مجلة الرسالة/العدد 175/نظرية النبوة عند الفارابي

مجلة الرسالة/العدد 175/نظرية النبوة عند الفارابي

ملاحظات: بتاريخ: 09 - 11 - 1936



للدكتور إبراهيم بيومي مدكور

مدرس الفلسفة بكلية الآداب

- 3 -

أسلفنا القول عن إحدى الشخصيتين اللتين أثارتا مشكلة النبوة أثناء القرن الثالث والرابع للهجرة في شكل حاد، ونعني بها ابن الراوندي. واليوم نريد أن نتحدث عن الشخصية الأخرى التي ليست أقل من الأولى خطراً في هذا المضمار والتي ربما كانت أعرف لدى جمهور القراء، وهي شخصية أبي بكر محمد بن زكريا الرازي الذي ولد سنة 250 هجرية بالري حيث تعلم الرياضيات والفلك والأدب والكيمياء. ويظهر أنه لم يتقدم للدراسات الطبية إلا بعد أن بلغ سنا خاصة، ولكنه لم يلبث أن برز فيها على جميع معاصريه وأحرز شهرة كبيرة. فصار يتنقل من بلاط إلى بلاط، ومن مدينة إلى مدينة، يشرف على مستشفاها ويأخذ بيد العلاج والطب فيها. وكان في كل هذا يحن إلى الري ويعود إليها من حين لآخر إلى أن توفى بها في العقد الثاني في القرن الرابع. وليس هناك شك في أن الرازي هو أكبر طبيب في الإسلام، بل وفي القرون الوسطى على الإطلاق. فقد أحاط بكل النظريات الطبية القديمة وأدخل عليها عناصر جديدة هدته إليها تجاربه الكثيرة، ومنح الكيمياء كذلك قسطاً كبيراً من عنايته، ودرسها دراسة واقعية تجريبية قضت على كثير من الخرافات والأباطيل التي لصقت بها في ذلك العهد. ولم يكن الرازي طبيباً وكيميائياً فحسب، بل اتجه نحو الفلسفة وكتب فيها عدة أبحاث. ولقد كان حريصاً كل الحرص على أن يلقب بالفيلسوف؛ ولذلك لما أحس أن بعض معاصريه ينكرون عليه هذا اللقب سارع إلى الرد عليهم، وبين في رسالة خاصة مميزات الفيلسوف العلمية والعملية محاولاً أن يطبقها على نفسه. وهو في طبه وفلسفته واثق من نفسه كل الوثوق وإلى درجة لا نكاد نجدها لدي أي شخص من مفكري الإسلام. فهو ينتقد جالينوس في بعض آرائه، ولا يتردد في أن يرفض فريقاً من النظريات الأرسطية، ويضع نفسه في مصف أبقراط وسقراط من الأطباء والفلاسفة السابقين. وفوق هذا فهو لا يسلم بتلك الجملة المشهورة: (ما ترك الأول للآخ شيئاً) ويعتقد على العكس منها أن السابقين تركوا للاحقين أشياء كثيرة. وقد استدرك هو نفسه على القدامى جزءاً من نقصهم وأصلح بعض أخطائهم. ولا نظنه ينكر علينا إذا حاولنا اليوم أن نثبت ما في آرائه من ضعف أو خطأ، وما أشبهه في هذا ببيكون بين الطبيعيين والفلاسفة المحدثين. وليس بغريب أن يقف هذا الموقف أشخاص ينادون بالتجربة ويؤمنون بنظرية التقدم العلمي المستمر. فالرازي إذن مجدد وذو آراء مستقلة يجدر بنا أن نعرفها بصرف النظر عن خطئها أو صوابها، شذوذها أو اعتدالها.

لم تستبق لنا الأيام، ويا للأسف، كثيراً من مؤلفات الرازي الطبية والكيميائية والفلسفية، إلا أنا ربما كنا أعرف بطبه وكيميائه منا بفلسفته. والسبب في ذلك أن الباحثين من المحدثين عنوا بالرازي الطبيب والكيميائي أكثر من عنايتهم بالرازي الفيلسوف. ونحن لا ننكر أن جانبه العلمي أوضح وأقوى من جانبه الفلسفي، وأن ما وصل إلينا من كتبه الطبية والكيميائية يزيد نسبياً على مخلفاته الفلسفية. بيد أن في فلسفته جرأة وغرابة تدفع الباحث إلى دراستها وتفهمها. وإذا كان شذوذها وخروجها على المألوف هما من دواعي الإعراض عنها والتنفير منها فأنهما في الوقت نفسه من وسائل الترغيب فيها والتشويق إليها. ونعتقد أنا نستطيع الآن أن نكون عنها فكرة كاملة على ضوء ما نقله أبو حاتم الرازي والبيروني والكرماني ونصيري خسرو، وبعض الرسائل القليلة التي وصلت إلينا والتي كتبها الرازي نفسه.

لئن كان الرازي قد اشتغل بالفلسفة فإنه يفترق عن فلاسفة الإسلام المعروفين في نواح كثيرة. فهو يهاجم أولا أستاذهم وزعيمهم أرسطو ويخرج على كثير من نظرياته الطبيعية والميتافيزيقية.

ويبالغ ثانيا على العكس منهم في التعليق بأهداب الآراء المزدكية والمانوية والمعتقدات الهندية. وينكر أخيراً كل الإنكار محاولتهم التوفيق بين الفلسفة والدين. ويرى أن الفلسفة هي السبيل الوحيد لإصلاح الفرد والمجتمع، وأن الأديان مدعاة التنافس والتطاحن والحروب المتتالية. وقد كتب كتابين عدهما البيروني بين الكفريات، وهما: مخاريق الأنبياء أو حيل المتنبئين، ونقض الأديان أو في النبوات. وقد صادف الكتاب الأول نجاحا لدى بعض الطوائف التي انتشر فيها الزندقة والإلحاد وخاصة لدى القرامطة. ويذهب الأستاذ ماسنيون إلى أن أثره تعدى إلى الغرب وكان منبع تلك الاعتراضات التي وجهها عقليو أوربا إلى الدين والنبوة في عهد فرديك الثاني. وحتى اليوم لم يوقف له على أثر بين المطبوعات والمخطوطات العربية. وأما الكتاب الثاني فقد وصلنا منه فقرات عن طريق غير مباشر في كتاب أعلام النبوة لأبي حاتم الرازي المتوفى سنة 330 هجرية. وأبو حاتم هذا من أكبر دعاة الإسماعيلية الذين أبلوا بلاء حسنا في طبرستان وأذربيجان في أوائل القرن الرابع للهجرة. وقد كان معاصراً ومواطناً للرازي الطبيب، ودارت بينهما مناقشات حادة ومتعددة حضرها بعض العلماء والرؤساء السياسيين

وقد شاء أبو حاتم أن يدون هذه المناقشات في كتابه أعلام النبوة. حقا إنه لا يصرح في هذا الكتاب باسم الرازي ويكتفي بأنه يوجه نقده إلى من سماه الملحد؛ غير أن هناك أدلة قاطعة على أن هذا الملحد ليس شخصاً آخر سوى الرازي. فان حميد الدين الكرماني المتوفى سنة 412هـ وزعيم الدعاة الإسماعيليين في عصر الحاكم بأمر الله يصرح في كتابه الأقوال الذهبية بأن مناقشات في النبوة والمناسك الشرعية دارت بين الرازي والشيخ أبي حاتم بجزيرة الري أيام مردادج وفي حضرته. والكرماني حجة في هذا الباب فإنه أعرف ما يكون بأخبار الإسماعيليين زملائه وبمواقف الرازي وآرائه التي أخذ على عاتقه أن ينقض بعضها في كتابه الآنف الذكر. ومما يؤسف له أن مخطوطة أعلام النبوة الوحيدة، التي وصلت إلينا، بدون مقدمة؛ ويغلب على الظن أن هذه المقدمة المفقودة كانت تشتمل على غرض الكتاب والدافع إلى تأليفه. فكتاب أعلام النبوة يقفنا على الاعتراضات الرئيسية التي وجهها الرازي إلى النبوة وأثرها الاجتماعي؛ وعليه نعتمد هنا أولاً وبالذات.

وهذه الاعتراضات في جملتها تقترب بعض الشيء من الاعتراضات التي أثارها ابن الراوندي من قبل. وكأن الرجلين يرددان نغمة واحدة ويصدران عن أصل معين، أو كأن تعاليم هندية وآراء مانوية اختفت وراء حملتهما. ونحن نعلم من جهة أخرى أن الرازي يقول بالتناسخ الذي عرفت به السمنية من الهنود، ويتشيع للمانوية الذين كانوا يدسون في غير ملل للإسلام ومبادئه؛ ولا يبعد أن يكون قد وقف على نقد الإغريق للديانات على اختلافها. وسواء أكان الرازي متأثراً بعوامل أجنبية أم معبراً عن آرائه الشخصية فإنه يصرح بأن الأنبياء لا حق لهم في أن يدعوا لأنفسهم ميزة خاصة، عقلية كانت أو روحية، فان الناس كلهم سواسية، وعدل الله وحكمته تقضي بالامتياز واحد على الآخر. أما المعجزات النبوية فهي ضرب من الأقاصيص الدينية أو اللباقة والمهارة التي يراد بها التغرير والتضليل. والتعاليم الدينية متناقضة يهدم بعضها بعضا ولا تتفق مع المبدأ القائل إن هناك حقيقة ثابتة؛ ذلك لأن كل نبي يلغي رسالة سابقه وينادي بأن ما جاء به هو الحق ولا الحق سواه؛ والناس في حيرة في أمر الأمام والمأموم والتابع والمتبوع.

والأديان في جملتها هي أصل الحروب التي وقعت فيها الإنسانية من قديم، وعدو الفلسفة والعلم. وربما كانت مؤلفات القدامى أمثال أبقراط وأقليدس وأفلاطون وأرسطو أنفع من الكتب المقدسة. يقول الرازي: (الأولى بحكمة الحكيم ورحمة الرحيم أن يلهم عبادة أجمعين معرفة منافعهم ومضارهم في عاجلهم وأجلهم ولا يفضل بعضهم على بعض، فلا يكون بينهم تنازع ولا اختلاف فيهلكوا. وذلك أحوط لهم من أن يجعل بعضهم أئمةً لبعض فتصدق كل فرقة أمامها وتكذب غيره، ويضرب بعضهم بالسيف ويعم البلاء ويهلكوا بالتعادي والمجاذبات، وقد هلك بذلك كثير من الناس كما نرى).

نظننا في غنى عن أن نشير إلى أن أقوال الرازي هذه تمثل أعنف حملة وجهت إلى الدين والنبوة طوال القرون الوسطى. بيد أن الشيخ أبا حاتم استطاع أن يقابل هذه الحملة وجهاً لوجه ويخذلها، وأن يهدم هذه الفتنة من أساسها. وفي كتابه أعلام النبوة صفحات تفيض إفحاماً وإعجازاً، ومناقشات تسد على المكابرين والمعاندين سبل التخلص والفرار. وحبذا لو نشر هذا الكتاب في جملته فضم آية إلى آيات الإسماعيلية الكثيرة وأثراً من آثارهم العلمية النفيسة. وأبو حاتم ممن أحسنوا الجدل والمناقشة والأخذ والرد. وكيف لا وهو داع مهمته أن ينتصر لدعوته، ويرد عنها شبه الخصوم والمعارضين؟ فهو لا يرد على الرازي بقضايا مسلمة وأدلة مشهورة، وإنما يحمله على أن يرفض نفسه بنفسه، ويبين له أن أقواله وآراءه متهافتة ومتناقضة. وهو فوق هذا لا يتكلم باسم الإسماعيلية وحدهم، بل باسم الإسلام والعقل والإنسانية جمعاء. ذلك لأن مشكلة النبوة لا تتصل برفقة دون فرقة، ولا تعني طائفة منفردة من طوائف الإسلام.

وقارئ كتاب أعلام النبوة لا يشعر مطلقاً أنه يحمل شارة خاصة على عكس كتب الفرق المختلفة. وهنا نقطة نحب أن نلفت النظر إليها، وهي أن حملة الرازي وابن الراوندي من قبله على الأديان والنبوات أثارت الأوساط الإسلامية على اختلافها، وحفزتها إلى الدفاع عن معتقداتها. فأبو علي الجبائي الكبير (المتوفى سنة 303هـ) وابنه أبو هاشم (المتوفى سنة 324هـ) المعتزليان، وأبو الحسن الأشعري (المتوفى سنة 324هـ) زعيم أهل السنة رأوا من واجبهم أن يردوا على ابن الراوندي؛ ومحمد بن الهيثم الفلكي والرياضي (المتوفى سنة 430هـ) أخذ على عاتقه أن ينقض رأي الرازي في الإلهيات والنبوات.

إلا أن الإسماعيلية بوجه خاص قد بذلوا في هذا المضمار همة عالية ومجهودا صادقا؛ ومعظم الردود على منكري النبوة إنما وصلتنا عن طريقهم. وليس هذا بغريب، فأن الإسماعيلية في تعاليمها الدينية ومبادئها السياسية تقوم على النبوة وتعتمد عليها.

في هذا الجو المملوء بالحوار والمناقشة في موضوع النبوة الخطير نشأ الفارابي، وكان لا بد له أن يقاسم في هذه المعركة بنصيب. لاسيما وهو معاصر لابن الراوندي والرازي معا؛ فقد ولد سنة 259 هجرية وتوفى سنة 339. ويروى المؤرخون أنه كتب ردين، أحدهما على بن الراوندي والآخر على الرازي؛ ونأسف جد الأسف لأن هذين الردين لم يصلا إلينا. وقد نستطيع أن نتكهن بموضعهما على ضوء الملاحظات السابقة. فإنه لا يتوقع أن يرد الفارابي المنطقي الفيلسوف على ابن الراوندي إلا في شيء يتصل بالمنطق والجدل اللذين أخل الأخير بقواعدهما، أو في مبدأ من مبادئ الفلسفة والإلهيات التي خرج عليها.

ولابد أن يكون الفارابي، وهو الأرسطي المخلص والمعنى بالسياسة والاجتماع، قد أخذ على الرازي كذلك أشياء كثيرة، في مقدمتها التهجم على أرسطو وإنكار مهمة الرسول السياسية والاجتماعية. على أن الفارابي لم يكتف بهذا الموقف السلبي وهذا الدفع الذي إن رد عن النبوة بعض خصومها الحاضرين فهو لا يمنحها أسلحة تستعين بها على هجمات المستقبل. وعلى هذا أجهد نفسه في أن يقيم النبوة على دعائم عقلية ويفسرها تفسيرا علمياً، وبذا استطاع أن يبطل كلمة أنصار العقل الموهومين، ويدحض دعوى المتفلسفين الذين يزعمون أن الدين لا يمكنه التآخي مع الفلسفة، ولا القرب منها. ومن غريب المصادفات أن هذه الدعائم الجديدة ترجع إلى أصل أرسطي؛ فكأن الفارابي قد تمكن في نظرية النبوة أن يصوب إلى هدفين ويحظى بغايتين، فأسس الأديان تأسيسا عقلياً فلسفياً وأبان للناس أن أرسطو الذي تهجم عليه الرازي وأنكره آخرون جدير بحظ كبير من الإجلال والتقدير.

(يتبع)

إبراهيم بيومي مدكور