مجلة الرسالة/العدد 180/الكتب

مجلة الرسالة/العدد 180/الكتب

ملاحظات: بتاريخ: 14 - 12 - 1936



كتاب باب القمر

تأليف الأستاذ إبراهيم رمزي

بقلم الأستاذ محمد فريد أبو حديد

ماذا أسميه؟ أأسميه قصة؟ إنني إن فعلت فلن أعدو الحقيقة إذ هو في الواقع قصة فيها ما في القصص عادة من مداخل الخيال وطلاوته. ففيها لمياء ابنة الحارث بن كلدة، تلك الصورة الحية الناطقة التي لا يسع قارئ القصة إلا أن يتمثلها ويحس ما تحسه من أشجان. فتاة عربية رومية تجمع ثقافة الإغريق وصفاء نفس العرب، وتتمثل فيها فضائل المدنية وفضائل البداوة جنباً إلى جنب. وفيها ورقة ابن العفيفة، ذلك الفتى العربي النبيل الذي يتقلب في بلاد العرب وفيما حولها حتى ينتهي به التجوال إلى الإسكندرية فيصبح فيها أمين الحاكم وكبير حراسه. وهذان هما الشخصان اللذان قد حيكت حولهما حوادث القصة على ما ألف الناس في القصص من دوافع العواطف الشريفة وخوالج النفوس المضطرمة؛ على أنني لا أملك إلا أن أعقب على هذا القول لأحدد منه. فان هذا الكتاب ليس على ما يفهم من القصة المحض، فان المؤلف قد جعل إلى سداه القصصي لحمة من التاريخ المصفى الذي لا يخطئ القارئ إذا اعتمد عليه ووثق من حقائقه، فهو يصور حال بلاد العرب في أول أيام البعثة المحمدية على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى السلام، فابتدأ في نجران وصور ما كانت عليه حال تلك المدينة القديمة ومكان الأسقف المسيحي منها؛ ثم هبط اليمن مع قوافل التجار التي تيمم الشمال في رحلاتها المنتظمة حتى بلغ معها بلاد الحجاز فصور مكان النبي عليه الصلاة والسلام في أوائل سني البعثة وصور صحابته تصويراً لا أظن ريشة المصور تبدع خيراً منه، كما صور أعداءه وشتى وسائل عداوتهم له إلى حصارهم إياه في الشِّعب على ما هو معروف في كتب السيرة؛ وعبر بعد ذلك إلى الشام فعرض صورة لدولة الروم وهي تناضل الفرس ذلك النضال الهائل الذي غلبت فيه في أدنى الأرض، وعرض بعدها صورة ثانية لمصر والإسكندرية وبين ما كان فيها من اضطراب وأحزاب إلى أن دخلتها جيوش فارس بتدبير بعض الخونة مثل بطرس البحريني المنافق.

فصور القصة قد تدخلت فيها صور التاريخ تدخلاً عجيباً كان من أثره أن جليت للعصر صفحة واضحة يكاد قارئها يحس أنه يحيا بين أهله ويتنفس في جوهم.

ولست بمستطيع في هذه الكلمة الموجزة أن أذكر كل من جلاهم ذلك الكتاب القيم من شخصيات التاريخ، فانك لا تكاد تجد اسماً من الأسماء المعروفة في هذه الفترة لم يبرزه في ناحية منه ويصور له صورة حية؛ ولكن شخصيتين من هذه الشخصيات كانتا مثالاً عالياً في التصوير الأدبي؛ ولعل المؤلف النابه قد قصد منهما أن يكونا رمزين للحزبين المتناضلين: حزب الرسول وحزب قريش، ألا وهما حمزة بن عبد المطلب رمز المسلمين، والنضر بن الحارث الطبيب رمز المكذبين من قريش. وأما أشخاص غير العرب فقد أبدع في تصوير بعضهم إبداعاً عظيماً، ومن هؤلاء بطرس البحريني الذي قيل إنه كان آلة الفرس في فتح الإسكندرية بالخديعة والخيانة.

وإذا كان المؤلف الفاضل قد جمع يبن القصة والتاريخ هذا الجمع فانه لم يقع في خطأ وقع فيه كثير من القصصيين، وذلك هو الخلط بين الخيال والحقيقة وما يترتب على ذلك من تشويه لكليهما، فانه حرص على أن تكون وقائع التاريخ كلها صحيحة، وبالغ في ذلك فجعل في هامش القصة ذكر بعض المراجع وبعض فقرات الإيضاح، واحتاط عند ذكر ما يتعلق بالرسول عليه الصلاة والسلام، فما وقع منه فعلاً نسبه كما جاء في كتب السيرة، وأما ما كان فيه مدخل للخيال فقد قاتل فيه: (واخاله قد فعل). فهذا الكتاب حلقة مجيدة ظهرت في الأيام الأخيرة لبعض أعلام الأدب الحديث.

وإنا إذا رأينا هذه النهضة المحمودة في إيراد حوادث التاريخ على هذا الأسلوب كان علينا أن نبتهج ونغتبط وأن نشكر هؤلاء الأدباء الأعلام الذين يمهدون لجمهور القراء مثل هذا الغذاء العقلي السليم. ولا أظن إن في استطاعة أحد أن يكافئ هؤلاء الأفاضل على ذلك المجهود الكبير، اللهم إلا أن يكون رضاؤهم عن أنفسهم وشعورهم بأنه قد أدوا للناس خدمة أدبية تفيد لغتهم الشريفة، وتعمل على إعلاء نهضتهم المباركة. (فعلى هامش السيرة) للأستاذ الكبير الدكتور طه حسين و (محمد) للأديب الكبير توفيق الحكيم و (باب القمر) للأديب الكبير إبراهيم رمزي ثلاثة أعوام يجدر بالعصر الحديث أن يفاخر بها.

ولقد حاولت في قراءتي لهذه القصة التاريخية أن أجد مأخذاً أدخله إلى مقالي حتى لا يكون كله صورة من الإعجاب الذي ملك على نفسي فلن أظفر من ذلك إلا برأي أظنه جديراً بأن يعرض، وهو أن الاستطراد الكثير في سياق القصة كان كثيراً ما يضيع شيئاً من تماسكها.

وأمر آخر لمحته في بعض المواضع وهو أن بعض القول كان على غير ما يمليه الطبع. ومن ذلك أن سيدة كانت في موقف حزن عميق إذ فقدت زوجها وولدها (فخنقتها العبرات وتحدرت الدموع على خديها متداركة كقطرات السقاء المخلخل، ولم يستطع ورقة (الذي كان في موقف الصديق) أن يحبس دمعه لدن هذا المنظر المؤلم فبكى لبكائها ثم تملك نفسه يقول: هوني عليك يا سيدتي. لا تضعفي نفسك بهذا الوجد، أنت شابة وسرية كما أرى، وستشرق عليك شمس حياة طيبة جديدة يوم تعودين إلى الإسكندرية، وسيكون لك أولاداً وزوج تحبينه. إن الله واسع الرحمة. ما أرجو منك إلا أن تضعي أمور الدنيا أمامك كما تضعين الكتاب، وتقرئي فستجدين في هذا الكتاب مخطوطاً بقلم عريض كبير: لا تنظري إلى الوراء: انظري إلى الأمام. إذا ورد عليك فكر مؤلم فرديه بيدك وسيري إلى الأمام لتبلغي ما تعده الدنيا لشبابك وجمالك من النعمة والمتعة التي تنسين بها كل ما مضى الخ). وإنني لأظن إن هذا القول ما كان يلائم أن يقال في مثل هذا الموقف ولا سيما من قائله (ورقة). على أنني أرى مع ذلك إن مثل هذا النقد ناشئ من اختلاف في النظر والتفكير، وما ينبغي أن يتفق الناس في مثل هذه الأمور كل الاتفاق.

وأما لغة الكاتب فأنها اللغة الجديرة بكاتب مجيد كإبراهيم رمزي جمع إلى لباقة الفنان الأديب. فمرحباً بذلك الفتح الجديد في الأدب العربي. وما أحرانا أن نهنئ الأديب الكبير بنجاحه الباهر في قصته، وأن نستنجزه الوعد الذي وعد به في آخرها أن يتحفنا بباب الشمس بعد أن أمتعنا بباب القمر.