدين الأفغاني؛ وكان الأول أستاذاً له في الدرس وقدوة في الخلق، وأما لقاؤه للثاني بطبيعته الثورية فكان مرآة مجلوة لنفسه الجائشة وحافزاً لملكاته البيانية والخطابية

ومن ذلك الحين يصح الجزم بأن سعداً قد أتجه فعلاً إلى وجهته، واستقام على متن طريقه المقدورة له

ويتسع الأفق فإذا الثورة العرابية ومقاديرها ومعقباتها من نفي وتشريد وحبس. وتشاء العناية لسعد أن تقوم على خدمته ظروف وملابسات، فيفرج عنه على كره من أولياء الأمر. ولا يلبث طويلاً حتى يشق طريقه من المحاماة إلى منصة القضاء، ثم تحمله رغبة الحاكمين في إرضاء القومية المصرية وقتئذ إلى دست الوزارة

هنا تزخر حياة هذا الرجل بالأحداث، ويظهر أنه المدخور لنهضة وطنية عارمة تعم البلاد من أقصاها إلى أقصاها، وتؤلبها في قوة وإيمان على الغاصبين. ويمضي المؤلف في تاريخه الضخم يصورها أروع تصوير، ويدفع عنها المغالطة والنكير، في فصول حافلة طوال: في طريق الوزارة، سنة 1906، وزارة المعارف ووزارة الحقانية، سعد الوزير، الحركة الدستورية، الوزير المصري في المعاش، في ميدان الانتخاب، الجمعية التشريعية في خمسة أشهر، قبيل الحرب، الحرب العظمى، تأليف الوفد المصري، بدء العمل، القارعة، الثورة، من القاهرة إلى مالطة إلى باريس، تأليف الوفد الأول، موقف الوزارة الرشدية، برنامج الوفد والامتيازات، الوفد في أوربا، من سفر الوفد إلى لجنة ملنر، المفاوضة في لندن، في مصر أثناء المفاوضة، بعد عودة الأعضاء، الوزارة العدلية، العودة، الخلاف على المفاوضة، القطيعة بين سعد والوزارة، فضل المفاوضات الرسمية، النفي، تصريح 28 فبراير، من المنفى إلى الوزارة، في رآسة الوزارة، الملك فؤاد وسعد، من رآسة الوزارة إلى رآسة النواب، في رياسة مجلس النواب

وهذه الفصول الطوال تنتظم التاريخ المعاصر كله لمصر الحديثة في صور حية رائعة تتعاقب على أنظارنا وكأنما كاتبها لا يخط أحرفاً وإنما يرسم تهاويل مجسمة كالتي اشتهر برسمها على جدران المعابد شيخ الرسامين ميشيل انجيلو. على أنه يتخللها هنا وهناك مواقف شتى يقف فيها الفنان موقف المحلل الشارح، كما يلبس أحياناً رداء المدره المنافح

ويختتم المؤلف كتابه كما استهله بفصول دقيقة عميقة لا تتاح لغيره عن زعامة سعد وأثرها، وعن سعد وخصومه، وعن شخصيته وأخلاقه، وعن ثقافته. ويبلغ العقاد منتهى حنو العاطفة في كلامه عن سعد في بيته، ومبلغ حدبه على أهله، وكيف كانت السيدة الجليلة أم المصريين بنفسها المحبة وفطنتها الألمعية وقلبها الكبير، شريكته بحق في حياته ومجده. وكذلك يعرض عليك المؤلف الناحية اللينة إلى جانب الناحية الصلبة في وصفه للقاء الأول واللقاء الأخير. وأما كلمته عن فاجعة الوفاة فإنها في عبارتها الصادقة المؤثرة يطالعها القارئ فيغلبه التأثر مهما يكن جلده، فإذا هو لا يملك وجده، وإذا الدمع يخنقه والزفرة تكظ صدره ثم لا تبرح ذهنه هذه الصورة آخر العمر:

(ثم ضعف النبض دفعة واحدة، بعد انتظامه في جميع الأدوار الماضية، فغلب اليأس على الرجاء. وعاده الأطباء للمرة الأخيرة في التاسعة والدقيقة الخامسة والأربعين، ونزلوا إلى المكتب لكتابة تقريرهم الأخير. وإنهم لكذلك، إذ دعي فتح الله بركات باشا إلى غرفة خاله وهو يجود بنفسه في غيبوبة لم تنقطع منذ الصباح. فاشرأبت الأعناق وأمسك الناس أنفاسهم يترقبون. وما هي إلا دقائق معدودات حتى عاد فتح الله باشا إلى المكتب يمشي كالشيخ الهائم شاحب الوجه مذهول العينين. ولم يجرؤ أحدٌ على سؤاله مخافة أن يكون الجواب المحذور. ولكنهم علّقوا أنظارهم جميعاً بعينيه ولبثوا شاخصين ينتظرون. دقيقة واحدة أو دقيقتين، ولكنهما كانتا من أزمان الأبد في روع الشاخصين المنتظرين. وفي تلك اللحظة ارتفع صوت ناحب عند الشرفة المطلة على المكتب، فضرب فتح الله باشا يديه على ركبتيه، وجلس وهو في جمود الأموات. . . . . . ومضت ثوانٍ أخرى. مضت والناس في سكون عميق مرهوب، وكان كل ما في بيت الأمة، وكل ما حوله على أعمق ما يكون السكون، لا صدى في المنزل ولا في الطريق طوال اليومين الماضيين، حذراً من إزعاج المريض العظيم المأمول الشفاء. فلما ارتفع الصوت الناحب وجم الحاضرون ثواني قلائل، كأنما كانوا يستطيلون الأمل المدبر، أو كأنما كانوا بين تصديق وتكذيب. ثم انفجروا صيحة واحدة بالنشيج والعجيج، فلم يكن أرهب من ذلك السكون إلا هذا الضجيج الذي اتصل صداه في لحظات معدودات بكل مكان في القاهرة، وكل مكان في أرجاء البلاد. .)

ولو أرخينا العنان لإعجابنا لأوردنا الكتاب كله شاهداً على فضل كاتبه في كل ما سطره فيه، وتبريزه في نواحيه المتعددة، وبلوغه الغاية من الفن والوفاء والصدق

ولكننا نقتضب، فنقول إن جملة القول في كتاب سعد زغلول للعقاد إنه أعظم نَصَبِ أقيم للبطل العظيم الراحل

عبد الرحمن صدقي