مجلة الرسالة/العدد 166/من ذكريات لبنان

مجلة الرسالة/العدد 166/من ذكريات لبنان

ملاحظات: بتاريخ: 07 - 09 - 1936



بعد نهار جميل

للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني

(والآن ماذا ينبغي أن نأخذ معنا؟ - حاذروا أن تنسوا شيئاً).

فقالت زوجتي: (لا تنسوا الكاميرا. . فسنحتاج إليها ولا شك).

وقال فكتورين - جارتنا -: (الأفلام. . ما فائدة الكاميرا بلا أفلام؟).

قلت: (صدقت. . وماذا أيضاً؟).

فقالت زوجتي: (والصابون!).

وقال فكتورين: (ورق اللعب. . أليس كذلك؟).

فقلت. (والأطباق والملاعق والفوط والسكاكين!!. إن من يسمعكما يخيل إليه أننا ذاهبون إلى بعض مجاهل الدنيا).

فقالت زوجتي: (الحق أقول لكم إني أخشى علينا. . . إن هذه الجبال لا عهد لنا بها وسنعود بالليل. . وقد كنت أفضل أن يقود السيارة رجل يعرف الطرق. . رجل من أهل البلاد).

قلت: (الحق معك. . فإني أخشى الثلج على الجبال)

فصاحت زوجتي: (ثلج؟؟ هل قلت الثلج؟).

قلت: (نعم. . جبال من الجليد. . وسنحتاج أن نربط السيارتين معاً بحبل واحد. . فإذا سقطت إحداهما في الهاوية جرت الأخرى معها. . . ألا تكفون عن التخريف؟).

فكفوا. . وقمنا إلى مضاجعنا استعداداً للسير في بكرة الصباح.

وكنا ثمانية في سيارتين: زوجتي وأولادي وأنا في سيارتنا، وجيراننا في سيارتهم. فانطلقنا منحدرين في الطريق إلى بيروت وهو طريق وعر كثير التعرج والتلوي، ولكنه أملس كبطن الكف. غير أنه مخيف - يقوم الجبل على جانب منه، والوادي تحته من الجانب الآخر. ولا ترى منه وأنت تقطعه إلا القليل لأن تلويه حول الجبل وانثناءه كالحبل أو كالحية يخفيانه. وكان الضباب في أول الأمر يمنعنا أن نسرع، ولكن الشمس بددته فانكشفت الدنيا لعيوننا فنعمنا بجمال الوادي الأخضر، وجلال الجبل الشامخ، وقد قام الشجر الثمير على سفحه بين كتل الصخور، واختلطت فيه بهجة النور وزهرته بنضارة الخضرة.

وليس أوقع في النفس من السير في طريق تشرف عليه الجبال وتغيب قننها في السحاب فكأنها عروش للطبيعة!!!

وظللنا ننحدر وندور حول جبل بعد جبل، ونمرق من القرى والضياع واحدة بعد واحدة، وما هو إلا أن نلف مع الطريق حتى تختفي فجأة، ثم إذا هي بعد لفة أخرى تبدو لنا منازلها منتثرة وبعضها فوق بعض؛ ثم ندور مرة أخرى فتحتجب ونحن لا نكف عن الانحدار ولا نزال نهبط حتى استوى الطريق واستقام، فعلمنا أننا دنونا من بيروت. ولم تكن هي غايتنا فملنا عن طريقها وأخذنا في طريق (عالية) ثم شعرت أن السيارة صهدت جداً حتى صارت سخونتها لا تطاق؛ فعجبت، وخفت ووقفت، فسألتني زوجتي عن الخبر، فقلت: إن السيارة سخنة جداً، ولا أعرف لهذا من سبب إلا أن تكون أنابيب الماء قد ثقبت، فهو يسيل منها ولا يبقى فيها. وكنا لحسن الحظ في مدخل إحدى القرى فلم نجد عناء في الحصول على ماء صببناه فيها، وملأنا زجاجتين استعرناهما من بعض القوم. وبعد ذلك صرنا نضطر أن نقف من حين إلى حين لنصب الماء في السيارة ولم يكن ما حملنا منه كافيا، فكنا كلما بلغنا قرية نأخذ منها حاجتنا ونحتفظ بما في الزجاجتين للطريق بين القرى حتى بلغنا (الشاغور) وكان جيراننا قد سبقونا إليه.

وقفت بالسيارة وراء زميلتها وفتحت بابها فشدت زوجتي ذراعي وصاحت بي: (انظر. . . انظر. . .)

فنظرت إلى حيث تشير، فرأيت صبياً غريب الثياب. يلبس سروالاً - أو شروالاً كما يسمونه أحياناً في مصر - وقد لف على خصره - إذا جاز أن يسمى هذا خصراً - حزاماً أحمر غليظاً، ومن فوق ذلك - أو من تحته إذ شئت - صدرية من الحرير المخطط تجمع طرفيها سلسلة من الأزرار تنتهي عند العنق. وعلى رأسه لفة كبيرة. وفي كلتا يديه تفاحة عظيمة يهوي عليها بأسنانه.

وقالت زوجتي: (أين الكاميرا؟ دعه يقف حتى أصوره!).

فدنوت من الصبي وأنا أقول لنفسي: (أصيب عصفورين بحجر) أستوقفه حتى ترسمه زوجتي، وأكل إليه حراسة السيارة. ولكن الغلام رآني مقبلاً عليه، فجعل يتراجع، وعينه عليّ، وأسنانه تعمل في التفاحة، ولم يكن ثم شك في أن الصبي الأحمق يخشى أن أخطف التفاحة منه، فهو لهذا يدبر كلما أقبلت، وكنت أطمئنه وأؤكد له أني لا أريد به سوءاً وأن في وسعه أن يأكل تفاحته على مهل، ولكن هذا كان يزيده خوفاً، فقد أسرع في القصم وصار فيما أرى يزدرد ولا يمضغ. ولا أدري لماذا ألححت في دعوته أن يقف ويتمهل فقد كان هناك غيره ولم يكن ثم ما يدعو إلى الخوف على السيارة، ولكن الذي أدريه أنه فرغ من التفاحة ورمى وجهي بما بقي منها فأصاب أنفي.

ولما أفقت، التفت إلى زوجتي، وقلت:

(هذه جنايتك. . . وقد كان أنفك أولى، ولكن الآباء يأكلون الحصرم والأبناء يضرسون) فضحكت.

وكان جيراننا قد خفوا إلى (مكان الحادثة) وعرفوا ما كان فانطلقوا يقهقهون معها. وقالت زوجتي:

(لقد استطعت أن ألقط صورتك حين وقعت التفاحة على أنفك).

قلت: (ستكون الصورة ذكرى جميلة. . . أليس كذلك؟ وهذا جزاء الأحمق الذي يتزوج. . . يجيء بامرأة فيطعمها، ويكسوها، ويبرها ويسرها ويعاني من أجلها وفي سبيلها المتاعب والمنغصات، وتضحك منه حين ينبغي أن تعطف عليه وتألم له).

فلم تعبأ بي، ومضت عني مع الجيران، وهي تضحك.

ونعمنا بيوم جميل في الشاغور، ولم يكن أقل ما سرنا نومنا على العشب، والماء إلى جانبنا يخرج من بين الصخور دافقاً راغيا يتحدر من صخرة إلى صخرة كالشلال. وانقضى النهار، وآن أن نعود من حيث جئنا. وكانت السيارة قد أصلحت في خلال ذلك، فركبنا وانطلقنا راجعين.

وقلت لزوجتي وقد بلغنا البيت (هاتي المفتاح!).

قالت: (أي مفتاح؟ إنه معك. . . لقد كنت أنت الذي أغلقت الباب، وأظنك وضعت المفتاح في جيب البنطلون).

وكان مفتاحاً كبيراً عتيقاً لا يعقل ألاّ أشعر به إذا كان في جيبي، ومع ذلك بحثت، وأخرجت الجيوب ونفضتها أمامها، وأوسعت السيارة بحثاً عسى أن يكون قد سقط مني فيها، فلم أجد له أثراً. فقلت وقد تعبت (أسوأ ختام لخير نهار. . . لا بأس. . . والآن لم يبق إلا أن نجيء بخيمة نقيمها هنا، أو أن يضيفنا الجيران وإن كان بيتهم لا يكاد يسعهم، أو أن ندخل البيت من النافذة. . . ولم لا؟ صحيح أنها مغلقة. . . ولكن ما قيمة هذا؟؟ نفلق خشبها بالفأس، ونحطم زجاجها. . . . وكل ما ينقصنا ليتيسر ذلك. . . . سلم طوله ستة أمتار على الأقل. . . وفأس. . . الأمر سهل جداً كما ترين. . . أم خير من ذلك أن أحملك على أسناني وأنفخك إلى النافذة، فإنك خفيفة كغلالة الورد. . . . ولكني أخشى أن تطيري إلى بيت آخر!).

فقرصتني قرصاً وجيعاً ولم أكن أتوقع ذلك فصرخت من الألم.

ولما قرت الضجة، قالت: (ألا يوجد في هذه البلدة نجار؟).

فاستحسنت الرأي، وأشرت عليها بالصعود مع الجيران إلى بيتهم حتى أجد نجاراً، وكنت أظن أن الأمر لا يكلفني إلا سؤالاً ألقيه إلى واحد من أهل البلدة فإذا النجار حاضر بقدرة ربك، ولكني مشيت بضعة أمتار - لا أقل من خمسة - وأنا أدور وألف، وضيعت أكثر من ثلاث ساعات قبل أن أجد النجار. ولما وجدته أخبرني أنه ليس عنده شيء يستطيع أن يفتح به الأقفال، واستمهلني ريثما يبحث. . . . واستغرق ذلك ساعتين أخريين. فلم ندخل بيتنا إلا بعد منتصف الليل!

ولا أزال أحاول أن أحتفظ بذكرى ذلك النهار - على الرغم من التفاحة التي بططت أنفي - وأن أنسى عناء تلك الليلة ولكن الذكريين في قرن، وكل منهما تثير الأخرى، فما العمل؟؟

إبراهيم عبد القادر المازني