مجلة الرسالة/العدد 180/البريد الأدبي
مجلة الرسالة/العدد 180/البريد الأدبي
قانون جديد للصحافة في فرنسا
صدر أخيراً قانون جديد للصحافة في فرنسا يرمي إلى وضع حد لذلك الإغراق التي انتهت إليه بعض الصحف المتطرفة في شأن الأنباء الكاذبة والمقالات القاذفة؛ وكان صدوره على أثر انتحار المسيو سالنجر وزير الداخلية الذي لبث مدى أشهر هدفاً لحملات بعض الصحف المتطرفة مثل (جرينجوار) و (لاكسيون فرانسيز)، فقد استمرت هذه الصحف تنشر عنه وعن ماضيه كثيراً من الأخبار والمطاعن المثيرة، وتطعن في وطنيته ونزاهته وإخلاصه لوطنه. ومع أن اللجنة الخاصة التي ألفت لبحث ماضي المسيو سالنجرو قد انتهت بتقرير بطلان هذه التهم جميعاً، ومع أن البرلمان ذاته قد انتهى بتبرئته وإعلان تقديره لوطنيته، فأن هذه الصحف القاذفة لم تنقطع عن مطاردته حتى سقط صريعاً في الميدان. فبادرت الحكومة باستصدار القانون الجديد، وهو يرمي إلى أغراض ثلاثة: الأول قمع الأخبار الكاذبة؛ والثاني منع المطاعن والحملات القاذفة؛ والثالث وضع رقابة فعلية على المصادر المالية للصحف، نظراً لما ثبت من أن كثيراً من الصحف تندفع بتأثير ما تتناوله من الإعانات المالية إلى إثارة الخصومات السياسية والمطاعن الشخصية دون اكتراث للنتائج والشخصيات. وبناء عليه يجب أن تقوم الصحف من الآن فصاعداً في شكل شركات مساهمة، وأن يعتبر مديروها كما يعتبر محرروها مسؤولين عما يظهر في الجريدة.
وقد كانت الحملات الصحفية القاذفة تعرقل كثيراً من أعمال الحكومات، وكانت الحكومات المختلفة تفكر في إصدار مثل هذا القانون منذ زمن طويل، ولكنها تتراجع دائماً، حتى جاءت الحكومة الاشتراكية ووقعت حادثة مسيو سالنجو. ومن الغريب أن تكون الحكومة الاشتراكية هي التي اضطلعت بإصدار مثل هذا القانون المقيد للحرية، ولكنها في الواقع أصدرته لحاجة ماسة. ذلك أن الإسراف في نشر الأنباء الكاذبة والحملات القاذفة قد وصل إلى حدود لا يمكن احتمالها، وكثرت الصحف القاذفة التي تعيش من الطعن في الأشخاص والجماعات؛ والقذف معاقب عليه في القانون الفرنسي دائماً، ولكن القانون الجديد يعتبر القذف واقعاً في جميع الأحوال إذا كان يمس الهيئات الرسمية أو الأشخاص الذين تش إليهم المادة 35 من قانون سنة 1881؛ وقد نص في القانون الجديد على تقصير الإجراءات حتى يقع العقاب المنشود بالقاذفين بسرعة، ونص فيه على عقوبات مالية فادحة إلى جانب العقوبات المقيدة للحرية وما نص عليه من تعطيل الصحيفة. وقد أثيرت حول القانون الجديد اعتراضات كثيرة أهمها أنه لا يمكن إجراء الرقابة المالية المنشودة دون الإضرار بكثير من الصحف النزيهة المخلصة وعرقلة تقدمها، وإنه يخشى أن تعمد الهيئات التي تستتر وراء الصحف القاذفة إلى تزويدها برجال من قش يحكم عليهم دون أن ينال هذه الهيئات شيئاً ودون أن تقطع معونتها على الصحيفة المحكوم عليها. ثم إنهم يخشون جداً من عدم استقلال القضاء الفرنسي وميله مع الاتجاهات السياسية. بيد أن الحكومة الاشتراكية تتمتع في إصدار هذا القانون بكثرة من كل أولئك الذين يقدرون قيمة النزاهة والإخلاص والتعفف عن المطاعن القاذفة في صناعة القلم التي يجب أن ترتفع عن الاستغلال في الخصومات الدنيئة.
كارل فون أوستيسكي أيضاً
بسطنا في العدد الماضي كارل فون أوستيسكي الكاتب الألماني الكبير الذي فاز بجائزة نوبل للسلام عن سنة 1935، والذي اعتبرت الحكومة الألمانية فوزه بهذا الشرف تحدياً لها لأنها تعتبره خائناً، لما كان يكتبه من مقالات في الدعوة إلى السلام ونزع السلاح؛ وقد أرادت أن تعتقله منذ سنة 1933، ولكنها اضطرت إزاء اشتداد العطف الدولي عليه أن تطلق سراحه، فغادر المستشفى مريضاً منهوكاً حيث يعالج الآن. وقد اطلعنا أخيراً في جريدة (بازلر ناخرختن) السويسرية على حديث جرى لمكاتبها البرليني مع هذا الكاتب الشهير بإذن السلطات الألمانية، خلاصته أن فون أوستيسكي حينما نقل إليه خبر فوزه أبرق إلى الأكاديمية السويدية بقبول الجائزة، وبأنه سيأتي بنفسه إلى استوكهلم ليلقي خطبة القبول؛ بيد أنه سيحاول جهد استطاعته أن يكون واسطة لتحسين العلائق بين ألمانيا والسويد. ويصرح فون أوستيسكي بأنه ما زال على عقيدته السلمية يدعو إلى تفاهم المم، وأن الدعوة إلى السلم إنما هي في مصلحة وطنه، وأنها تتجه إلى جميع الأمم التي تبالغ في التسليح مثل روسيا السوفيتية؛ وأنه حين يغادر ألمانيا لن يعود إليها بعد. على أنه لا يريد قط أن يكون فوزه بجائزة السلام مدعاة لمظاهر سياسية؛ وأنه يأسف كل الأسف إذ كان فوزه بهذه الجائزة مثاراً للمناقشين بين السويد وألمانيا. ويأسف بنوع خاص لأنه كان موضع حملة من الشاعر النرويجي الكبير كنود هامبسون.
والظاهر أن الحكومة الألمانية قد اقتنعت أخيراً بإطلاق سراح الكاتب الكبير نهائياً، ورأت أن ليس في صالحها أن يطول أمد اعتقاله؛ وقد كان الكاتب عند وطنيته وإخلاصه لوطنه على رغم ما لحقه من صنوف الأذى طيلة هذه الأعوام.
نقل الآداب الأوربية إلى الأدب العربي
ذكرنا من قبل في إحدى افتتاحيات (الرسالة) أن لجنة التأليف والترجمة والنشر قد أعدت مشروعاً لنقل الآداب الغربية إلى الأدب العربي؛ ويسرنا أن نذكر اليوم أن وزارة المعارف العمومية قابلت هذا المشروع بما يستحقه من التقدير والعناية، فقررت أن تساعد اللجنة على تحقيقه بخمسمائة جنيه في ميزانية هذا العام، تزيدها إلى ألف جنيه في ميزانية العام المقبل (على أن يشرف على هذا المشروع لجنة من حضرات الأساتذة الدكتور طه حسين ومصطفى عبد الرزاق وأحمد أمين مع الاستعانة بالعناصر الأجنبية للإرشاد عن خير المنتجات الأوربية في اللغات الثلاث: الإنجليزية والفرنسية والألمانية). وبعد عطلة العيد ستجتمع اللجنة لتنتخب الأساتذة الذين يناط بهم تنفيذ هذا العمل الخطير تمهيداً للسير فيه.
وفاة لويجي بيراندللو
توفى في صباح يوم الخميس الماضي الكاتب الإيطالي لويجي بيراندللو على أثر إصابته بالتهاب الرئة. وهو زعيم الأدب المسرحي في إيطاليا من غير منازع، وصاحب المذهب الفني المعروف بمذهب الفكاهة أو نسبة إليه. وقد ولد في أجريجانتي بجزيرة صقلية في سنة 1867 ودرس الأدب في روما ثم سافر إلى ألمانيا فحصل على الدكتوراه في الآداب من جامعة (بُن). ولما رجع إلى بلاده عين أستاذاً في المدرسة العليا للبنات فظل فيها من عام 1897 إلى عام 1921، وكان في خلال ذلك يؤلف القصص والروايات وينشرها حتى بلغ إنتاجه أربعمائة أقصوصة وثلاثين رواية. وفي سنة 1934 نال جائزة نوبل للآداب، وبهذه المناسبة نشرت (الرسالة) عنه فصلاً تحليلياً إضافياً في عددها الرابع والسبعين فارجع إليه إن شئت المزيد.
كلمة حول زارا وتحقيق نسبته
كتاب (زاراتسترا) للفيلسوف الشاعر الألماني (فردريك نيتشه) الذي تنشر ترجمته (الرسالة) من مؤلفات الذائعة الصيت في عالم الثقافة الغربية، ويعدُّ هذا الكتاب بل (الديوان) أعظم أثر شعري في العصر الحديث. وقد قيل فيه إنه لم ينتج شاعر في العصر الحديث أثراً يضارع ما حوته دفتا هذا الكتاب! وحسبك أن تعلم أن الموسيقي الألماني الشهير (ريشارد شتراوس) قد لحنه موسيقياً.
وبلغ من تأثير هذا الكتاب أن عُدَّ مسؤولاً إلى حد كبير عن إذكاء تلك الروح التي حفزت الشباب الألماني ودفعته إلى خوض غمار الحرب الكبرى، ولم يقتصر أثر هذا الكتاب على كثير من عقول مفكري الغرب، بل تناول كثيرين من مفكري الشرق. فالشاعر الهندي الفيلسوف محمد إقبال قد تأثر به إلى حد كبير تحسه في كتبه (أسرار الذاتية) و (أسرار اللاذاتية). . . وما دعوة الجهاد الإسلامي التي يريد إحياءها (إقبال) ولا يفتأ يرددها ويدعو إليها إلا أثر من آراء نيتشه وفلسفته في تمجيد القوة والدعوة إلى (السوبرمان).
وجبران خليل جبران الشاعر اللبناني ينهج في كتابه (النبي) نهجاً يشابه طريقه الفيلسوف الألماني، وهو إن خالفه في الروح والمبادئ فانه يشابهه في الأسلوب وطريقة الأداء التي يتميز بها كتاب (زاراتسترا)، وقد تبوّأ هذا الكتاب مكانه في التفكير الغربي كإنجيل جديد يبشر بمذهب جديد في الحياة وغايتهم على الأرض، مذهب هو أقرب إلى الدعوات الدينية منه إلى المذاهب الفكرية الفلسفية.
وقد دعاني إلى كتابة هذه الكلمات ما رأيته من خلاف في نسبة (زارا). على أن كل المصادر مجمعة على نسبته إلى ولكن الخلاف هو في تفسير هذا؛ فالمستر في مقدمة الترجمة الإنجليزية طبعة ' يشير إلى أنه زرادشت صاحب الديانة الفارسية القديمة، وهكذا أيضاً تفسره دائرة المعارف الفرنسية وأما دائرة المعارف البريطانية فلم أجد بها ما يفسره.
على أنه توجد طبعة لترجمة إنجليزية أخرى بدار الكتب المصرية بالقاهرة تفسر هذا الاسم بأنه لأحد آلهة الإغريق القدماء يدعى ولست أدري المصدر الذي استقى منه محرر مقدمة هذه الطبعة. على أن هذا الرأي كفيل أن يسترعي منا كل عناية واعتبار، لأنه من المعلوم أن نيتشه كان متضلِّعاً في الثقافة الإغريقية؛ ثم إنه يدين للإغريق بكثير من إنتاجه وفلسفته؛ وتأثره بآلهة الإغريق عميق ولا سيما الإله ديونيزوس إله الخمر، وقد أسهب في هذه النقطة البروفسور ليشتنبرجر في كتابه عن نيتشه المسمى (إنجيل السوبرمان)
فلا نستبعد أن يكون نيتشه قد نسب بطل كتابه إلى هذا الإله الإغريقي القديم اعترافاً منه بفضل الثقافة الإغريقية وتمجيداً لها. وهذا موضوع من الفائدة بمكان لو تبارت فيه عقول المحققين لتجلو غامضة وتظهر حقيقته؛ وإنه لخليق بمجلة البحث والفكر (الرسالة) الغراء.
(المنصورة)
محمد فهمي