مجلة الرسالة/العدد 176/القلب المسكين (3)

مجلة الرسالة/العدد 176/ القلب المسكين

ملاحظات: بتاريخ: 16 - 11 - 1936


3 - القلب المسكين

للأستاذ مصطفى صادق الرافعي

أما صاحب القلب المسكين فرمقها وهي تلفت إليه التفات الظبية بسواد عينيها بجعل سوادهما الجميل في النظرة الواحدة نظرتين لعاشق الجمال، تقول إحداهما: أنت، وتقول الأخرى: أنا؛ ثم أراها وقد كسرت أجفانها وتفترت في يدي الممثل العشيق وأفصح منظرها ببلاغة. . . ببلاغة جسم المرأة المحبوبة بين ذراعي من تحبه؛ ثم اختلجت وصوبت وجهها، وأهدفت شفتيها؛ وتلقت القبلة.

وكان به منها ما الله عليم به، فانبعثت من صدره آهة مُعولة تئن أنيناً، غير أنها كلمته بعينيها أنها تقبله هو؛ فلا ريب قد حملت إليه إحدى النسمات شيئاً جميلاً عن ذلك الفم لمست به النفس النفس، والقبلة هي هي ولكن وقع خطأ في طريقة إرسالها. . .

ليس تحت الخيال شيء موجود، ولكن الخيال المتسرح بين الحبيبين تكون فيه أشياء كثيرة واجبة الوجود، إذ هو بطبيعته مجرى أحلام من فكر إلى فكر، ومسرحُ شعور يصدر ويرد بين القلبين في حياة كاملة الإحساس متجاوبة المعاني. وبهذا الخيال يكون مع القلبين المتحابين روح طبيعي كأنه قلب ثالث ينقل للواحد عن الآخر، ويصل السر بالسر، ويزيد في الأشياء وينقص منها، ويدخل في غير الحقيقي فيجعله أكثر من الحقيقي. ومن هنا لم يكن فرح ولا حزن، ولا أمل ولا يأس، ولا سعادة ولا شقاء، إلا وكل ذلك مضاعف للمحب الصادق الحب بقدر قلبين؛ والذين يعرفون قبلة الشغف والهوى يعرفون أن العاشق يقبل بلذة أربع شفاه.

وانسدلت بعد هذه القبلة ستارة المسرح، وغابت الجميلة المعشوقة غيبة التمثيل فقلت لصاحب القلب المسكين: إن روحيكما متزوجتان. . . قال: آه، ومدَّها من قلبه كأنه دنف سقيم.

قلت: وماذا بعد آه؟

قال: وماذا كان قبلها؟ إنه الحب فيه مثل ما في (عملية جراحية) من تنهدات الألم ولذعاته، غير أنها مفرقة على الأوقات والأسباب مبعثرة غير مجموعة. (آه)؛ هذه هي الكلمة التي لا تفرغ منها القلوب الإنسانية، وهي تقال بلهفة واحدة في المصيبة الداهمة، والألم البالغ، والمرض المدنف، والحب الشديد. فحينما توشك النفس أن تختنق تتنفس (بآه).

قلت: أما رأيتها مرة وقد أوشكت نفسها أن تختنق. . .؟

قال: لقد هجت لي داءً قديماً؛ إن لهذه الحبيبة ساعات مغروسة في زمن غرس الشجر، فبين الحين والحين تثمر هذه الساعات مرها وحلوها في نفسي كما يثمر الشجر المختلف؛ ولقد رأيتها ذات مرة في ساعة همها؛ ثم ضحك وسكت.

قلت: يا عدوَّ نفسه! ماذا رأيت منها؟ وكيف أراك الوجد ما رأيت منها؟

قال: أتصدقيني؟ قلت: نعم.

قال: رأيت الهمَّ على وجه هذه الجميلة كأنه همَّ مؤنث يعشقه همَّ مذكر. . . فله جمال ودلال وفتنة وجاذبية، وكأن وجهها يصنع من حزنها حزنين: أحدهما بمعنى الهم لقلبها والآخر بمعنى الثورة لقلبي.

قلت: يا عدو نفسه هذا كلام آخر؛ فهذه امرأة ناعمة بضّة مطوي بعضها على بعضها، لفّاء من جهة هيفاء من جهة، ثقيلة شيء وخفيفة شيء، جمعت الحسن والجسم وفناً بارعاً في هذا وفناً مفردا في ذاك، وهي جميلة كل ما تتأمل منها، ساحرة كل ما تتخيل فيها، وهي مزاحة دحداحة وهي تطالعك وتطمعك، وأنت امرؤ عاشق ورجل قوي الرجولة؛ فالجميلة والمرأة هما لك في هذا الجسم الواحد، إن ذهبت تفصلهما في خيالك امتزجتا في دمك؛ ولو أمسكت آلة التصوير نظراتك إليها لبانت فيها أطراف اللهب الأحمر مما في نفسك منها. ولعمري لو مرت عربة تدرج في الطريق ونظرت إليها نظرتك لهذه المرأة بهذه الغريزة المحتبسة المكفوفة لظننتك سترى العجلة الخلفية عاشقاً مهتاجاً يطارد العجلة الأمامية وهي تفر منه فرار العذراء. . .

فضحك وقال: لا، لا. إن نوع التصوير لإنسان هو نوع المعرفة لهذا الإنسان، ومن كل حبيب وحبيبة تجتمع مقدمة ونتيجة بينهما تلازم في المعنى؛ والمقدمة عندي أن إبليس هنا في غير إبليسيته، فلا يمكن أن تكون النتيجة وضعه في إبليسيته. وما أتصور في هذه الجميلة إلا الفن الذي أسبغه الجمال عليها، فهي في معرفتي وخيالي كالتمثال المبدع بداعة لا يستطيع أن يعمل عملاً إلا إظهار شكله الجميل التام حافلاً بمعانيه.

ليست هذه المرأة هي الأولى ولا الثانية ولا الثالثة فيمن أحببت؛ إنها تكرار وإيضاح وتكملة لشيء لا يكمل أبداً، هو هذه المعاني النسوية الجميلة التي يزيد الشيطان فيها من عشق كل عاشق. إن بطن المرأة يلد، ووجه المرأة يلد.

قلت: هذا إن كل وجهها كوجه صاحبتك، ولكن ما بال الدميمة؟

قال: لا هذا وجه عاقر. . .

قلت: ولكن الخطأ في فلسفتك هذه أنك تنظر إلى المرأة نظرة عملية تريد أن تعمل في تمنعها أن تعمل؛ فتأتي فلسفتك بعيدة من الفلسفة، وكأنك تغذو المعدة الجائعة برائحة الخبر فقط.

قال: نعم هذا خطأ، ولكنه الخطأ الذي يخرج الحقائق الخيالية من هذا الجمال؛ فإذا سخرت من الحقيقة المادية بأسلوب فبهذا الأسلوب عينه تثبت الحقيقة نفسها في شكل آخر قد يكون أجمل من شكلها الأول.

أتعلم كيف كانت نظرتي إلى نور القمر على هذه والى حسن هذه على القمر؟ إن القمر كان ينسيني بشربتها فأراها متممة له كأنه ينظر وجهه في مرآة، فهي خيال ووجهه؛ وكانت هي تنسيني مادية القمر فأراه لها كأنه خيال وجهها.

أتدري ما نظرة الحب؟ إن في هذا القلب الإنساني شرارة كهربائية متى انقدحت زادت في العين ألحاظاً كشافة وزادت في الحواس أضواءً مدركة، فينفذ العاشق بنظره وحواسه جميعا في حقائق الأشياء فتكون له على الناس زيادة في الرؤية وزيادة في الإدراك يعمل بها عملا فيما يراه وما يدركه. وبهذه الزيادة الجدية على النفس تكون للدنيا حالة جديدة في هذه النفس؛ ويأتي السرور جديدا ويأتي الحزن جديدا أيضاً. فألف قبلة يتناولها ألف عاشق من ألف حبيب؛ هي ألف نوع من اللذة ولو كانت كلها في صورة واحدة. ولو بكى ألف عاشق من هجر ألف معشوق لكان في كل دمع نوع من الحزن ليس في الآخر.

قلت: فنوع تصورك لهذه الراقصة التي تحبها، أن إبليس هنا في غير إبليسيته. . .

قال: هكذا هي عندي، وبهذا أسخر من الحقيقة الإبليسية.

قلت: أو تسخر الحقيقة الإبليسية منك وهو الأصح وعليه الفتوى. . .

فضحك طويلاً وقال: سأحدثك بغريبة. أنت تعرف أن هذه الغادة لا تظهر أبداً إلا في الحرير الأسود؛ وهي رقيقة البشرة ناصعة اللون فيكون لها من سواد الحرير بياض البياض وجمال الجمال. فلقد كنت أمس بعد العشاء في طريقي إلى هذا المكان لأراها، وكان الليل مظلما يتدجَّى، وقد لبس وتلبس وغلب على مصابيح الطريق فحصر أنوارها حتى بين كل مصباحين ظلمة قائمة كالرقيب بين الحبيبين يمنعهما أن يلتقيا؛ فبينا أقلب عيني في النور والغسق وأنا في مثل الحالة التي تكون فيها الأفكار المحزنة أشدَّ حزناً - إذ رفع لي من بعيد شبح أسود يمشي مشيته متفّترا قصير الخطو يهتز ويتبختر؛ فتبصرته في هيئته فما شككت أنها هي، وفتحت الجنة التي في خيالي وبرزت الحقائق الكثيرة تلتمس معانيها من لذة الحب، وكان الطريق خاليا فأحسست به لنا وحدنا كالمسافة المحصورة بين ثغرين متعاشقين يدنو أحدهما من الآخر، وأسرعت إسراع القلب إلى الفرصة حين تمكن، فلما صرت بحيث أتبين ذلك الشبح إذا هو. . . إذا هو قسيس. . .

فقلت: يا عجباً، ما أظرف ما داعبك إبليس هذه المرة وكأنه يقول لك: إيه يا صاحب الفضيلة. . .

وكان الممثلون يتناوبون المسرح ونحن عنهم في شغل إذ لم تكن نوبتها قد جاءت بعد؛ وألقى الشيطان على لساني فقلت لصاحبنا: ما يمنعك أن تبعث إليها فلانا يستفتح كلامها ثم يدعوها فليس بينك وبينها كلمة تعالي أو تفضلي.

قال: كلا، يجب أن تنفصل عني لأرها في نفسي أشكالا وأشكالا؛ ويجب أن تبتعد لألمسها لمسات روحية؛ ويجب أن أجهل منها أشياء لأحمق فيها علم قلبي؛ ويجب أن تدع جسمها وأدع جسمي وهناك نلتقي رجلاً وامرأة ولكن على فهم جديد وطبيعة جديدة. بهذا الفهم أنا أكتب وبهذه الطبيعة أنا أحب ما هو الجزء الذي يفتنني منها؟ هو هذا الكل بجميع أجزائه.

وما هو هذا الكل؟ هو الذي يفسر نفسه في قلبي بهذا الحب.

وما هو هذا الحب؟ هو أنا وهي على هذه الحالة من اليأس نعم. أنا بائس ولكن شعور البؤس هو نوع من الغنى في الفن لا يكون هذا الغنى إلا من هذا الشعور المؤلم. والحبيب الذي لا تناله هو وحده القادر قدرة الجمال والسحر؛ يجعلك لا تدري أين يختبئ منه جماله فيدعك تبحث عنه بلذة؛ ولا تدري أين يسفر منه جماله فيدعك تراه بلذة أخرى. أنا أنضج هذه الحلوى على نار مشبوبة؛ على نار مشبوبة في قلبي.

قلت: يا صديقي المسكين هذه مشكلة عرضت بها المصادفة وستحلها المصادفة أيضاً. وما كان أشد عجبي إذ لم أفرغ من الكلمة حتى رأينا (المشكلة) مقبلة علينا. . .

أما هو: أما صاحب القلب المسكين؟

(طنطا)

(لها بقية)

مصطفى صادق الرافعي