مجلة الرسالة/العدد 180/الثقافة والإنتاج العلمي في فلسطين

مجلة الرسالة/العدد 180/الثقافة والإنتاج العلمي في فلسطين

مجلة الرسالة - العدد 180
الثقافة والإنتاج العلمي في فلسطين
ملاحظات: بتاريخ: 14 - 12 - 1936



للأستاذ قدري حافظ طوقان

لا يختلف اثنان في أن الوضع الحاضر في فلسطين شاذ وغير طبيعي وهو غيره في الأقطار الشقيقة المجاورة، فالكل يقاسي آلاماً مبرحة من الاستعمار والمستعمرين، والكل واقع تحت نير الاستعباد والعبودية؛ ولست واجداً أحداً يرضى عن السياسة المتبعة في بلاده وعما يجري حوله، إلا أن هناك فرقاً بين فلسطين وغيرها من البلاد المجاورة، ففي هذه جبروت واحد وطاغية واحد، وهنا جبروتان وطاغيتان قد تسلحا بالخبث والمكر والقوة والدهاء، وعلى هذا فالمصيبة هنا أعظم والبلاء هنا أعم والخطر محقق والفناء يتهدد.

ومن الطبيعي أن بلاداً هذه حالها لا تكون صالحة للإنتاج العلمي ولا لازدهار الثقافة والأدب بالمعنى الواسع. ومن الطبيعي أن تؤثر هذه الأوضاع على الشباب المثقف وعلى الأدباء والعلماء فتأخذ قسماً من أوقاتهم ومجهوداتهم وتفكيرهم يصرفونها في مبادئ السياسة لدرء الأخطار المحدقة، ولتخفيف المصائب علينا انصباباً من كل جانب. وكيف يمكن لثقافة أن تنمو، ولقريحة أن تنتج وتبتدع إذا لم تكن تلك القريحة في جو من الحرية، وفي محيط خال من القيود والغلال ليس فيه من يسخرك لمنافعه ومصالحه، وليس فيه من يسعى للقضاء على معنوياتك، وعلى قتل الطموح فيك؟

وكيف يمكن لشاب أن يعكف على العلم بقصد الاستزادة والاكتشاف والبحث والاستقصاء إذا لم يكن هناك من يساعده ويشجعه ويأخذ بيده؟ فكيف به إذا وجد في محيطه كله تثبيط للهمم، وكله إحباط للعزائم؟ وإذا تتبعنا الطرق التي تسير عليها الحكومات المستعمرة في مختلف دوائرها، ولا سيما المعارف منها نجد أنها ترمي إلى القضاء على روح الطموح، على روح البحث وحب الاستزادة من العلوم والفنون؛ ترمي إلى خلق روح الاعتماد في الناشئة على الغير، إلى إماتة روح الوطنية، وبث روح الاستهتار بالتراث العربي والإسلامي وانتقاصهما بشتى الوسائل، وفوق ذلك نجدهم (المستعمرين) يشغلون أوقات الناس والموظفين في أمور ليس فيها متاع، وليس فيها ما يعود على البلاد بخير أو انتفاع. فمن الطبيعي إذن - هنا وفي البلاد المرزوءة بالاستعمار - أن الحكومات فيها لا تشجع العلم ولا تحث على متابعته، ولا على إيجاد رغبة صادقة في التأليف والبحث على الرغ من حاجة الأمة إلى كل ذلك. وإذن فلا محال لغرابة الكثيرين في موقف الحكومة تجاه المؤلفين وتجاه الذين يلاحقون فروعهم في العلم والفن، بل الغرابة كل الغرابة في حسن ظن هؤلاء الكثيرين بالحكومات المنتدبة والاعتماد عليها في تشجيع الناس في التنوير والتقدم وقد جهلوا أو تناسوا أن هذه الحكومات تسير على برنامج استعماري خاص من شأنه أن يقضي على كل ما من شأنه رفع مستوى الأمة ورقيها. لهذا وجب على العلماء العرب أن يلتفتوا إلى هذه الناحية، وأن يعيروها بعض اهتمامهم، وأن يعتمدوا على أنفسهم قبل كل شيء، وأن يأخذوا من موقف الحكومات قوى تحفزهم إلى توسيع الحركة الثقافية في فلسطين وغيرها، ونشر روح البحث والاستقصاء بين المثقفين، ويقضي الواجب الوطني على الشباب العامل والأساتذة أن ينحوا في تعليم الناشئة وتثقيفها ناحية قومية وطنية، وقد يجدون في هذا صعوبة، وقد يصادفون أمامهم عقبات، ولكن عليهم أن يجاهدوا ويصرفوا بعضاً من مجهوداتهم في التغلب على ذلك، وفي توجيه التعليم والثقافة توجيهاً يخلق في النشء روح الاعتزاز بالقومية وروح الاعتقاد بالقابلية، يخلق في الناشئ شخصية قوية وكياناً مستقلاً ورجولة مستعدة لتلبية نداء الوطن قادرة على المساهمة في خدمة الحضارة. ويقضي الواجب الوطني على الباحثين أن ينحوا ببحوثهم الناحية القومية، وأن يبينوا للناشئة فضل العرب الكبير على المدينة، وقد تبوءوا مركزاً سامياً لم يتبوأه غيرهم أيام كانوا سائرين على النهج القديم الذي وضعه الرسول وصحبه وخلفاؤه، أيام كان الاهتمام باللباب دون القشور؛ بهذا وحده يمكن أن تنشئ الأمة شباباً مؤمنين عاملين على رفع مستوى البلاد، شباباً مثقفين ثقافة قومية وطنية يعرفون كيف يخدمون الوطن. وهذا هو أقوى سلاح يمكن أن تمد به الأمة الناهضة ليساعدها على خوض غمار هذه الحياة عالية الرأس موفورة الكرامة، وعلى نيل ما تبغي من عز وسؤدد.

وقد يسر القراء الكرام أن يعلموا أن هناك مساعي جدية للشروع في أعمال مشتركة تقوم بها جماعات مثقفة تأخذ على عاتقها الأشغال في ناحية خدمة الأمة عن طريق بعث الثقافة والتعليم القومي، عن طريق بعث الثقافة العربية والإسلامية، عن طريق تشجيع ذوي العقول النيرة والقرائح الخصبة في توجيه بحوثهم ونتاجهم في العلم والفن إلى ناحية قومية وطنية. وقد قام جماعة في نابلس من الشباب المثقف بإنشاء ناد ثقافي أطلقوا عليه أسم (النادي الثقافي) غايته هي: (إيجاد روابط وصلات بين المتعلمين، والعمل على تأليف قلوبهم وتوحيد جهودهم العلمية والأدبية وتوجيهها توجيهاً قومياً، ورفع مستوى البلد الثقافي والأدبي بطرق مختلفة عملية أهمها المحاضرات والحلقات العلمية وإيجاد مكتبة حافلة بالكتب القيمة. .) وسيجد الناس في هذا النادي وطنية عملية ستعود على البلاد بفوائد جليلة. وكذلك هناك جماعات في نابلس والقدس ويافا وحيفا وبقية البلاد تفكر في مشروع إنشاء لجنة ترجمة وتأليف ونشر على غرار لجنة مصر. والذي نرجوه أن توفق هذه الجماعات في مشاريعها الثقافية، وأن تأخذ بيد الأمة إلى حيث التقدم والمجد ومعارج القوة والعظمة.

(نابلس)

قدري حافظ طوقان