مجلة الرسالة/العدد 166/دين المتنبي
مجلة الرسالة/العدد 166/دين المتنبي
3 - أبو الطيب المتنبي
للأستاذ محمد محي الدين عبد المجيد
ثم يقول بعد ذلك في شأن سيف الدولة:
رأيتكم لا يصون العرض جاركم ... ولا يدر على مرعاكم اللبن
جزاء كل قريب منكم ملل ... وحظ كل محب منكم ضغن
وتغضبون على من نال رفدكم ... حتى يعاقبه التنغيص والمنن
فغادر الهجر ما بيني وبينكم ... بهماء تكذب فيها العين والأذن
وكان كلما نازعته نفسه إلى سيف الدولة واستشعر شيئاً من الأسف على فراقه يعلل نفسه بأنه لقي أهلا بأهل فيقول:
وأخلاق كافور إذا شئت مدحه ... وإن لم أشأ تملي علي فأكتب
إذا ترك الإنسان أهلا وراءه ... ويمم كفوراً فما يتغرب
ولكنه ما عتم أن اجتوى كافوراً وتبرم به ويئس مما كن أمله فيه، فلما اعتزم أن يتركه أسف على غدره ونازعته نفسه إلى ممدوحه الأول وهو يهجو كافورا:
وفارقت خير الناس قاصد شرهم ... وأكرمهم طرا لآلامهم طرا
فعاقبني المخصي بالغدر جازيا ... لأن رحيلي كان عن حلب غدرا
وما كنت إلا فائل الرأي لم أعن ... بحزم ولا استصحبت في وجهتي حجرا
ومع أنه يعترف بالغدر فقد حانت له فرصة ليعود إلى الوفاء فلم يهتبلها، تلك أن سيف الدولة حين علم رجوعه من مصر أرسل إليه ابنه بهدية فاكتفى بأن يرسل إليه قصيدة يقول فيها:
كلما رحبت بنا الروض قلنا ... حلب قصدنا وأنت السبيل
فيك مرعى جيادنا والمطايا ... وإليها وجيفنا والذميل
والمسمون بالأمير كثير ... والأمير الذي بها المأمول
الذي زلت عنه شرقاً وغرباً ... ونداه مقابلي ما يزول
ومعي أينما سلكت كأني ... كل وجه له بوجهي كف ويمر بعد ذلك عامان وبضعة أشهر فيرسل إليه سيف الدولة كتاباً بخطه يسأله فيه المسير إليه فيعتذر له بقوله:
وما عاقني غير خوف الوشاة ... وإن الوشايات طرق الكذب
وتكثير قوم وتقليلهم ... وتقريبهم بيننا والخبب
وقد عاوده طبعه الذي دللنا عليه حين ورد على عضد الدولة فقد قال له في أول لقاء:
قد رأيت الملوك قاطبة ... وسرت حتى رأيت مولاها
ثم يقول له بعد ذلك:
يقول بشعب بوان حصاني ... أعن هذا يسار إلى الطعان
أبوكم آدم سن المعاصي ... وعلمكم مفارقة الجنان
فقلت: إذا رأيت أبا شجاع ... سلوت عن العباد وذا المكان
فإن الناس والدنيا طريق ... إلى من ماله في الناس ثن
لقد علمت نفسي القول فيهم ... كتعليم الطراد بلا سنان
وانظر إلى هذا البيت الأخير فإنه يعتذر فيه عن كل مدائحه التي قالها من قبل عضد الدولة بأنه كن يقولها ليروض نفسه ويعلمها حتى إذا اعتادت لم يحسن منه القول إلا فيه.
تنبؤه
ليس في حياة أبي الطيب مسألة أشد غموضاً من سر هذا اللقب الذي نبزوه به، ومهما يكن في حياته من الدقة والغموض فإنا نعترف بقوة الدقة والغموض اللذين أحاطا بهذا اللقب. وآية ذينكم أن الكتاب ما زالوا يكتبون عن أبي الطيب منذ كان إلى يوم الناس هذا وهم يختلفون في الإبانة عن حقيقة هذا اللقب. وكتاب عصرنا هذا مختلفون أيضاً في الاستنتاج والتعليل. ولقد حاولت أن أقف على الوضع الحقيقي لهذه المسألة متخذاً من شعره وأخباره نبراساً أستفيء به فأعياني تطلابه ووقعت في حيرة ولبس وإبهام هي شر من الإعراض عنه، ذلك أنه لم يعن أحد ممن عاصر المتنبي أو قرب من عصره بالبحث عما يشوقنا اليوم أن نعرفه بحثاً يثلج صدر الحقيقة ويملأ قلب الناس بصحة أسبابه ونتائجه؛ فكل ما بين أيدينا كلمات منثورة في بطون الكتب جرى بعضها على ألسنة قوم عرفوا بالهوى فيه والتعصب له إلى حد التغاضي عن القبح، وجرى بعضها الآخر على لسان قوم لم يعرف الناس عنهم شيئاً أو عرفوا عنهم الكراهية له إلى حد تشويه محاسنه؛ فمهمة الباحث اليوم من أشق المهام؛ وكل ما يمكن أن يصل إليه باحث ظنون قد لا يطول به الأمد حتى تتكشف له عن نفسها كخدعة من خدع الغرور.
حكى أبو الفتح عثمان بن جني قال:
سمعت المتنبي يقول: (إنما لقبت بالمتنبي لقولي):
أنا ترب الندى ورب القوافي ... وسمام العدى وغيظ الحسود
أنا في أمة تداركها الله (م) ... غريب كصالح في ثمود
وفي هذه القصيدة يقول:
ما مقامي بأرض نخلة إلا ... كمقام المسيح بين اليهود
وليس هذا الذي ذكره أبو الفتح إلا كالتمحلات التي يرتكبها بعض الناس بإخراج الألفاظ عن أوضاعها ومعانيها. ذلك بأن أبا الطيب نفسه كان يتألم إذ نبزوه بهذا اللقب، فهو يعلم أن الناس لا يطلقون عليه ذلك تشبيها له بالأنبياء وإن كانت هذه الصيغة قد تستعمل في العربية لإفادة معنى التشبيه. وذكر أبو العلاء في رسالة الغفران ما كان أعداء أبي الطيب يتحدثون به عنه فقال: (وحدثني الثقة عنه حديثاً معناه أنه لما حصل في بني عدي وحاول أن يخرج فيهم قالوا له وقد تبينوا دعواه: (هاهنا ناقة صعبة فإن قدرت على ركوبها أقررنا أنك مرسل) وأنه مضى إلى تلك الناقة وهي رائحة في الإبل فتحيل حتى وثب على ظهرها فنفرت ساعة وتنكرت برهة ثم سكن نفارها ومشت مشي المسمحة، وأنه ورد بها المحلة وهو راكب عليها، فعجبوا له كل العجب، وصار ذلك من دلائله عندهم. وحدث أيضاً أنه كان في ديوان اللاذقية وأن بعض الكتاب انقلبت على يده سكين فجرحته جرحاً مفرطاً، وأن أبا الطيب تفل عليها من ريقه وشد عليها غير منتظر، وقال للمجروح لا تحلها في يومك وعد له أياماً وليالي، وأن ذلك الكاتب قبل منه فبرئ الجرح فصاروا يعتقدون في أبي الطيب أكبر اعتقاد ويقولون هو كمحي الأموات. وحدث رجل كان أبو الطيب قد استخفى عنده في اللاذقية أو في غيرها من السواحل أنه أراد الانتقال من موضع إلى موضع فخرج بالليل ومعه ذلك الرجل، ولقيهما كلب ألح عليهما في النباح ثم انصرف، فقال أبو الطيب لذلك الرجل وهو عائد: (إنك ستجد ذلك الكلب قد مات. فلما عاد الرجل ألفى الأمر على ما ذكر. ولا يمتنع أن يكون أعد له شيئاً من المطاعم مسموماً وألقاه له وهو يخفي عن صاحبه ما فعل) اهـ. وقل أبو العلاء في رسالة الغفران مرة أخرى:
(وحدثت أنه كان إذا سئل عن حقيقة هذا اللقب قال: هو من النبوة بمعنى المرتفع من الأرض. وكان قد طمع في شيء قد طمع فيه من هو دونه وإنما هي مقادير يديرها في العلو مدير يظفر بها من وفق ولا يراع بالمجتهد أن يخفق، وقد دلت أشياء في ديوانه أنه كن متألهاً، ومثل غيره من الناس متدلهاً، فمن ذلك قوله:
. . . . . . . . . . . ... ولا قابلا إلا لخالقه حكما
وقوله:
ما أقدر الله أن يخزي بريته ... ولا يصدق قوماً في الذي زعموا
وإذا رجع إلى الحقائق فنطق اللسان، لا ينبئ عن اعتقاد الجنان لأن العالم مجبول على الكذب والنفاق، ويحتمل أن يظهر الرجل تدنيا وإنما يجعل ذلك تزيناً يريد أن يصل إلى الثناء، أو غرض من أغراض الخالبة أم الفناء) اهـ وأبو العلاء في هذه العبارات مضطرب كل الاضطراب، فبينا هو يقص عليك معجزات أبي الطيب التي مخرق بها على بني عدي إذا هو يذكر لك أنه إنما طمع فيما طمع فيه من هو دونه بعد همة وعلو نفس، ولا يمكن أن يكون مقصوده بذلك النبوة، ثم هو بعد ذلك يعود فيذكر لك أن أبا الطيب كان يعترف بالله تعالى ويرشدك إلى دلائل هذه العقيدة من شعره، ويعود إلى التشكك في دلالة هذه الأقوال على ما في نفسه لأن نطق اللسان لا ينبئ عن اعتقاد الجنان؛ وكأن أبا العلاء كان يعاني ما نعانيه اليوم من غموض حال المتنبي وشدة خفائها.
والذي نستطيع أن نعقله أن هذا اللقب قد نبزه به أعداؤه وليس له حقيقة برزت في الوجود، وأن أبا الطيب كان يقوم بدعوى سياسية: كان يطلب الملك ويمني نفسه به ويعد له عدته التي ظن أنها تصل به إليه من المران على الحرب وجمع المال والاستكثار من الأعوان وتدبير المؤمرات، ولم يكن يجسر على الجهر بذلك في عواصم الملك التي عاش فيها فكان يخرج إلى البوادي يتحين الفرصة ويستجمع للوثوب وتحقيق ما في نفسه من آمال؛ وهذا سر من أسرر انتقاله من ملك إلى ملك، وقد ساعده على هذا الحلم اللذيذ ما كان يقع تحت نظره كل يوم من ثورات وفتن وانقلاب، وقوة إيمانه بأنه أفضل من سعت به قدم؛ وكان ربما قنع بأقل من الملك فرغب في ولاية من الولايات يخلعها عليه كافور، ولعل هذه القناعة لم تكن إلا لأنه فهم أن الولاية سبب يصل من طريقه إلى الملك كالذي يراه في جماعة من ملوك عصره. ولعل كافوراً لم تخف عليه سريرته فحرمه الولاية التي كان وعده إياها. ولعله هو نفسه قد شعر بأن كافوراً فطن لدخيلة نفسه ففر من مصر تحت جنح الليل. أفلست تراه يقول لكافور أول وروده عليه:
وغير كثير أن يزورك راجل ... فيرجع ملكا للعرافين واليا
حتى إذا تأخر جواب كافور وخشي أن يفوته المأمول أو أن يظن به عدم الكفاية للاضطلاع بأعباء الولاية عاوده بقوله:
فارم بي حيثما أردت فإني ... أسد القلب آدمي الرواء
وفؤادي من الملوك وإن كا ... ن لساني يرى من الشعراء
ولم يزل يظهر لكافور تلهفه على إنجاز موعوده بالتعريض مرة وبالتصريح مرة أخرى حتى أدركه اليأس وعلم أن في الأمر شيئاً. أنظر إلى قوله:
إذا لم تنط بي ضيعة أو ولاية ... فجودك يكسوني وشغلك يسلب
ثم انظر إلى قوله:
وهل نافعي أن ترفع الحجب بيننا ... ودون الذي أملت منك حجاب
وفي النفس حاجات وفيك فطانة ... سكوتي بيان عندها وخطاب
قال أبو منصور الثعالبي: (وما زال في برد صباه إلى أن أخلق برد شبابه وتضاعفت عقود عمره بدور حب الولاية والرياسة في رأسه ويظهر ما يضمر من كامن وسواسه في الخروج على السلطان والاستظهار بالشجعان والاستيلاء على بعض الأطراف ويستكثر من التصريح بذلك في مثل قوله:
لقد تصبرت حتى لات مصطبر ... فالآن أقحم حتى لات مقتحم
لأتركن وجوه الخيل ساهمة ... والحرب أقوم من ساق على قدم
وكقوله:
سأطلب حقي بالقنا ومشايخ ... كأنهم من طول ما التثموا مرد
ثقال إذا لاقوا خفاف إذا دُعوا ... كثير إذا شدوا قليل إذا عُدوا وطعن كأن الطعن لاطعن عنده ... وضرب كأن النار من حره برد
إذا شئت خفت بي على كل سابح ... رجال كأن الموت في فمها شهد
وكان كثيراً ما يتجشم أسفاراً بعيدة أبعد من آماله ويمشي في مناكب الأرض ويطوي المناهل والمراحل ولا زاد إلا من ضرب الحراب على صفحة المحراب) اهـ.
هذه فيما نعتقد حقيقة حاله؛ فأما ادعاء النبوة فلا نستطيع أن نتقبله مهما زعم الناس أن العصر الذي عاش فيه ورغبته في أن يكون أبعد أهل عصره أملاً، وكثرة الدعوات الدينية والسياسية، كل أولئك تقرب إلى العقل أنه ادعى النبوة. نقول ذلك بعد علمنا تقدير الناس لمقام النبوة ورسوخ عقيدة الإسلام في أذهانهم، ومنها أن محمداً (ص) ختام الأنبياء حتى أن الدعوات الدينية التي ادعاها المدعون بعد ذلك لم تكن إلا في نواحي الإمامة وما يتصل بها. ونحن نرى كل هذه الدعوات كانت تستند إلى نصوص يزعم الراوون لها أنها صدرت عن رسول الله أو أفهام في نصوص أخرى ثابتة. ولو أن أبا الطيب كان قد ادعى النبوة لما وجد من الناس من ينتظر عليه حتى يتم دعواه. ولعله لم يكن من الحكمة في دعواه التي ارتضينا أمرها بحيث يخفي شأنه، فكان لذلك لا يأمن جانب أحد، وكان لا يدخل بلداً إلا ليقذف به إلى بلد، ثم كانت بعد ذلك نهايته المحتومة.
أبو الطيب والنحاة
ليس يسوغ لي في مستهل هذا البحث أن أغفل أن أبا الطيب كان قد أخذ من العربية بأوفر حظ؛ فهو حافظ لغريبها حفظ الباحث المستقصي حتى ليسأله أبو علي الفارسي: (كم لنا من الجموع على وزن فِعْلَى)؟ فيبادره بقوله (حِجْلى وظِرْبى) ويبحث أبو علي ليلته في كتب اللغة لعله يعثر لهما على ثالث فلا يجد. ويقول أبو علي في شأنه: (ما رأيت رجلاً في معناه مثله) وهذه الشهادة من أبي علي الذي كان يناصبه العداوة ويتحامل عليه كافية للدلالة على قدره؛ وكان مع اطلاعه على مفردات اللغة وغريبها عالماً بمواطن استعمالها متمكناً من قواعدها خبيراً بلغات القبائل. وله شعر جزل لا نظير له في شعر أحد من شعراء العربية. وقد خلا كثير من شعره من كل مأخذ وتجانب كل انتقاد، ولكن له مع ذلك شعراً قد جانب الطرق المشهورة في العربية إلى طرق لا يقرها النحاة الذين جعلوا مهمتهم تتبع المعروف الجاري على الألسنة ورسموه قواعد أرادوا أن تكون هي لسان الناس عامة؛ وإن يكن أحد قد نال من أبي الطيب في حياته وبعد موته منالاً له وجه صحيح وقد بقى أثره والدليل عليه فأولئك هم النحاة، ولسنا نعني بالنحاة علماء الأعراب فحسب، وإنما نريد بهم كل من كان يتكلم في فرع من فروع العربية؛ فهؤلاء هم الذين جرحوا عزة المتنبي وطامنوا من كبريائه؛ وهؤلاء هم الذين كان أبو الطيب يضيق بهم ذرعاً وتتألم نفسه إذا وجه واحد منهم خطابه إليه. وكيف لا يضيق صدره وشعره هو وسيلته التي يكتسب بها رضاء الناس وهم يعمدون إلى هذه الوسيلة فيضعفون من شأنها ويحاولون أن يقللوا من قيمتها. ولم يكن النحاة فيما نعتقد قد أكثروا من تعقبه والحملة عليه لوجه العلم ولا انتصاراً للحق، وإنما كان ذلك منهم سلاحاً من أسلحة السياسة التي وجهت إلى الرجل؛ وليس يعنينا بحث ذلك الآن ولكنا نذكر أنه - مع عدم توفر حسن النية - قد أمكن للنحاة أن يجدوا في شعر أبي الطيب ما يستمسكون به عليه ويتخذونه ذريعة للتشفي منه ولإرضاء سادتهم. وكانوا يجابهونه بذلك أحياناً؛ وكانت تأخذه العزة فيسب ويقذع في سبابه أحياناً شأن المغيظ المحنق الذي يداخله الشك في أمرهم؛ وكان ربما ضن عليهم بالإجابة فأحالهم على بعض أصدقائه من النحاة. حدثوا أن ابن خالويه وجه إلى أبي الطيب نقداً في حضرة سيف الدولة فقال له أبو الطيب: (أسكت ويحك فإنك أعجمي! فما لك وللعربية؟) وكان مع ابن خالويه مفتاح فضربه به فشج رأسه. وحدثوا أن سائلاً سأله عن قوله في مطلع قصيدة مدح بها أبا الفضل ابن العميد:
باد هواك صبرت أم لم تصبرا ... وبكاك إن لم يجر دمعك أو جرى
فقال له: كيف قلت لم تصبرا فقال: لو كان أبو الفتح حاضراً لأجاب، يريد أبا الفتح عثمان بن جني وكان صديقاً حميماً له. وبعض المآخذ التي أخذها عليه النحاة تافه أو لا وجه له كالذي حدثوا أن ابن خالويه سمعه ينشد سيف الدولة:
وفاؤكما كالربيع أشجاه طاسمه ... بأن تسعدا والدمع أشفاه ساجمه
فقال له: يا أبا الطيب إنما يقال شجاه بتوهمه فعلاً ماضياً. فقال له أبو الطيب: أسكت فما وصل الأمر إليك. يعني أنه أفعل تفضيل.
وبعض المآخذ التي أخذوها عليه صحيح لا شبهة في أنه أخطأ فيه الجادة كالتعقيد اللفظي والمعنوي، واستعمال الغريب الوحشي، والعدول عن سنن القياس، وقبح بعض المطالع، وبعض المقاطع، واستعمال اللغات المهجورة. وأمثلة ذلك كله ميسورة قريبة التناول.
وفي كتب علماء البلاغة أمثلة وشواهد كثيرة من شعر المتنبي يعدون بعضها في عيون الشعر ومحاسنه، ويعدون بعضها الآخر في رذيل الشعر ومستكرهه.
أما علماء الأعراب فقد جروا على قاعدتهم في عدم الاحتجاج بشعر المولدين مع أبي الطيب، ولكن كثيراً منهم يذكر أبياتاً من شعره في موطن من ثلاثة مواطن: موطن التمثيل لا الاستشهاد، وموطن مخالفة القياس، وموطن التطبيق، وذلك في المعقد من شعره. وقد ذكر العلامة رضي الدين في شرح الكافية بعض أبيات للمتنبي على أنها مخالفة للقياس. وللعلامة المحقق جمال الدين ابن هشام صاحب مغنى اللبيب، ولأبي السعادات ابن الشجري في أماليه شروح وتخريجات لأبيات كثيرة من معقد أبيات أبي الطيب. وقد كان لأبي الفتح عثمان بن جني صديق المتنبي اليد الطولى في توجيه أنظارهما إلى هذه الناحية بما بذله من جهد في تخريج شعر المتنبي حتى كان أبو الطيب نفسه يقول له: إني لم أقل هذا الشعر لهؤلاء النحاة وإنما أقوله لك.
أيها السادة؛ هذه كلمتي التي كتبتها على عجل، وإني لسعيد بأن أتشرف بإلقائها بين أيديكم، وأشكر لجنة المهرجان التي أتاحت لي هذه الفرصة النادرة للتعرف إليكم، والسلام عليكم ورحمة الله.
محمد محي الدين عبد المجيد
المدرس بكلية اللغة العربية