مجلة الرسالة/العدد 179/قصة المكروب

مجلة الرسالة/العدد 179/قصة المكروب

ملاحظات: بتاريخ: 07 - 12 - 1936



كيف كشفه رجاله

ترجمة الدكتور أحمد زكي

مدير مصلحة الكيمياء

- 3 -

إن العلم يجب أن يكون حراً طليقاً يبحث في العالم المجهول حيث شاء وأين يقع. هكذا تقول أنت، وهكذا كنت أقول يا سيدي، ومن أجل جهري بهذا الرأي وإعلاني إياه بصوت غير خافت ساء ما بيني وبين قوم ذوي نباهة وسلطان. كلانا مخطئ يا صحابي في زعمه! وشاهدنا إسميث الذي نحن بصدده. بدأ عمله مستمتعاً بحرية لا تزيد إلا قليلاً على حرية كاتب حكومي صغير، ووجب عليه ألا يبحث إلا في أشياء يمليها عليه الدكتور سلمون، وهذا بدوره إنما استخدم ليوجه إسميث إلى حل معضلات أعجزت المزارعين وأرباب المواشي. فالثلاثة جميعهم - سلمون وكلبورن وإسميث، وكذلك إسكندر، وليس بنا عنه غنى - كل هؤلاء دفعت السلطات إليهم أجورهم كما تدفعها إلى فرقة المطافئ، وانتظرت منهم مثل الذي تنتظره من فرقة المطافئ: أن ينهضوا كرجال الحريق كلما اشتعلت عدوى المرض في الخنازير والعجول والثيران والخرفان فيوجه إليها خراطيمهم فيندفع منها العلم اندفاعاً حتى تنطفئ فيعود البرء والسلام إليها. وكان أصحاب الماشية في هذا الوقت قلقين قلقاً شديداً من جراء مرض غريب يدعى بحمى تكساس.

كانت الأقطار الجنوبية تستورد أبقاراً من الشمال، فتساق هذه الأبقار السليمة من القطر الحديدية إلى المراعي فتنساب فيها فتختلط بأبقار الجنوب وهي جد سليمة، فيمضى الشهر أو الشهران على خير، ثم فجأة تظهر الوافدة الخبيثة في هذه الأبقار الشمالية الجميلة فلا تلبث أن تعاف الطعام، ويصيبها الهزال فتفقد في اليوم الواحد أرطالاً من وزنها، ويجري بولها أحمر غريباً، وتقف حائرة متقوسة الظهر حزينة العين، ثم لا تمضي أيام قليلة حتى تكون كل بقرة قد سقطت سقطة الإعياء، ثم ترقد على الأرض رقدة الموت، وقد تصلبت أرجلها، واستترت بجسومها الباردة المديدة أرض الحقول. وحدثت هذه المأساة عينها عند استورد أهل الشمال من الجنوب عجولاً، فلما رعت هذه العجول في الحقول ونزحت عنها، وحل محلها قطعان من بقر شمالي، لم يمض على هذا البقر ثلاثون يوماً أو نحوها حتى أخذ يموت، ولم تمض عشرة بعد أيام ذلك حتى عمه الموت.

أي موت غريب هذا الذي حملته الأبقار الجنوبية إلى الحقول الشمالية دون أن تصاب هي به، فاختبأ بعد ذلك في مخابئ الأرض يتربص لأبقار الشمال ليذيقها عذاب الموت ألواناً؟ وما السر في أنها إذا طلعت على هذا الموت المخبوء لا يبادرها بالهلاك بل يتمهل شهراً أو يزيد؟ وما السر في أن هذا الهلاك لا يحيق بها إلا في أشهر الصيف الحرار.

وثارت ثائرة الأمة كلها من أجل هذا، وساءت العلاقة بين أصحاب البقر في الشمال وأصحاب البقر في الجنوب. وهاجت مدينة نيويورك وارتاع أهلها لما جاءت الأنباء بموت مئات من الأبقار في القطر التي كانت تحملها من الغرب إليها لتغتذي من لحومها. وتحرج الموقف، وصار لا بد من عمل شيء، فنهض الأطباء الفخام في مصلحة الصحة للمدينة العظيمة وأخذوا في البحث عن المكروب الذي سبب هذا الداء. . .

وكان في الغرب طائفة من البقارين كسبوا الحكمة من طول تربيتهم للبقر، فخالوا لهذا الداء علة أوحيت إليهم إيحاء من خلل الدخان المتصاعد من نراجيلهم وهم يتأسون بتدخينها فوق الجثث المركومة التي أضاعوها بسبب هذا الداء. خالوا في شيء من الإبهام أن هذه الحمى التكساسية تسببها حشرة تعيش على جلد البهيمة وتمتص دمها، وأسموا هذه الحشرة القرادة

وضحك الأطباء العلماء في مصلحة الصحة بالمدينة العظيمة، وضحك معهم كل بيطري ممتاز في المحطات التجريبية الحكومية.

قرادة تقدح حمى! حشرة تخلق داء، من ذا الذي سمع بهذا أبداً! وأي علم يرضاه؟ إنها حماقة بالغة! وقال الدكتور جامجي وهو عمدة في الموضوع معروف: إن تفكيراً يسيراً قصيراً يقنع كل أحد بسخافة الفكرة. وكان قائماً قاعداً في بحث حمى تكساس، ولكن لفظة القراد لم تخرج من فيه أبداً. وكان العلماء في كل نواحي القطر قائمين في تقطيع أجسام الأبقار النافقة وكانوا يجدون البشلات في بطونها، ولكنهم لم يستخرجوا منها قرادة واحدة! قال أحدهم: إن روث البهائم ينشر بينها الحمى، فقال الآخر: إنك مخطئ، بل إن اللعاب ينقلها. وهكذا تعددت النظريات بتعدد الباحثين، وظلت الأبقار تموت وهم يختلفون.

- 4 -

وفي عام 1888 كلف الدكتور سلمون رجاله الثلاثة أن يتوفروا على بحث الحمى التكساسية، فوضع اسميث في القيادة يعاونه كلبورن، ثم اسكندر ينظف من ورائهما. وطلب إليهم (أن يكتشفوا الجرثومة)، ولم يذكر لهم شيئاً عن القراد. ولم يأتهم في هذا العام من البقر غير أربع من الأكبدة ومثلها من الأطحلة، جاءتهم في الثلج في جرادل من فرجينيا وماريلاند إلى غرفتهم في ذروة البناء وهي كالفرن في حرارتها.

وكان لدى اسميث حس لم يكن لدى سائر البحاث، فحرر مكرسكوبه على قطع من الطحال الأول فرأى فيه مكروبات كثيرة عديدة الأنواع. واقترب بأنفه منها فتجعد من سوء ما أحس من رائحتها. فقد كانت فاسدة.

عندئذ قام يرسل الرسائل فوراً إلى البقارين أن ينتزعوا أحشاء البقر عقب موته بلا تريث، وأن يرسلوها إليه في الثلج، وأن يعملوا على تقصير ما تستغرق من الوقت في سفرها. وأنفذوا ما أراد. ونظر في الأطحلة لما جاءته فلم يجد بها مكروبة واحدة، ولكنه وجد بها عدداً كبيراً من خلال الدم الحمراء قد انفقع لغير سبب ظاهر، قال: (إن هذه الخلايا انفقعت فتحطمت بفعل فاعل)، ولكنه لم يجد مكروباً، وكان لا يزال حدثاً، وكانت به سخرية الشباب، وكانت به قلة اصطبار واحتمال للبحاث الذين لا يقدرون على التفكير العميق والتركز الشديد.

وكان رجل يدعى بيليجنس ادعى في سخافة أنه رأى بشلة عادية في كل جزء من جثة كل بقرة فحصها، وفي كل ركن من أركان الزريبة، حتى في أكوام روثها، ونسب إلى هذه البشلة حمى تكساس، ونشر عن ذلك مقالاً قال يفتخر فيه: (إن شمس البحوث الأصيلة في الأدواء تحول مطلعها من الشرق إلى الغرب).

قرأ إسميث هذا المقال فقال: (تلك لعمري طنطنة الفخور الغالي). وعقب على هذا ببضع جمل قصيرات قاسيات نال بها شر منال من هذا العبث الذي يدعى علماً. واستيقن أن لا فائدة من الجلوس في معمل مهما كثرت خنازيره الغينية، وترصصت زاهيةً بارقةً محاقنه، ما دام أن البحث لا يصنع فيها إلا التحديق في أكبدة وأطحلة من جثث بقر نالها الفساد إن قليلاً وإن كثيراً، وأراد أن يسلك السبيل السوي، سبيل التجريب الصادق؛ أراد أن يدرس الداء في البهائم الحية، أراد أن يدرسه فيها وهي تلفظ آخر أنفاسها، أراد أن يتتبع الطبيعة في خطواتها. وجاء صيف عام 1889 فأخذ يتجهز له. وذات يوم أخبره كلبورن بخبر تلك النظرية الخرقاء التي يتحدث بها البقارون، تلك النظرية التي تعزو الداء إلى قراد البقر.

عندئذ أرهف إسميث آذان عقله، لو أن للعقل آذاناً: (إن البقارين الذين يعيشون مع البقر، ويخسرون البقر إذا مات، ويرون من هذه الحمى الخبيثة أكثر مما يرى الباحث، هؤلاء البقارون هم الذين يقولون بهذه النظرية!).

ولد اسميث في المدينة، فهو ابن المدينة لا ابن الريف، ومع هذا فقد كانت تستهويه نفحات الحشيش وهو يحش، وأخاديد الحقل الدكناء وهو يفلح. وكان يؤمن بتلك الجمل القصيرة المقلمة التي ينطق بها الفلاحون عن الجو وعما تنبت الأرض، وكان يرى الحكمة فيها وأنها الحق أو أقرب ما تكونه. كان إسميث ضليعاً في الرياضيات عارفاً باختزالاتها البديعة، وهي علوم يجهلها كل الجهل هؤلاء الرجال الذين اصطنعوا الأرض واحترفوا فلاحتها. وكان كذلك ضليعاً خبيراً في كل تلك العلوم التي تتمثل في المجاهر والأنابيب والخرائط وبريق المعامل، ملماً بكثير من فنون العرفان الدنيوي الصناعي المزوق الذي درج على احتقار الحكمة تجري على ألسن العامة، والسخرية بسذاجة الفلاح وبساطة حاله. ولكنه مع كل هذه الدراسات الواسعة لم يأذن للأبنية الفخمة والمعامل البديعة وأجهزتها المعقدة أن تعكر عليه فكره الرائق، أو تتنفس على مرآة ذهنه الصقيلة، وهذا فيمن نشأ نشأته غريب نادر. وكان دائم الشك لكل ما يحصله من الكتب، دائم الريبة في كل ما تريه الأنابيب. . . ونظر إلى أشد الفلاحين جلفاً واخشيشاناً، وأحصرهم وأعقدهم لساناً؛ حتى إذا أمسك ببيبته - وهي من قلاح الذرة - فأخرجها من قبضة أسنانه - وقد تكون صفراء قلحة قذرة - فهمهم كالرعد بالمثل الريفي المشهور: (شآبيب ابريل تنبت زهور مايو)، سقط هذا القول من فم هذا الفلاح إلى قلب صاحبنا كأنما سقط من شفة حكيم أريب.

واستمع إسميث إلى كلبورن وهو يتحدث حديث النظرية السخيفة، وأكد له كلبورن أن البقارين في الغرب يكادون يجمعون على أن القراد أصل البلاء؛ ثم أخذ يفكر ملياً: (رؤوس هؤلاء البقارين خالصة من زخارف المنطق ومفسدات الفكر، وإن أجسامهم لتتفاوح منها روائح الثيران والعجول كأنهم بعضها، وهم هم الذين سهروا الليالي وقد تركزت فكرتهم على الداء وهو يجري بالفناء في عروق بهائمهم فيحيل دمها الثخين ماء رقيقاً، وينتزع لقمة الرزق من أفواه أبنائهم وعيالهم، وهم هم هؤلاء الذين قاموا على دفن هذه البهائم الضائعة بعد موتها. فهؤلاء الفلاحون هم الذين يقولون في نفس واحد: (لا حمى حيث لا قراد).

فارتأى إسميث ان يتبع الزراعين، وأن يراقب الداء عن كثب مراقبة البقارين، وتلك طريقة مستجدة في صيادة المكروب: اتباع الطبيعة والتدخل فيها بالحيلة الهينة القليلة.

وجاء صيف عام 1889 واشتد حره، فذكر الناس خسائرهم الماضية، وذكروا شكاواهم المرة التي كانت، فكان لا بد من عمل شيء. وأحست الحكومة كذلك بالحاجة إلى عمل حاسم، فاعتمدت الوزارة للبحث مبلغاً طيباً من المال، وقام الدكتور سلمون بإدارة البحث المطلوب. ومن حسن الحظ أنه لم يعرف إلا القليل عن التجارب والتجريب فلم تقم إدارته عقبة في سبيل إسميث أبداً.

- 5 -

وفي منطقة منعزلة بعيدة أقام إسميث معمله، وأعانه كلبورن في إقامته. وما بالمعمل المعهود كان، فلم يحده سقف وأربعة أركان، بل كان سقفه السماء الحارة، وكان حجراته خمسة أو ستة من الحقول تسورت عن بقية الأرض بسور. وفي يوم 27 يونيو سنة 1889 جاءت سفينة فخرجت منها إلى المعمل سبع بقرات نحيفة بعض النحافة ولكنها صحيحة سليمة. وجاءت هذه البقرات من كرلينة الشمالية وهي بؤرة الحمى التكساسية ومقبرة كل بقرة تدخلها من الأقطار الشمالية. وكان على ظهور هذه البقرات بضعة ألوف من القراد، منها الصغير الذي لا تراه إلا بالمجهر، ومنها أنثيات عظيمة تبلغ نصف بوصة طولاً، وقد انتفخت مما امتلأت بالدم الذي شربته من الجسم المعذب المنكود الذي أضافها غير مختار.

فساق إسميث وصاحبه كلبورن إلى الحقل الأول أربع بقرات من هذه، وأدخلوا معها ست بقرات شمالية سليمة. قال إسميث: (والآن فلن يلبث القراد أن ينتقل إلى هذه البقرات الشمالية، وهي لم تعرف قط ما الحمى التكساسية، فهي لا تعرف ما الحصانة منها. . .) ثم قال: (والآن فلننهض إلى حيلة يسيرة لنعرف أحقاً هذا القراد سبب الحمى)

وأنفذ حيلته الأولى - أو إن شئت فأسمها تجربته الأولى - وما كانت إلا تجربة قليلة، كان في استطاعة أي بقار ذكي أن يبتدعها لو أنه فرغ من عمله الكثير للتفكير. أما سائر العلماء الأمريكيين فعدوا هذا التجربة من السخف بحيث لا تستأهل محاولة. وبالرغم من هذا قام إسميث وكلبورن فأجرياها، فأخذا يلتقطان بأيديهما ما على ثلاث البقرات الجنوبية الباقية من قراد فلا يفلتان منه واحدة، وأخذ البقر يرفص ويضرب في وجههما بذيله، واحتر الجو فعلت درجته على السابعة والثلاثين، وارتفع تراب الأرض برفص البهائم فانعقد سحباً فوق الرجلين وحولهما، وامتزج بالعرق على جبهتيهما فتعجن وتلصق. واحتل القراد من جلود البقر موضعاً تحت شعورها المتلبدة، وخرج صغاره من اللبد فما أحس بأنامل اللاقطين وهي مجهودة تتحسس حتى انكفأ راجعاً يجد له في مسارب الشعر مهرباً. وتلك القرادات الكبيرة، تلك الأنثيات التي جرعت من الدم حتى انتفخت، كانت لا ترضى أن تنتزع فتتعلق بجلد البقر، فإذا شدت عليها أنامل اللقاط انفقعت فتبجس دمها ولوث.

ولم ينقض النهار حتى خلصت البقرات الثلاث من القراد جميعه، فلم تكن لتجد على جلدها قرادة واحدة، فوضعاها في الحقل الثاني، ووضعا معها أربع بقرات شمالية صحيحة؛ ثم قال: (هذا البقر الشمالي على تمام الاستعداد لأخذ الحمى والموت بها لو تهيأت إليه أسبابها؛ وقد وضعناه الآن مع هذا البقر الجنوبي على أرض واحدة، فسيأكل الجميع حشيشاً واحداً، ويشرب الجميع ماء واحداً. وهذا البقر الجنوبي سيحك أنوفه في أنوف الشمالي، وسيتشمم روثه، ولكنه لن يستطيع أخذ قرادة واحدة منه. إذن فلنصبر لنرى ما شأن القراد والحمى!)

وصبرا على القلق والحر شهرين: يوليو وأغسطس، تسلى فيهما إسميث بدراسة القراد دراسة واسعة، أعانه فيها خبير في الحشر حكومي يدعى كوبر كرتيس فدرسا معاً حياة القراد وأعماله وأحواله، فاكتشفا كيف يتسلق طفل القراد وله ست أرجل ظهر البقرة، وكيف يرتبط بجلدها، فلا يقع من على ظهرها، وكيف هو يمص من دمها بعد ذلك، وكيف ينسلخ من جلده ثم يزيد في أبهة إلى أرجله الست رجلين فتصير ثمانية، ثم هو ينسلخ من جلده مرة أخرى، واكتشفا كيف أن الأنثى من بعد ذلك تتخذ لها زوجاً صغير تتزوجه على ظهر البقر، ثم كيف تجرع بعد ذلك من دم البقر جرعات عظيمات كأنها وليمة العرس، فإذا هي استكملت أنوثتها سقطت إلى الأرض لتبيض فيها ألفي بيضة أو تزيد؛ وعندئذ، وبعد ما لا يزيد على عشرين يوماً من تسلقها رجل البقرة في أول مرة، تكون قد أدت رسالتها في هذه الحياة الدنيا فتأخذ تنضمر ثم هي تموت. أما الألفان من البيض فتبدأ فيها سير وأحداث غريبة أخرى

وكان إسميث لا يفوتها السفر إلى معمله في العراء البعيد يوماً واحداً، وكان يجد روحه في الخروج من المدينة وترك معمله المعهود في تلك الحجرة الكابسة الحابسة هرباً من صراصيرها ولو إلى تلك الحقول وهي تكاد من الحر تتقد ناراً، وكان كلبورن قواماً على معامل الحقل، وهو الذي طلب الرزق بعد ذلك من تجارة الصيني والفخار. وكان إسميث يدخل في الحقل الأول ليرى هل ظهر القراد على أي من البقرات الشمالية، وليرى هل زادت حرارتها وأخذت رقابها تميل. ثم هو يخطو من بعد ذلك إلى الحقل الثاني ليلتقط من على ظهور البقرات الجنوبية التي فيه بضع قرادات ظهرت عليها، وما كان أفلتها في لقطه الأول، ولكنها كانت عندئذ صغيرة لا ترى. وما كان تنظيف البقر من القراد والتيقن منه إلا عملاً ثقيل مجهداً. والحق أن تلك الأيام التي صبراها على الحر والعرق لم يكن فيها إلا السأم امتد واتصل، حتى جاء يوم بعد منتصف أغسطس بدأت تطلع البشائر فيه. ففي هذا اليوم ظهر القراد على بقر من البقر الشمالي في الحقل الأول، ولم يمض طويل حتى تقوس ظهرها وعافت الطعام. ثم ظهر القراد على كل أخواتها، واتقدت الحمى فيها جميعاً، وخف دمها فصار كالماء، وشفت أضلاعها وبرزت في الجوانب عظامها. والقراد؟ رحماك فقد كان يموج عليها موجاً.

هذا هو الحقل الأول. أما الحقل الثاني حيث لا قراد، فقط ظلت البقرات الشمالية فيه صحيح سليمة كصاحباتها الجنوبية التي اختلطت بها.

(يتبع)

أحمد زكي