مجلة الرسالة/العدد 175/الأدب والخلود

مجلة الرسالة/العدد 175/الأدب والخلود

ملاحظات: بتاريخ: 09 - 11 - 1936



للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني

عشت سنين عديدة - أكثر عمري - بالخيال والهم. وكانت دنياي تحد من كل ناحية بجدران مكتبتي ومنظاري المكبر الذي أتدبر به الحياة وأستعين على درسها بقوته وقدرته على الجلاء والكشف والتوضيح، الكتب الكثيرة المرصوصة على رفوفها. وكانت رياضتي حين أكل وأتعب ويبلغ مني الجهد أن أدير عيني في صفوف هذه الكتب التي كنت أنتقي أنفس الطبعات منها وأحسنها ورقا وأجودها جلداً وأحلاها منظراً. فلما صدمتني الحياة - مرة وأخرى - ورأيت أزهار آمالي وورق آرائي التي كنت أحسبها خالدة النضرة دائمة البهجة ولا أظن بها إلا أنها ستظل رفافة أبداً - أقول لما رأيتها تصفر وتتساقط وتذوى وتجف وتتكسر وتنفرك في يدي وتحت قدمي راعني عظم جهلي، وهالني الشعور بالوحدة والوحشة والغربة في هذا العالم الزاخر الذي احتجت برغمي أن أخوض بحره وأرمي بنفسي في عبابه وأنا لا أدري كيف أسبح فيه وأتقي الغرق.

وأنصف الكتب فأقول إنها لم تغشني ولم تخدعني ولم تتعمد أن تزيف صور الحياة، ولكني اقتصرت عليها واستغنيت بها، فصرت لا أرى الحياة إلا بعيون أصحابها، ولا أحسها بغير أعصابهم، حتى ليخيل إلي الآن - من حيث معرفتي يومئذ بالحياة وإحساسي بوقعها وفهمي لها وتجربتي لأحوالها - أني كنت أشبه بكتاب مختارات من جملة ما قرأت وحصلت، ولست بإنسان له وجود وشخصية وكيان مستقل. ومن متناقضات ذلك العهد أني كنت من أعظم الكتاب تحمساً للدعوة إلى تحرير الأدب العربي من رق التقليد وأن كنت أنا لا أعدو أن أكون نسخة مختصرة لكل قديم من الآراء والمذاهب والاحساسات والخوالج. وليس هذا ذنب الكتب وإنما هو ذنبي. على أني لو كنت وجدت من يرشدني لرشدت ولانتفعت بما ضاع من عمري، ولكني لم أجد هذا المرشد والناصح الأمين والقدوة الحسنة لا في المدرسة ولا في البيت ولا في الإخوان، فقد كان شأنهم كشأني، سوى أنهم كانوا أحكم مني وأرشد بطبيعتهم وأهدى سبيلاً، فلم يقعوا فيما وقعت فيه ولم يضيعوا مثل ما ضيعت من عمري.

وأحسست بخيبة الأمل والضيعة في كل ناحية، فاسودت الدنيا في عيني وخامرني اليأس، وظهر ذلك في كل ما عالجت من فنون الأدب وألوانه، وهجرت العمار إلى الخراب، وانتقلت من المدينة الحية التي تعج بالناس وتزخر بالحياة إلى الصحراء المنقطعة ورمالها الصفراء وجدبها الرائع وفضائها الرحيب وسعتها العقيمة، لأني رأيت أنها أولى بي، وأن المقام في خرابها العظيم أرفق بنفسي المتهدمة وآمالي التي درست وهماتي التي فترت.

وتعاقبت السنون - أربعة عشر عاماً كاملاً - وأنا أجد الأنس بالصحراء والروح فيها والراحة بها. نعم كنت أنحدر إلى المدينة كل يوم وأرى الناس وأعمل معهم وأكد وأسعى، ولكني كنت لا أشاطرهم شعورهم بالحياة وإن كنت لا أثقل عليهم بما أحس. وكنت أكون معهم، ولكني بقلبي وعقلي مع الصحراء، فلا أكاد أعود إليها حتى أحس أن حجراً قد انحط عن صدري وأنه صار في وسعي أن أتنفس وأن أنضو ما أتكلفه مع الناس وأواجه حقيقة نفسي التي أضمرها وأخفيها عن العيون واسترها حتى لا أوذي الناس بها.

ولكن الصحراء معدنها خصب وإن كانت ظاهرة الجدب حتى لتبدو كأن لا أمل فيها، وإن قلبها العامر وإن كانت في رأى العين خواء قواء. وإن الاحتمالات التي تنطوي عليها لأكثر من أن يأخذها حصر، وما ينقصها إلا أن تساعفها الأحوال. وهل مصر كلها إلا صحراء جرى فيها نهر واحد فانقلبت من جنات الدنيا؟ فهذه الصحراء أيضا جنة مضمرة وفردوس مكنون.

وصار مجرى هذا الخاطر في نفسي عميقاً على الأيام، فقلت لنفسي في خلواتي الكثيرة بها: إن هذه الصحراء فيها قوى مستورة مقيدة تنتظر الانطلاق، وخصباً محجوباً لو وجد ما يظهره لربا فيها النبات واهتز ورف وزكا. وأنا أيضاً مثلها. ولم لا؟ أأكون أعقم وأجدب من التراب والحصى والرمال الصفراء؟. . . وقد انتشرت على سطح نفسي طبقة كثيفة من القنوط غطت ما انطوى عليه من الزكاء والطيب والريع الكثير الوفير، وما أظن بها إلا أن فيها خمائل أمل مدفونة ورياض خير أحسبها على الرغم من كل شيء لا تزال مخضلة يترشش نداها. وإن النفس لأقدر - أو هي ينبغي أن تكون أقدر من التراب على تربيت الندى وحفظه وادخاره. وإذا كانت تربة بعض النفوس مبكاراً فليس بضائري أن تكون تربة نفسي مئخاراً. وما يمنعها التأخر بعد أن تبشر ويخرج نباتها أن يسرع ويطول ويقوى. وإذا كانت هذه الصحراء تنتظر أن يجيئها الغوث من الخارج فان النفس غياثها فيها. وللصحراء السحب التي تجري الماء على وجهها، وللنفس مدد كاف من حيويتها التي هي في أعمق أعماقها. وأحسب أني لو حفرت في هذه الأرض لبلغت الماء ولو بعد عمق كبير. كذلك أحسب أني لو مهت نفسي وحفرت فيها لوقعت في بعض أعماقها على ماء غير قليل؛ وسأحتاج أن أرمي التراب وأخرج الطين والحجارة وأن أنكشها من حين إلى حين حتى لا تعود جميعها فتتجمع وتسدها مرة أخرى.

واقتنعت بذلك وصح عزمي على إن من الواجب تنقية نفسي - أو بئرها - مما سد منابع الماء في أعماقها المجهولة، فأعددت العدة لذلك وجئت بالعتلات والمعاول والمجارف والحبال والمقاطف والدلاء إلى آخر ذلك مما يحتاج إليه المرء في الحفر. وقلت لنفسي: (اسمع يا هذا. . . إنك لا تستطيع أن تحتفر إلا إذا وسعت، فما تدري أقريبة المنزع بئر نفسك هذه أم بعيدته؛ والأرجح أن تكون بعيدة وأن تكون قد تكدست فوقها أكوام شتى وطبقات متراكبة من أوحال السخافات المختلفة المتعددة التي عشت بها هذا العمر كله. فيجب من الآن - وقبل الشروع في الحفر - أن توسع صدرك وتوطن نفسك على الشك في كل ما أخذت به من الآراء والمذاهب، أي على اعتبار أن كل ما كان عندك بمنزلة العقائد التي لا تقبل الجدل يجب أن يعاد بحثه بغير هوى، وإلا كان ما يوشك أن تحاوله الآن من الحفر عملا لا خير فيه ولا جدوى منه، وأولى بك حينئذ أن تنصرف عنه. وكما أن الذي يحتفر بئراً لا يستطيع ذلك إذا هو اجتزأ بثقب ضيق إشفاقاً على الأرض أن يفسد منظرها بتوسيع الفوهة وأن يشوه استواءها، كذلك أنت لا تستطيع أن تصل إلى شيء إذا كنت ستصر على آرائك القديمة، فاضرب فيها كلها بمعولك وانظر كيف ثباتها، وهل تحتمل ذلك أم تتناثر وتتبعثر ذراتها وتنقلب ترابا يطير كالهباء، وهذا أول ما ينبغي أن تروض وتوطن نفسك عليه وإلا فتعبك ضائع مع الرياح الأربع.

ولم أجد لي معدي عن الرضى بمراجعة النفس وإعادة النظر بغير هوى في كل ما كنت أعده من الحقائق المفروغ منها. فقلت لنفسي: (يجب أن أبداً من البداية. والبداية هي أني خلقت لأعيش وأعطيت الحياة لأحيا. وهذا من البدائه، إذ لا يعقل أن أكون أعطيت الحياة لأرميها للكلاب، وإلا فلماذا أعطيتها إذن؟ وما دام الأمر كذلك فأن واجبي الأول هو أن أعيش وأحيا، وأن أحرص على الحياة وأضن بالعيش أن يفسده شيء بقدر ما يدخل هذا في الوسع. ثم إني لم أعط حياة الأبد، وإنما أعطيت حياة محدودة لها آخر كما لها أول، وهذا يضاعف وجوب الحرص عليها والضن بها على المفسدات، لأنها فضلاً عن القصر يسهل زوالها ويضيع معناها بسوء الرأي. وعلى إذن أن أنفي من جوها كل ما ينغص هذه الحياة أو يقصر عمرها أو يفسد فترتها. وأول ما ينغص هذه الحياة ويضيع معناها ويفسد الغاية منها ويعكس الآية فيها ويقلبها عذابا وجحيما، هذا الأدب الذي جننت به وضيعت خير شطر من عمري فيه. وما هو الأدب على كل حال. .؟ هو شيء - أعني كلاما - يحاول صاحبه به أن يوهم الناس أنه خير منهم وأرقى وأذكى وأفطن وأحس وأعلم، وأن خطوهم وراءه بأجيال إذ يخطو هو على مهل. ثم يرتقي المرء من إيهام الناس إلى إدخال الوهم على نفسه هو فيزعمها خالدة باقية على الزمن بآثاره - أي بالكلام الذي يصوغه - على حين تفني كل هذه الملايين من معاصريه وممن جاءوا قبله ومن سيجيئون بعده. فلماذا بالله يخلد كلامه وحده دون كلام هذه المئات العديدة من الملايين في كل أمة وكل زمن؟. . . ثم كيف يتاح هذا الخلود في حياة قائمة على الفناء المحقق؟. . . وليس الخلود ألف سنة ولا ألفين ولا ثلاثة ولا أربعة أو أكثر. . . وانظر من ذا الذي خلد إلى الآن. . . وفكر في أمل الذين نذكرهم إلى اليوم في دوام الذكر على الزمن. . . وإذا كنت الآن أعجب لشيء فإني أتعجب لذلك الذي يستطيع أن يفهم الخلود ويقنع بما فهم من معناه نفسه.

وأعترف بأني كنت أومن بالخلود في هذه الدنيا الفانية، ولكني أعترف أيضا أنها كانت عندي كلمة حلوة أرتاح إليها وأحس لها ندى على النفس وبردا على القلب من غير أن أدرك لها معنى محدوداً جلياً. وإذا كان هناك من يؤمن بهذا الخلود فيخيل إلى أنه إما أن يكون شاباً لم يعان الحياة ولم يواجه حقائقها، أو هو رجل لا يزال قادراً على مغالطة نفسه أو على الإيحاء إليها، أو فيه لوثة تمنع أن يجيء تفكيره مستقيماً؛ وقد يكون هناك غير هؤلاء فما أدعى الإحاطة ولا ما هو قريب منها. وبدا لي وأنا أفكر في هذا أن من السخف أن يتصور المرء أنه سيخلد بآثاره لا لسبب إلا أنه نشر كتاباً وأن الصحف أثنت عليه ومدحته. كأن الأجيال المقبلة ستعقم صحفا وكتابا هم أقرب إلى نفسها ومزاجها وأساليب تفكيرها وإلى احساساتها واتجاهاتها ونزعاتها من كتاب الجيل الذي مضى أو الأجيال التي اندثرت. وغريب أن يعتقد إنسان إن آراءه وأساليب تفكيره وكتابته الخ تظل هي الحبيبة الأثيرة إلى كل عصر على الأزمان كلها! كانت فكرة الخلود أول ما أخرجته وألقيته من الأوحال التي تراكمت على نفسي وحرمتني نعمة الشعور بالحياة - كما ينبغي أن يكون الشعور بها - والارتياح إليها. فقد كنت أستسخف الناس وأستحمقهم وأستقل عقولهم وأحتقر عواطفهم وأراهم دوني في كل شيء، ولا أكاد أطيق منها معارضة أو مخالفة يسيرة أو ملاحظة بريئة يحسن فيها القصد ولا تسوء النية؛ وكنت أترفع عنهم وأحس أني متواضع جداً حين أجالس أحدهم؛ وكان يزيد شعوري بالتواضع ويضاعفه أن أراني أكلمهم كما يتكلمون وأجاريهم في أحاديثهم الفارغة وثرثرتهم الجوفاء فأرضى عن نفسي كل الرضى وأقول لها في تسويغ هذا التواضع: (وماذا عسى أن يصنع المبصر بين العميان؟) وما أكثر الأعمال التي تركتها وفقدت رزقي منها لأني لم أطق من صاحبها الذي كنت أعمل معه أن يكلم رجلاً خالداً مثلي كأنه من أندادي - أو أن أسمع كلاماً يشعرني أنه لا يفطن إلى قيمة من هو معه ولا يدرك أنه خالد وأنه حقيق بالتقديس وجدير بأن يركع أمامه على ركبتيه. ولقد خاصمت مرة رجلاً لأنه لم يأخذ برأيي ولم يصدر عن مشورتي، فعددت منه هذا تطاولاً على مقامي؛ وغضبت على آخر لأنه نظر إلي نظرة تبينت فيها الحسد كان ما وهبنيه الله يمكن أن يطمع في مثله طامع. والويل لمن كان يحدثني ولا يحرص على أن تكون عينه في عيني. . . إذن هو يتعمد أن يفهمني أنه يستخف بي وأنا الذي يعي الزمان مكان نده.

وبعد أن أخرجت الخلود وأفرغت القفة من طينه أحسست أني حططت عن صدري جبلاً فقلت: (يا سلام. . . أما إنها لراحة كنت محروماً منها. . . والله لقد كنت مغفلاً. . . وما الذي أغراني بوضع هذا الجبل كله على صدري. . . وكيف بالله كنت أرجو أن أتنفس. . . أعوذ بالله. . . والحمد لله).

وبعد أن أخذت حظي من الراحة قلت لنفسي: (إذن ما الرأي في هذا الأدب الذي نكبني بفكرة الخلود وزين لي هذه المصيبة التي رزأت بها نفسي؟ (وفكرت ثم قلت) ما دمنا قد خلصنا من مصيبة الخلود، فالأدب أولا يكون وسيلة للتنفيس عن النفس والتخفيف عنها وإراحتها من ثقل العواطف والخوالج، وهذا هو الذي يسميه غيري فناً ذاتياً - وقد كنت مثلهم أفعل ذلك - وأسميه أنا سلوى شخصية، والمسألة ميل واستعداد. . فهذا يجد ما يسليه ويرفه عن في الألعاب الرياضية، وذاك يلتمس الترفيه في القمار، وثالث يجد التسرية في الرقص، ورابع يفوز بها من الأدب - أي من رص الكلام الفارغ. وليس الكلام الفارغ هو الذي يسري عن النفس، وإنما هو المجهود الذي يبذله المرء في رصف هذا الكلام. ومجهود رصف الكلام هو مجهود بدني ككل مجهود آخر، والمرء يحس بالإعياء والتعب بعده كما يحس بعد لعب الكرة أو غيرها. ولعل الإعياء فيه أشد لقلة الحركة الجسمية، وكثرة ما ينهك من الأعصاب.

ثم ينقلب الأدب صناعة مع طول المزاولة والتدريب، كما يمكن أن ينقلب أي فن آخر؛ ويصبح كما هو الحال والواقع عندي. ومن الناس في الأدب الهاوي أي الأديب الذي لم يتحول على الأيام وبالمزاولة صانعا، فهذا لا يزال يتخذه سلوى وملهاة يزجى بها الفراغ ويريح بها النفس ويرفه عن الأعصاب وإن كان يتعبها من ناحية أخرى كما يتعب المرء نفسه بالتنس والسباحة وغير ذلك: أما من صار مثلي فالأدب عنده صناعة وإن شق عليه أن يعترف بذلك ورأى في الاعتراف به غضاضة أو توهمها على الأصح لطول ما راض نفسه على النظر إلى الأدب كأنه فن سماوي يغري به الذي تميزه الطبيعة وتكتب له عندها الخلود كأن الطبيعة تحابي الناس على نحو ما يحابي الخلق بعضهم بعضاً.

وخرجت من هذا التفكير بأني في الواقع فتحت دكان أدب إذا أحسنت الإعلان عنها ولفت النظر إليها وأجدت عرض ما فيها من البضاعة فأني خليق أن أفوز بالإقبال عليها والطلب لما فيها فيكثر كسبي ويعظم ربحي كما هو الحال في كل تجارة أخرى. ولا فرق بين غيري من الأدباء وبيني إلا على قدر اعتمادهم في رزقهم على الأدب؛ فمن كان معوله مثلي عليه فالأدب عنده صناعة لا شك في ذلك، وإلا فهو رجل يسر الله له رزقه ففي وسعه أن يتسلى بالأدب كما يمكن أن يتسلى باقتناء الديكة أو الثعابين أو السجاجيد أو بالكرة أو التنس أو السياحة أو التوغل في مجاهل الأرض لصيد الأسود والفهود والفيلة إلى آخر ما يمكن أن يلهو به إنسان إذا رزق الوسيلة.

ولما انتهيت من هذا كله سهل علي أن أتلقى الحياة كما يتفق أن تجيء وأن أتقبلها بلا تذمر أو تسخط. وهان علي ما كان يبدو لي عسيراً فيما مضى قبل أن يرتد إلي عقلي الذي ذهب به جنون الأدب، فان لكل فن ضرباً من الجنون، وليس الأديب الذي يتوهم أنه خالد ويطلب أن يعامله الناس على هذا الاعتبار بأقل جنوناً من بائع الفول المدمس الذي يأبى أن يبيعك منه شيئاً ولو بذلت له مال قارون إلا إذا تقدمت إليه في تواضع ظاهر وقلت له إني أريد (لوزاً) بقرش. ولا فرق عندي - الآن - بين اعتداد الأديب بأدبه إلى ذلك الحد المبالغ فيه وبين تجبر بائع الفول وتحتيمه عليك أن تسمى فوله لوزاً لظنه أن تسميته لوزاً أبلغ في التبجيل وأدل على التوقير. وما يطلب بائع الفول في الحقيقة أن توقر الفول وإنما يطلب أن توقره هو، ولكنه يشعر أن طلب التوقير لشخصه مباشرة قد لا يلقى الارتياح، فهو يجعل من الفول أداة لما يشتهي ويروم ولا يفطن إلى أن الناس يجارونه ويضحكون منه ويتفكهون فيما بينهم بالتنكيت عليه لأنه لا يرى الضحك ولا يسمع النكت، وإنما يرى مظاهر الاحترام المتكلف ويسمع فوله يدعى لوزاً. وليست النعامة وحدها هي التي تستطيع أن تغالط نفسها وتتجاهل ما تغمض عينها عنه فأننا جميعاً مثلها وان كنا لغرورنا نضرب بها المثل في الحماقة. وكذلك الأديب الذي يطلب منك الاحترام والتوقير لخلوده إنما يطلب هذا لشخصه لا لأدبه؛ ولو أمكن أن يهتدي إلى وسيلة أخرى له ما يشتهى وما تتعلق به نفسه من الإجلال والإكبار غير الأدب لما قصر في اتخاذها، ولكان الأرجح - إذا وجدها أجدى عليها - أن يتساهل فيما يجب للأدب من الإكبار، بل لرأيته يدعي أنه إنما يكتب أو ينظم أحياناً للتسلية لا لمنافسة الأدباء المحترفين. وكل إنسان يشتهي المجد أو التمجيد من الطريق الذي يراه أوفق له ويرى نفسه أقدر على انتهاجه ولا فرق من هذه الناحية بين الأدب وبين رفع الأثقال والحرب والموسيقى والسياسة وغير ذلك، فإنها جميعاً وسائل يستعين بها الإنسان على ما يريد من الفوز بالتمجيد الذي تصبو إليه نفسه.

وقد وجدت وأنا أنقب وأحتفر حجارة كثيرة تفتتت من صخرة الخلود الضخمة زحزحتها وأخرجتها ورميتها مثل النبوغ والعبقرية وما أشبه ذلك فألقيتها جميعاً، فشعرت بالراحة وأحسست أن ما كان يسد متنفسات روحي قد زال والحمد لله على التوفيق؛ ورأيتني قد رجعت إنساناً بعد أن كنت دفتراً أو كتاباً كالكتب التي عندي، وكل ما كان ينقصني هو أن أجد من يغللني أو يجلدني ليتسنى أن أوضع على رف كبقية الكتب وعلى ظهري كما على ظهورها (كشكول المازني). والواقع أني لم أكن إلا كشكولاً فيه خليط مضطرب غير متسق من الآراء المستمدة أو المولدة من هنا وههنا فصرت بعد التنقية الدقيقة التي أجريتها في نفسي إنساناً يشعر بالحياة التي وهبها ويلتذها وينعم بها ويحرص عليها كما ينبغي أن يفعل ويوفر لها الأسباب التي تعين على زيادة الإمتاع المستفاد منها.

وكنت كالذي وقف وفي يديه ما يشبه المنظار فإذا رفعه إلى عينيه لم ير إلا الصورة المطبوعة أو المنقوشة على زجاجة وهو يحسب انه يكبر له الأشياء ويجسم له المناظر. أما بعد التنقية فقد رميت هذا الذي كنت أحسبه منظاراً مكبراً ونظرت بعيني لا بعيون الغير فبدت لي الدنيا بما فيها من جمال وقبح ومن خير وشر ومن عرف ونكر، وأنا الآن أخوض العباب وأغالب التيار وأصارع الموج، وأطفو تارة وأرسب أخرى، ولا أعدم ما أتعلق به فأنجو وأستريح وأستجم إذا أدركنا التعب لاكما كنت - واقفاً على الساحل أصف ما لم أجرب وأتحدث عما لم أختبر تقليداً لإحساس غيري ومجاراة لنظراته وأنا لا أدري أني لست سوى مقلد وإن كنت أزعمني مبتكراً.

وخطرت لي حكاية، فقد زعموا أن صانعاً بارعاً منقطع النظير خاف المعجبون بحذقه وأستاذيته أن يدركه الأجل فيموت معه فنه ويلف عليه وعلى براعته كفن واحد، فتقدموا إليه يرجون منه أن يتخذ له تلاميذ يعلمهم فأبى، فألحوا فلم يلن، فشكوه إلى الحاكم فأمره أن يفعل فلم يطع فسجنه، ولبث في السجن أياماً، فتشاور محبوه وإخوانه في الأمر فقال أحدهم: (أنا أحل لكم هذا المشكل) ودعا إليه واحداً من أتباعه وقال له أنّا سنسجنك مع هذا الصانع في حجرة واحدة فكن معه الرفيق المخالف، فإذا ضحك فاعبس أنت، وإذا رأيته يعبس فاضحك أنت وقهقة، وهكذا في كل شيء. (ففعل الرجل كما أمره فكاد الصانع يجن وطلب أن يأخذوه إلى الحاكم، فلما صار عنده قال له إنه مستعد أن يعلم ألف تلميذ ولا يبقى ساعة واحدة مع هذا الرفيق المخالف في غرفة واحدة.

بمثل هذا يجب - في رأيي - أن يعالج الذين يصرون على الحكم لنفسهم بالخلود قبل أن تحكم لهم الأيام فما أعرف طريقة أجدى وأكفل بشفائهم من طريقة الرفيق المخالف.

إبراهيم عبد القادر المازني