مجلة الرسالة/العدد 180/حبها. . .

مجلة الرسالة/العدد 180/حبُّها. . .

ملاحظات: بتاريخ: 14 - 12 - 1936



للأستاذ السيد محمد زيارة

عرفتها شاعرة في عينها الشعر؛ وكأنما خلقها الله بهاتين العينين ليودع فيهما من أسرار الغيب، ويصور بهما من معاني الخلود معنى الفن. . . فجاءتا هكذا ساحرتين لا يُفهم من أي نوع سحرهما، ولا يدرك إلى أي حد تأثيرهما؛ وغاية ما يفهم أو يدرك منها انهما حين تلمحان تجرحان، وحيث تنظران تأسران. . .

ويبدو فمها كأنه جمرة صغيرة. . . .

ويُرى خداها كأن على كل منهما وردة في لهب. . .

وعرفتها في كل هذا وبكل هذا. . . عرفتها في قصة حب أولها معروف وآخرها مجهول

كانت تغني، ووقع بصري عليها لأول مرة فلا أدري ما الذي نزل منها على نفسي فجال فيها ثم استقرَّ فيها فما ذهب عنها وما هو ذاهب أبداً!! إلا أنني أذكر. . . أذكر جيداً أنها كانت ترسل الأغاني من فمها ومن عينيها، وأنني كنت أسمع الأغاني بأذني وبقلبي

والله ما أحلاها وقد بدت في ثوبها الأسود الهفاف، فلا يظهر منها إلا وجه كأنه حلم بالوصل في منام عاشق محروم، ويدان كأنهما زهرتان غضّتان أسفرتا من جنة محجوبة

وقد أبى صدرها إلا أن يتيه ويشمخ، وعز عليه أن يحد الرداء من كبريائه فنهض يتحرر، وبدا كأن بينه وبين الرداء معركة. . .

وظهر جيدها فوق صدرها كشعاع الصبح يشرق من أعلى جبل. . .

ونظرت إليها فرأيتها كلها فناً منفرداً في كل جزء منه فن منفرد؛ ثم نظرت إليها فرأيتها نوراً تتشعب منه أنوار، ثم هممت أنظر إليها فريع البصر ورُدّت النظرة إلى الفؤاد سهماً

ثم تنفشت كالبلبل المتندي، ثم نظرت إلى الحشد ثلاث نظرات وقعت إحداها عليّ فملت أتحاشاها؛ ولكنها سبقت إلى القلب فإذا القلب عاصفة في وسط عاصفة؛ ثم راحت تغني فأرسلت من بين شفتيها صوتاً فيه شذىً جعلني أعتقد أن للورد تغريداً وأن هذا هو تغريد الورد، وأعتقد أن سراباً من البلابل لو أجتمع على أن يأتي بمثل سحرها لما أتى إلا بما يثبت أنها ساحرة معجزة

وأحسست أنها كلما زادت في غنائها آهة أو لفظة ربطت بين روحي وبينها آصرة، وأن كلما أصابتني بنظرة مدت بين قلبي وبينها جسراً. . . ثم أحسست أنها قربت مني حتى صارت جزءاً مني فيه روحي وقلبي وعقلي؛ ولكني بعد ذلك لم أحسب إلا أنني خبلت، ولم أدرك أن هذا هو حبها يدخل من عيني ومن أذني. . .

وانتهيت من ساعتها ثملاً لأتم ليلتها أرقاً وبي من الجنون مس في القلب يكاد يبلغ إلى مس في العقل. . . هو الحب. . .

هو الحب الوليد الجبار ولد ثم أيفع وشب شبابه في ساعة. . .

هو الحب خلق في عينيها ليعيش في قلبي. . .

هو الحب جاء يعلن أنه الحب بعذابه وسهره، وأنه سيكون عقدة بعد عقدة، ثم لا يكون إلا عقدة بعد عقدة. . .

هو سهمها جاء قاسياً ليقتل ثم اشتدت قسوته فلم يقتل؛ وإنما جرح وأدمى ليظل الجرح جرحاً ويظل الألم ألماً. . . يا ليته قتل. . .

ومرّ عام في ليلة، وآه منها ليلة قاسية وسعت كل دقيقة من دقائقها هاجساً من هواجسي فبتُّ أصبو بصبوة قلبي، ثم أحار بنزاع عقلي، ثم أغفي بعين أحلامي، واقطع مدى الليل بين الصبوة في جهلها وغرورها، والحيرة في شدتها وعسرها، والأحلام في جلوتها وروائها؛ وما أستطيع أن أخرج من هذا كله إلا باليأس منها حبيبة محبة ولو بعد حين. . .

ما كان لي أن أحبها وهي ذات جاه، ولها سلطان وحاشية، ويسعى إلى مجلسها من علية القوم فئة يبتغون الأنس والسمر، وهي تدلّ عليهم دلال حسنها ودلال عفتها، ثم تتدلى إليهم زهرة محصنة يستنشي أرجها ولا تقطف ولا تمس.

وما كان سهلاً على أن أيأس من حبها في أول حبها ما دامت في باطني عين لا تنظر إلا إلى أعلى فلا تبصر إلا ما هو أعلى، ولا مستحيل عندها ولا صعب. ما كان سهلاً علي أن أيأس من حبها وعين خيالي كالمنظار تقرّب لعيني رأسي بعيدها وتهوّن مسافتها.

وطلع الفجر يتثاقل كأنه لا يريد أن يطلع. . . طلع وأنا بين شيطانين شيطانها الفاتن وشيطاني المفتون، كلاهما يدعوني إليها بينا أتخوفها على نفسي ولا أبتغي إليها الوسيلة؛ فمثل هذه التي ألفت تهافت العشاق، وتغنَّت بآلام المدنفين، لا يقع في قلبها الحب إلا بمعجزة. . .

ومضى الليل إلا قليلاً وأنا كما أنا، آخذ بقلبي وأرد بعقلي! ولبثت يتقاذفني تحذير اليأس وإغراء الأمل حتى يئست ونمت.

ورأيت في الرؤيا أني أزورها وأنها ترحب بي؛ وما أحسب إلا أن لقاءنا كان في فردوس، فقد رأيتها ترفل في الخز حول قامتها قوس من نور يتهادى على أفق من شفق، وتحت قدميها ورد منثور كأنه طبقة من الأرض، وهي تتخفف في خطوها كأنها تسير على الماء.

وسرت إليها أترفق بالورد، ورأتني أحييها بتحية قلبي فتبسمت فتبسم في ثغرها الأمل، ثم تأودت فكأنها بانة عطفتها نسمة، ثم قالت: تعال. . .

ثم. . . ثم قالت: أهلاً. . . تعال. . .

ووثب قلبي إليها ووثبت أدركه بين يديها فصحوت. . .

وما تم الليل بانفلاق صبحه حتى تم في قلبي الحب بانتصار أمله على يأسه، فشعرت بها تغني في قلبي، وتتجلى في عقلي، وتميس في خيالي؛ ثم شعرت بها توحي إليّ وحي فتنتها لتؤدي به رسالة الجمال إلى الفن، وتثبت فيه ارتباط الفن بالجمال.

وعشت أستوحيها حيناً من الدهر طال ما طال ولم يكن فيه إلا اكتفائي من حبها بالوحي: أتنسم حنان صوتها، وأتفيأ ظلال مفاتنها، وأعيش في جوها وأناجيها وأستلهمها. . . كل هذا وأنا بعيد أتباعد لأن قلبي جعل لها سلطاناً عليه وتهيّبها وبذلك سد على منافذي إليها.

ولكن الحب أقوى وأشد. . . فما زال بي حتى طغى علي فرحت أطلب زيارتها؛ وهي كانت تعرف وحيها في كلامي ولا تعرفني، فعرّفت نفسي إليها بكتاب، ثم ذهبت أزورها في موعد حددته. . .

وكان موعدها في ضحوة النهار من يوم مخلد؛ قمت ليله أتطير بالشوق بين الفرح والرهبة، ولا يتحول بصري عن الساعة في يدي وهي تبطئ كأنها نائمة؛ وكلما غبرت من الليل، فترة ودعتها من الفؤاد زفرة، حتى أحسست في نهاية الليل أن دمي قد احترق بنيران فكري، وأنني لم يبق مني إلا هيكل كل ما فيه أنه هيكل.

وجاء الموعد الذي كنت احسبني لن أبلغه. . . جاء الموقف الذي كان وراء العقل. . . جاءت الساعة، ولقيتها. . . ولقيتها وأنا حي!!

ماذا كنت في تلك اللحظة؟. . . إني كنت بركاناً وكنت زلزالاً وكنت ريحاً عاصفاً. . .

وجلست هكذا في قاعة الاستقبال بدارها، ورأيت الأثاث فيها كأنه يهتز لينقلب على رأسي.

أكان هذا حباً؟. . . أكان هذا شوقاً؟. . . لا والله إنه كان هذياناً، ثم ظهرت فيه حكمة الحب عندما لاحت الفتانة بالباب تتقدم إليّ؛ وحكمة الحب لا تظهر إلا حين يريد هو أن تظهر. . .

جاءت تتيه في مشيتها كأنها سكرى، وكأن خطواتها همسات قلب متيم إلى صاحبه، وكانت قد بارحت فراشها من لحظة، فدخلت علي صاحيةً بكل جسمها إلا عينيها، فقد كانتا ذابلتين كأنهما ما تزالان في نعاسهما.

أما وجهها فكان بمسحة النوم عليه كأنه الفجر مائلاً بسناه يقبل باقة من الورد. . .

أما شعرها فكان ثائراً كأنه ليل عاشق مؤرَّق، وكأنها استيقظت وما يزال رأسها نائماً في ليله. . .

أما قوامها فكان سكباُ من البان في سكب من الحرير. . .

أما هي - أما هي فكانت سحراً يمشي ويتبختر، وكانت حسناً متكبراً بتواضع. . .

وجاءت تلوح لعيني متصوفة سكرى وقالت: أهلاً بمن سبقه إلينا شيطانه!!

ثم صافحتني بيد أنضر من الزهر، واتخذت مجلسها، ثم نظرت إلي تتأملني فقلت: وكيف عرفت شيطاني؟. . .

قالت: أما شعر لي وتغنى بي وكتب عني؟. . .

قلت: يا له حظاً سعيداً. . . ما كنت أحسب شيطاني موفقاً هذا التوفيق!! أو تقرئين ما يكتب؟!

قالت: بلى. . . وما أحبَّ شياطين الشعراء إلى نفوسنا نحن المغنيات. إن للمغنية في كل شاعر تستميله مرآة ترى فيها نفسها؛ والشاعر والمغنية كلاهما تمام الآخر فيما خلقا له.

فتنهدت وقلت. إنك الآن توقدين رأسي

قالت: وكيف ذلك؟

ثم انبسطت على شفتيها ابتسامة صغيرة بان فيها أنها داهية تمكر؛ إلا أن مكرها في ابتسامتها كان مكراً أحمر ملتهباً في فتنة حمراء ملهبة؛ فنظرت إليها أستزيده ثم قلت: كلامك هذا فيه نار أشعر بأجيجها في رأسي.

فقالت وهي تمكر مكراً أشد وأحلى: إذن لا يعجبك كلامي

قلت: كلا كلا. . . وهل يخرج مثل هذا الفم إلا ما يُحب؟ إن النار التي في كلامك نار لذيذة كنار الحب في قلب المحب.

لقد قلتِ إن الشاعر والمغنية كلاهما تمام الآخر، فهل بعد هذا من سحر على لسان؟ وهل بعد هذا من نار محبوبة في كلام؟.

إنك توقدين رأسي بهذه النار من هذا السحر في هذا المعنى. . .

إنك لو اطلعت الآن على أحشائي لعلمت أن الحسن يجني ولا يشفق في جنايته.

فخفرت وكسرت في عينيها لمحة وتهدل شعرها على وجهها ليستر روعة الخفر، ثم فتحت بيديها بين نوائبها منفذاً لقولها

وقالت: هذا كلام شيطانك

قلت: بل هذا كلام قلبي. . .

فرفعت بقية شعرها عن وجهها بيديها ورشقتني بنظرة داوية سمعت لها رعداً في صدري وقالت: أنت إذن. .

ووقف لسانها ببقية الكلمة، وقالت لي عينيها بنظرة أخرى حنون: أتممها. .

فقلت: أنا إذن. . أحب. .

فأطرقت فخبّأت وجهها يبن شعرها ثم هزت رأسها تنفض الشعر فرأيت وجهاً جديداً مشرقاً في معنى الحب.

يا عجباً!! يا عجبا! إن كلمة الحب تسمعها غادة جميلة من محب هائم تجعل في محياها المشرق قسمات جديدة.

ونضح الحياء على جبينها قطرات كأنها قطرات الندى على أوراق وردة بيضاء، فمسحتها بمنديلها وشخصت إلي فقلت: وجهك الآن مؤمن. . .

قالت: وهل كان من قبل كافراً؟ وكيف يكون إيمان الوجوه وكفرها؟

قلت: الوجوه تؤمن وتكفر إيمان القلوب وكفرها! وقد رأيت وجهك الآن مؤمناً إيمان قلبك. . لكأنه كان يقول لي: إني شاعر بك وشاعر بما بك، لأني أفهم حبك فهو وحي جمالي إليك، وأعذر قلبك لأنه صيد عيني منك. . .

أما سمعت وجهك يقول هذا؟

فضحكت وقالت: وجهي لم يقل شيئاً، وأنا لم أسمع منه شيئاً. . كيف يتكلم الوجه إلا بالفم؟. . ولكن فمي لم يقل هذا فمن أين جئت به؟.

وضحكت ضحكة أخرى وهي تنتظر جوابي فقلت: لا يتكلم من الوجوه إلا الوجه الجذاب، فتكون في كل لمحة من لمحات عينيه عبارة، وفي كل وقدة من وقدات وجنتيه همسة، وفي كل ومضة من ومضات جبينه إشارة.

أما رأيتني أصغي إلى كلام وجهك بشغف؟.

فضحكت مرة ثالثة ثم سكنت وجهها كأنها تتذكر، ثم قالت: لا. . . لم أر. . ولم أعقل ما تقول. .

قلت: آه!! ها هو ذا وجهك عاد يستهتر بإيمانه. . . ها هو ذا يدل ويتجنى.

وسكتت هي تداعب يداً بيد وطرفها يختلس ما يختلس، وسكت أنا ألتهمها بعيني في سكونها الساحر المترنم. . ثم فاجأتني بطرفها ينظر إلى كل أجزائي بكل ألحاظه وقالت: إنك لتنظر إلي بعين الشاعر المليئة بالحب فترى في كل شئ مني شيئين متناقضين.

قلت: وأنظر إليك بهذه العين من ناحية القلب فأراك نشوة للقلب تأخذه بقوتها؛ وأنظر إليك من ناحية العقل فأرى فيك غذاء للعقل ما أحوج العقل إليه!. ثم أنظر إليك بالعين المجردة من الشعر والحب فأراك في أقل درجاتك جميلة عزيزة الجمال.

فرأيتها كأنها تنظر إلي من خلال منظار لتتبين في كلامي حقيقة. . ثم كأنها تقتنع. . ثم رأيتها تفكر. فحدقت فيها ملياً ثم قلت: أنت شاعرة. .

قالت: وهي تمسك وراء شفتيها ابتسامة: وعلى هذا تكون أنت مغنياً. .

فانتفضت في مكاني وقلت: إذن أنت تعتقدين إنني جزء منك يكملك في أي أحوالك - إذن قد تحقق الحلم يا آنستي.

فتأجج خداها وأطرقت، وعجز قلبي عن مقاومة ما فيه منها، وحسبت أنه قضي.

ثم إنّا تفرقنا عاماً لا نملك أن نلتقي، وكان هذا العام مثار الوحي ومجال القلم.

ثم تلاقينا في قصر جميل شيد على جناح النيل بين الخضرة والماء.

وجلست في بهو القصر أضم جوانحي على الأشواق والهموم، وينبعث دخان التبغ من فمي مختلطاً بدخان كبدي المحترقة.

ومضت أفكاري تصور لي ما سيكون في لقاء ساعة بعد فراق سنة. . . وإني لمضطرب أجر نفسي جراً بين أول دقيقة الانتظار وآخرها، إذ سمعت على الدرج المرمري وقع حذاء الحسناء تتوثب في نزولها كالظبية تتنقل في واديها بين الربى والسهول.

وتلفت فإذا هي مقبلة تتمايد في وشاح فضفاض من حسنها، وأمامها في الهواء نهدان خلقاً ليسبقاها أينما مشت.

وكان وجهها يتلألأ بين ضوء الجبين ووهج الوجنتين حتى حسبته قمراً كحلت عيناه في ليلة التمام.

ووقفت يفصل بيني وبينها بعد خطوتين، وفي عينيها نظرة عتاب كأنها طعنة خنجر، ووقفت أنا وفي عينيّ نظرة اعتذار كأنها دمعة قلب. . . والتقت النظرة بالنظرة فإذا هما في الهواء قطعة من (المغنيزيوم) تشتعل، وإذا هما في كبدي شعلة من الوجد تضطرم.

ثم تقدمت الحسناء وقالت: أهلاً بذاكرنا أهلاً بناسينا

فقلت: وكيف أنساك وأنا ناس بك كل ما عداك؟. .

قالت: ما رأيت من تذكرك إلا ما قرأت من رسائلك؛ فهل كل ما عندك أن ترسل الرسائل؟! كأني بك لا تحب إلا أن تتخيل لتعيش في خيالك

قلت: وكثيراً ما أهرب من لقاء الحقيقة لأظل مفتوناً بالخيال ناعماً بمتعته؛ ولولا أنك فوق تصوره لما بحثت عنك إلا في خيالي بين أحلامي وأوهامي.

قالت: أنت إنسان عجيب. . .

وبدا محياها كأنه مبلول بالخمر، وعربد قلبي كأنه سكير، وصمتنا؛ ثم تنفست وقلت: ويحي. . . ويحي. . . إنك حقاً فوق تصوري وبعد خيالي، فإني لأحس الآن أن كل قطرة من دمي تناجيك وتسبّح لك، وأحسب إن الله تعالى قد خلقك خلقة ممتازة.

فضحكت ضروباً، وانعطفت في ناحية الكبرياء من جمالها وقالت: هكذا أنتم أيها الشعراء كثيراً ما تكفرون. . .

قلت: آه لو كنت رجلاً مثلي وعشقت فتاة مثلك!! إذن لصدقت أنك من خلقة ممتازة.

قالت: أما يزال شيطانك يكفر؟. . إنكم أيها الشعراء لقادرون؛. إنكم تستطيعون أن تصنعوا من القبح جمالاً، ومن الجمال فنَّ جمال، ومن فن الجمال عالماً من الفنون. فكم تصورون من مشاهد الكون وتبالغون في التصوير فيظن الناس أن الطبيعة هي التي أبدعت ما صنعت فنقلتم عنها الحقائق.

ثم سكتت ثم قالت: هأنت تقول عني ما ليس فيَّ فأكاد أصدق أن فيَّ ما تقول. . .

فقلت: مهٍ مه. . . يا فاتنة. . . إنك تتكبرين في تواضع، وتتواضعين في تكبر؛ والله ما رأيت مثلك غادة جميلة تنكر أنها جميلة. . . ألا إن هذا وحده يقوم دليلاً على أنك مطمئنة إلى نبوغ جمالك وعبقريته.

فرمقتني بنظرة تائهة في فرح عينيها وقالت: إنك تغزوني. . .

قلت: أرأيت القاتل يقتل ويتهم المقتول؟. . . هذه أنت تتهميني بأنني أغزوك وأنت فاتحة قلبي.

قالت: لسانك وقلمك قد تآمرا عليّ. . .

وحزن جمالها فصوَّر في حزنه أجمل معاني الحزن، وترقرقت عيناي إلا أنني أمسكت العبرة بين أجفاني فتغشى بها بصري لحظة. . . ولما نظرت بعد ذلك رأيتها مطرقة تشد منديلها بين يديها وكأنها تغالب في باطنها قوة تمردت عليها. . . وكأن وحهها يفكر، وكأن لحظها يحلم. . .

قلت: إنك تخبأين شيئاً ويريد الشيء أن يظهر

فرنت إلي بطرفها مبللاً بالحنين، فانطبقت أجفاني تتنهد، ودارت بي الأرض دورة. . . ثم فتحت عينيّ فرأيت منديلها يسقط من يدها. . .

الله أكبر!! ما هذا السحر الذي كان يشع من فتنتها وهي تنهزم؟. . . كانت ساكنة سكون ثورة، وكان قلبها ينبض فلا يحتمل بدنها الرقيق نبضه فيتموّج، وانعكس قلبي على وجنتيها فرأيتهما تلتهبان بالحب، وكانت عيناها تتألم، وكانت نظراتها تئن!!

وزفر قلبها زفرة، وزفرت عيناها زفرة أخرى، ثم قالت وهي تجاهد نظرها إلي: أتحبني؟

ثم ماذا. . . ثم ماذا أيها العشاق؟

(طنطنا)

السيد محمد زيادة