مجلة الرسالة/العدد 178/من الأدب الإنكليزي

مجلة الرسالة/العدد 178/من الأدب الإنكليزي

ملاحظات: بتاريخ: 30 - 11 - 1936



مرثية جراي

(تعد هذه المرثية من أبلغ المراثي في الشعر الإنكليزي، قرأها على صديقي الأستاذ حيدر الركابي فنقلتها إلى العربية كما فهمتها) (علي)

للأستاذ علي الطنطاوي

قُرع الناقوس ينعى النهار الآفل، وراح القطيع يزحف ببطء يتسلق الهضبة راجعاً إلى القرية؛ وعاد الفلاح إلى البيت يجر رجله تعباً. . . وبقى العالم لي وللظلام!

تدثر الكون بالسواد، وتوارى عن الأنظار، وسكنت الدنيا سكوناً مَهيباً، ولم يبق في الجو نامة تسمع، إلا هذه الأصوات العميقة تفيض بها الأودية البعيدة والشعاب النائية، وإلا طنين حشرة تطير، ونعيب بومٍ على تلك الدوحة، يشكو ظلم الناس وعدوانهم على وكره الآمن.

هنالك. . . عند تيك الشجرات القديمات، تحت تلك الرِّجام التي يزدحم عليها العشب، ويتكوَّمُ الكلأ. . . كان (أجداد القرية) ينامون إلى الأبد في حفرهم الضيِّقة، وأجداثهم العميقة.

لا يوقظهم نسيم الصباح الأرج، ولا تغريد البلبل الطَّرب ولا زقاء الديك المزهو، ولا زمّارة الراعي السعيد. . . كل ذلك لم يعد يوقظهم من رقدتهم.

لا. ولن توقد من أجلهم نيران المدافئ، ولن تقوم في خدمتهم ربات المنازل، ولن يهتف أطفالهم اللُّثغ فرحين بمقدمهم، ولن يتسلَّقوا ركبهم يستبقون إلى أحلى تمْنيةٍ لهم قبلة من آبائهم عند عودتهم إلى منازلهم وأهليهم.

كم كان المنجل العضب لسواعدهم، وكم كانت الأرض الصّلدة تشقق تحت معاولهم، والغابة القاسية كم لانت لضرباتهم.

كان عملهم مفيداً، وحياتهم مجدية، فلا يسخر الطموح من مسراتهم الهينة، وحياتهم المجهولة، ولا تستمع العظمة هازئة حديث الفقر، وقصته الساذجة القصيرة.

فان فخر القواد، وعظمة الأقوياء، وكل ما تمنحه الثروة، ويأتي به الجمال. . . كل ذلك ينتظر الساعة التي لا مفر منها، والغاية التي لا محيد عنها، لا فرق في ذلك بين عظيم وحقير، لأن طريق المجد لا ينتهي إلا إلى القبر! فيأيها المغترون، لا تلوموا هؤلاء المساكين إن خلت قبورهم من نُصُب المجد، وتماثيل العظمة، على حين تتصاعد ألحان الثناء وأغاني المديح، من بين جدران المدافن الفخمة، وتحت أقبيتها المزخرفة.

لأن البخور المحروق، والتمثال المنحوت، لا يرد الروح على الميت الراقد، وهتاف الناس، وعجيج الجماهير، لا ينفخ الحياة في التراب الجامد، وهمس التملق، وهجس التزلف، لا يبلغ سمع الموت البارد!

ومن يدري؟ فلعلّ في بطن هذه البقعة المهجورة قلباً كان يمكن أن يفيض منه النور السماوي، ويداً كانت تدير دفّة المركب السياسي، وأصابع كان يمكن أن تمشي على أوتار القيثارة الخالدة فتنشئ النغم السحري. . . ٍلولا أن العلم لم يفتح أمامها صفحاته الحافلة بثمرات الزمان!

أخمد النسيان جذوة أرواحهم النبيلة، وأجمد نهر حياتهم الجارية، وطغا عليهم لج الزمان. . . ولكن، كم في جوف البحر من جواهر مخبوءة، ولآلئ مجهولة، وكم في عرض البادية، من وردة تفتحت واحمرت، فلم يرها أحد، فضاع أريجها المطر في رياح الصحراء.

ومن يدري؟ فلعل هنا بطلاً (كهامبتن) كان حاكماً في حقوله مطلقاً، وكان جباراً شجاعاً، ولعل هنا (ملتون) آخر، ولكنه صامت مغمور، ولعل هنا (كرموِل)، ولكنه كرموِل برئ من دم أبناء الوطن!

منعهم القدر من الاستمتاع بهتاف الجماهير، وتصفيق البرلمانات، ومنعهم من المغامرة، وركوب الأهوال، وازدراء المصاعب، واحتقار العقبات، ومنعهم من نثر الخيرات على بلادهم، وقراءة تأريخهم في عيون الشعب.

ولكن القدر لم يمنعهم مزاياهم وحدها وفضائلهم، بل منعهم رذائلهم أيضاً وجرائمهم. . . فلم يرتقوا العروش على الجماجم، ولم يسدوا أبواب الرحمة على البشر، ولم يخفوا حمرة العار والخجل، ولم يخفتوا صوت الضمير، ولم يعطروا معابد ترفهم واستكبارهم بالبخور الذي تحرقه (ربّة الشعر).

لقد اتبعوا طريقهم السوي في وادي الحياة المنعزل البارد، وساروا فيه صامتين، لم تتعلم أمانيهم القريبة، وشهواتهم البريئة الخروج بهم عن صفوف الشعب المناضل على الحياة، المزاحم على البقاء.

ولكنهم - مع ذلك - لم تخل قبورهم، من أثر للذكرى ضئيل: شعور مكسور، ونقش محطوم، يستجدي المارة آهة العطف، وهمسة التقدير، ويحفظ عظامهم من أن تهان.

إن هذا الشعر - شعر الأميّة الساذجة - الذي ينطق بأسمائهم وأعمارهم، يقوم مقام التعظيم والتبجيل والرثاء، وينشر بين القبور نصوصاً مقدسة، تعلم المربين والمعلمين كيف يصمتون ويتعلمون.

وأي امرئ بلغ من خمول الذكر والهوان على الناس يترك الدفء والنور والسعادة من غير أن يلتفت إلى الوراء فيودع العالم بنظره. . . إن الروح الراحلة تريد أن تتكئ قبل رحيلها على صدر محب، والعين المغمضة تحتاج قبل إغماضها إلى دموع الإخلاص. . . بل إن صراخ الحياة لينبعث من صميم القبر فيضرم نارها في رمادنا البارد.

وبعد، فيأيها الشاعر الذي يقوم في المقابر، ويندب الموتى المنسيين، إني لألتفت الآن إليك، فأرى رجلاً مثلك، شاعراً هائماً، قد جاء يبحث عما حلّ بك، وانتهى إليه مطافك، فوجد فلاحاً هرماً فسأله عنك، فقال له:

لقد طالما رأيناه عند انبلاج الفجر، يسرع الخطو ليستقبل الشمس من ذروة الهضبة.

وطالما لمحناه في الظهيرة متمدداً بجسمه المنهوك على أقدام تلك الشجرة الهرمة، وفوق جذورها البادية العجيبة يرقب الجدول الذي ينساب إلى جانبه، ويتأمل أمواهه الهادرة المتكسرة، وطالما أبصرناه هائماً على وجهه بالقرب من هذه الغاية باسماً آناً كأنه ساخر من كل شيء، وآناً عابساً كئيباً كأنه مضني هدته الآلام، وأم مريض قتله الحب اليائس.

وفي ذات صباح، نظرنا إلى الهضبة فلم نجده، فبحثنا عنه في الذروة، وعند الشجرة، والى جانب الجدول، وبالقرب من الغابة فلم نقع له على أثر.

ثم رأينا شاعراً آخر يحتل مكانه.

ثم رأينا بعد نعشه محمولاً إلى المقبرة، ترتل من حوله أناشيد الموت.

وهاهو ذا قبره، قائم تحت تلك الشجرة التي كان يجلس إليها، فتعال اقترب. . . اقرأ ما عليه:

(هنا. . . في حضن الأرض، يرقد شاب تجهله الثروة ولا يدري به المجد، ولا يعرفه إلا الحزن الذي اصطفاه خليلاً وهو في المهد

كان كريماً مخلصاً، فكانت مكافأته عظيمة؛ منح البائسين كل ما يملك: وهو دمعه! ومنحه الله كل ما يطلب: وهو صديق

لم يحب أن يفيض في ذكر مزاياه أكثر مما أفاض، ولم يشأ أن يهتك الستر عن نقائصه، لأنه أودعها كلّها أمانة في قلب أبيه، وعند ربه. . .)

علي الطنطاوي