مجلة الرسالة/العدد 175/الحرب الأهلية الإسبانية

مجلة الرسالة/العدد 175/الحرب الأهلية الإسبانية

ملاحظات: بتاريخ: 09 - 11 - 1936



صراع بين الطغيان والحرية

خطر الفاشستية على السلم الأوربي

بقلم باحث دبلوماسي كبير

انتهت المأساة الإسبانية إلى موقف شديد الحرج، فمنذ أسابيع تطوق القوات الثائرة مدريد، وتشدد عليها الحصار والضغط، وتصلى المدافعين عنها والمسالمين من أهلها ناراً تحصد الأرواح بلا رأفة؛ ومنذ أسابيع تضطرب الجمهورية الإسبانية في يد القدر، وتبذل جهود المستميت للدفاع عن حياتها وكيانها؛ وقد لاح مدى لحظة حينما زحف الجيش الثائر على مدريد، وطوقها من معظم النواحي أن مدريد ستسقط تواً، وأن الجمهورية الإسبانية قد تلفظ أنفاسها الأخيرة في أيام قلائل؛ ولكن الجيش الثائر لقي مقاومة شديدة لم يكن يتوقعها؛ وتدل الأنباء الأخيرة التي وردت ونحن نكتب هذه السطور أن القوى الجمهورية التي تدافع عن مدريد قد عادت إلى الهجوم، واستردت بعض المواقع التي تشرف على العاصمة، وأن الأمل قد يتجدد بإنقاذ مدريد وإنقاذ الحكومة الجمهورية؛ بيد أن مصا ير الحرب قد تتغير فجأة، وقد تقسط مدريد في يد الثوار قبل أن تطلع (الرسالة) على القارئ بهذا المقال.

على أنه يجب أن نلاحظ أولاً أن سقوط مدريد لا يعني ختام الحرب الأهلية الإسبانية؛ ولا يعتبر نصراً حاسماً للثورة العسكرية؛ ذلك أن سقوط العاصمة قد قدر منذ بعيد وبحثت الحكومة الجمهورية كل ما يترتب عليه من الاحتمالات؛ ولن يترتب عليه من الوجهة المادية سوى كسب الثوار لمدينة جديدة، وإن كان يعتبر من الوجهة المعنوية فوزاً له قيمته؛ وما زالت الجمهورية مسيطرة على شرق إسبانيا كله من قطلونية حتى مالقة، وكذلك على قسم كبير من الأقاليم الوسطى والشمالية؛ فإذا سقطت مدريد؛ قامت الحكومة الجمهورية في برشلونة أو في قاعدة أخرى، واستمر النضال مضطرماً بين الفريقين.

ولكن هزيمة الثوار أمام مدريد قد تكون بالعكس موقعة الفصل في هذه الحرب البربرية المخربة؛ ذلك أن قوى الثوار ومواردهم محدودة، وقد دفعوا إلى المعارك الأخيرة بكل قواهم ومواردهم الاحتياطية. فإذا هزموا أمام العاصمة بعد أن لاح لهم أمل الظفر، تفككت قواهم وخبت روحهم المعنوية، وربما اضطروا إلى الانسحاب عن جزء كبير من الأقاليم التي يحتلونها؛ وعندئذ تتطور مصا ير الحرب في صالح الجمهورية.

ولقد عالجنا موضوع الحرب الأهلية الإسبانية منذ نشوبها في أواخر يوليه الماضي، وقلنا يومئذ والحوادث في بدايتها إن هذه الحرب الأهلية الداخلية ليست إلا طوراً من أطوار الصراع الأوربي العام بين الديمقراطية والفاشستية، أو بعبارة أخرى بين النظم الحرة والطغيان العسكري؛ وقد أيدت الحوادث رأينا وما زال كل يوم تكشف لنا عن هذه الحقيقة بأدلة مادية لا شك فيها؛ وإذا كان مما يدعو إلى الأسف أن حكومة مدريد الشعبية قد اضطرت إزاء الظروف القاهرة أن تعتمد في نضالها على بعض العناصر غير المرغوب فيها من شيوعية وفوضوية؛ فليس معنى ذلك أنها حكومة شيوعية كما تصورها لنا الدعاية الفاشستية، بل هي في الواقع حكومة جمهورية شعبية من ورائها العمال والفلاحون والطبقات الوسطى أو بعبارة أخرى من ورائها الشعب الإسباني. أما الثورة التي يرفع لواءها الجنرال فرانكو وزملاؤه من القواد والضباط الخوارج فهي ثورة النظم الطاغية التي حطمتها الجمهورية في سنة 1931، ومن ورائها الملوكية الذاهبة والكنيسة وأحبارها وكبار الملاك وأصحاب الأموال، والقواد والضباط الخوارج، وهي العناصر التي كانت تتمتع بالنفوذ والسلطان في ظل الملكية الذاهبة، وترهق الشعب الإسباني بطغيانها وامتيازاتها وجشعها؛ فلما ظفر الشعب الإسباني بالقضاء على الملوكية في سنة 1931 لبث أنصارها من الأحبار والملاك يترقبون الفرص للانتقاض على النظام الذي قضى على نفوذهم؛ وقامت الوزارة الجمهورية الأولى التي يرأسها السنيور أزانا ببعض الإصلاحات السياسية والاجتماعية كنزع ملكية بعض الضياع الكبيرة وتوزيعها على الفلاحين، وفصل جماعة من الضباط الذين يشك في ولائهم، والحد من سلطات الكنيسة وأحبارها، فزادت هذه الإجراءات في غضب العناصر الرجعية؛ وفرت رؤوس الأموال الكبيرة إلى الخارج، وزادت العطلة والبأساء وأخذت الجمهورية الجديدة تتخبط في غمار من الصعاب السياسية والاقتصادية؛ وجاءت بعد وزارة أزانا في أواخر سنة 1933 وزارة محافظة فألغت هذه الإصلاحات، ولكنها فشلت في معالجة الأزمة الاقتصادية؛ وأسفرت هذه الأزمة غير بعيد عن قيام بعض الحركات الثورية الخطرية، ولا سيما في منطقة الاستورياس وفي قطلونية حيث يشتد الاحتشاد الصناعية؛ وعملت العناصر الرجعة على إذكاء الثورة، ولكنها أخفقت وسحقت في سيل من الدماء؛ وقامت وزارة اشتراكية جديدة برآسة السنيور أزانا في فبراير الماضي، وعاد الفلاحون إلى المطالبة بنصيبهم من الأرض، واستولوا على كثير من الضياع واضطرت الحكومة أمام الضغط العام أن تقر هذه الحركة، واشتدت في محاسبة الكنيسة ونزع أملاكها وفي مطاردة أحبارها وتجريدهم من كل حول ونفوذ؛ ولكنها لم تفعل شيئاً لإصلاح الجيش وتطهيره من العناصر الناقمة، مع أن الجيش كان مصدر الخطر على الجمهورية، ولو فعلت لتغير سير الحوادث؛ ورأت العناصر الرجعية أن تلتف حول العناصر الناقمة في الجيش من قادة وضباط، وأن يتحد الجميع على مقاومة هذه الحركة الخطيرة التي ستنتهي بالقضاء عليهم وعلى أملاكهم وامتيازاتهم، وكانوا يضعون آمالهم في الجيش والحرس المدني، ويعولون على إسقاط الجمهورية بثورة عسكرية محلية، لأن الشعب لا يحبهم ولا يمكن أن يصغي إليهم؛ ولكن الحكومة الجمهورية كانت على شيء من التحوط والحذر، فاضطروا أن يولوا شطرهم إلى مراكش حيث تكثر العناصر الناقمة في الجيش، وحيث يستطيعون الاعتماد على الجند المغاربة، وعلى المعاونة الخارجية.

هكذا اجتمعت أسباب الثورة الإسبانية التي انفجرت في 17 يوليه الماضي، وتولى قيادتها الجنرال فرانكو حاكم جزر الكناري، وأحد زعماء الجيش الناقمين؛ على أن هذه الثورة لم تنشأ مستقلة، ولم تكن داخلية محضة، فقد كانت تعتمد منذ الساعة الأولى على المعاونة الأجنبية، ولم يك ثمة شك في المصدر أو المصادر التي قدمت هذه المعاونة؛ فقد رأت الفاشستية الإيطالية وهي عماد النظم العسكرية الطاغية في أوربا الجنوبية لأسباب سياسية وعسكرية أن تشد أزر الجنرال فرانكو، وأن تعاونه بكل الوسائل؛ ورأت ألمانيا النازية من جانبها أن تشترك في هذه المعاونة لأسباب وبواعث مشابهة، ذلك أن قيام حكومة عسكرية رجعية في مدريد تقوم على وسائل الطغيان والعنف التي تقوم عليها الفاشستية الإيطالية والنازية الألمانية، مما يقوي هذه النظم من الوجهة المعنوية، ومما يضعف جبهة الديموقراطية الأوربية التي تقف في وجه الفاشستية والنازية؛ وحصن الديموقراطية الأوربية إنكلترا خصيمة إيطاليا منذ الحرب الحبشية، وفرنسا خصيمة ألمانيا التاريخية؛ وإيطاليا ترى في قيام حكومة فاشستية في إسبانيا تقع تحت نفوذها وتأثيرها وسيلة لتقوية نفوذها في غرب البحر الأبيض وتهديد مركز إنكلترا في هذه المياه؛ ولذلك لم تدخر إيطاليا وألمانيا وسعاً في إمداد الثورة الإسبانية بالسلاح والذخائر والرجال؛ ولم يبق سرا أن أسطول الثوار الجوي كله يتكون من طيارات إيطالية وألمانية، وأن ضباطه جميعاً من الإيطاليين والألمانيين؛ وأن إيطاليا قد اتخذت من جزيرة ميورقة مركزاً لإمداد الثور الإسبانية وتموينها، وإن الإمدادات الألمانية تصل إلى الثوار من الشمال، ومن الغرب بواسطة البرتغال التي تعمل أيضاً في معاونة الثورة وإمدادها تحقيقاً لأطماع ومصالح خاصة؛ وقد ترددت فوق ذلك إشاعة قوية بأن هنالك اتفاقاً سرياً بين الثوار وبين إيطاليا وألمانيا والبرتغال، يقضي بأن تأخذ إيطاليا جزر البليار ثمناً لمعاونتها، وتأخذ ألمانيا جزر الكناري، وتأخذ البرتغال بعض الأراضي المجاورة لحدودها الشرقية؛ وهو اتفاق لا يبعد صدوره من زعماء عسكريين يعملون بمال الأجنبي وسلاحه لسحق الحريات الشعبية في بلادهم وإراقة دماء مواطنيهم على هذا النحو الذريع الذي تطالعنا به الأنباء كل يوم؛ وهذا الاحتمال مما يثير اليوم في فرنسا وإنكلترا أشد الجزع، لأن جزائر البليار على مقربة من المياه الفرنسية وهي واقعة في طريق الجزائر، ولأن حلول إيطاليا بها يعرض سيادة إنكلترا في غرب البحر الأبيض ومواصلاتها الإمبراطورية من طريق جبل طارق إلى أشد الأخطار على أن الدولة الفاشستية في الحوادث الإسبانية على هذا النحو كان له رد فعل مماثل؛ فقد رأت روسيا السوفيتية من جانبها أن تقاوم نفوذ الفاشستية في إسبانيا بمعاونة الحكومة الجمهورية، وقد قابلت المثل بإرسال السلاح والذخائر والطائرات إلى حكومة مدريد، وقد ظهر أثر هذه المعاونة أخيراً بثبات الجنود الجمهوريين وانقلابهم إلى الهجوم في كثير من المواقع حول مدريد؛ ولهذا التدخل الثنائي في الحوادث الإسبانية قصة دولية مضحكة، فقد اقترحت فرنسا في بدء نشوب الحرب الأهلية الإسبانية على الدول أن تتبع إزاءها سياسة الحياد المطلق، ووافقت على هذا الرأي إنكلترا وألمانيا وإيطاليا وروسيا والبرتغال، وأنشئت لجنة عدم التدخل لتراقب تنفيذ هذه السياسة المشتركة ولكن الدول الفاشستية كانت تعبث منذ الساعة الأولى بمبدأ الحياد، وكانت روسيا تقابلها بالمثل، وقد اشتركت فرنسا أيضا في معاونة حكومة مدريد ولكن بشكل مستتر؛ فلما ظهر أن الدولة الفاشستية تتمادى في معاونة الثورة، رفعت روسيا القناع أيضاً وأنذرت أنها تستأنف كل حريتها في العمل إذا لم تقم الدول الأخرى، أعني ألمانيا وإيطاليا، بالكف عن مساعدة الثوار؛ والآن تبدو مساعدة روسيا لحكومة مدريد بشكل واضح وتتقاطر السفن الروسية من البحر الأسود إلى مياه برشلونة وبلنسية واليقنت مشحونة بالذخائر والمؤن، وقد يتطور الموقف إلى أشد من ذلك، وقد يفضي هذا التدخل المزدوج غير بعيد إلى مصادمات وحوادث لا تؤمن عواقبها على السلام الأوربي.

لقد غدت الفاشستية مصدر الخطر على سلام أوربا، وكانت البلشفية قبل عامين مصدر هذا الخطر العام، ولكن روسيا السوفيتية رأت في النهاية أنها لا تستطيع أن تبقى في عزلتها الخطرة خصوصاً بعد أن استعادت ألمانيا جيشها وتسليحاتها في ظل الفاشستية الهتلرية، فانضمت إلى جبهة الدول الغربية، وعقدت مع فرنسا الميثاق الشهير الذي اتخذته ألمانيا ذريعة لنقض جميع تعهداتها العسكرية في معاهدة الصلح؛ وقد حل الخطر الفاشستي الآن في تهديد سلام أوربا محل الخطر البلشفي؛ وقوام هذا الخطر مطامع ألمانيا وإيطاليا العسكرية والاستعمارية؛ وقد رأت روسيا أن قيام دولة فاشستية جديدة في إسبانيا مما يقوي جبهة الدول الفاشستية ضدها، فرأت أن تخوض المعركة في إسبانيا ضد التدخل الفاشستي، وأن تعاون حكومة مدريد ما استطاعت لأن في فوزها فوزا للجبهة الديموقراطية التي اندمجت فيها روسيا.

فالمعركة التي تضطرم الآن في إسبانيا هي معركة مبادئ تذكيها المصالح والمطامع السياسية والعسكرية؛ وهي مظهر محلى لتلك المعركة العامة التي تضطرم في أوربا بين الجبهتين الخصيمتين؛ ومن الخطر على سلام أوربا وعلى حريات الأمم الضعيفة أن تنتصر هذه الثورة الفاشستية؛ وربما كان انتصارها نذير حرب أوربية إذا لم تنجح أوربا في حصر هذه الشعلة المضطرمة داخل إسبانيا؛ بيد أن المعركة ستستمر حينا آخر، وقد تتغير مصاير الحرب بين آونة وأخرى، فتحرز الجمهورية الإسبانية نصرها الحاسم، وتتحطم مشاريع الدول الفاشستية، وينجو السلام الأوربي مما يتهدده من الأخطار.

(* * *)