مجلة الرسالة/العدد 185/في التاريخ السياسي

مجلة الرسالة/العدد 185/في التاريخ السياسي

ملاحظات: بتاريخ: 18 - 01 - 1937



تفاقم المشكلة الأسبانية

ألمانيا تكرر محاولة أغادير

بقلم باحث دبلوماسي كبير

يظهر أن أخطار المشكلة الأسبانية لن تقف حد؛ فقد بدأت الثورة الأسبانية في أواخر يوليه الماضي حرباً أهلية، ولكن عوامل التدخل الدولية التي صحبتها منذ قيامها لم تلبث أن غلبت على صفتها المحلية الداخلية، فهي اليوم حرب دولية في الأراضي الأسبانية، يستتر فيها فريق الدول الفاشستية وراء الجنرال فرانكو زعيم الثورة، وتستتر الدول الديمقراطية وراء حكومة مدريد؛ وقد كان هذا الاستتار شفافاً في البداية ينم على حركات الدول المختلفة؛ ولكنه يفصح اليوم عن كل شيء بجلاء؛ وتبدو الدول المتدخلة ولا سيما ألمانيا وإيطاليا والسوفييت في الميدان بكل جرأة؛ وتتقاطر الأسلحة والذخائر والنجدات الأجنبية إلى الفريقين المتحاربين بلا انقطاع

فهذه الصورة الدولية التي أسبغها التدخل الأجنبي على الحرب الأهلية الأسبانية تغدو اليوم بالنسبة لأوربا بركاناً يضطرم بمختلف المفاجآت والأخطار؛ وقد كان آخر طور من أطوارها الخطرة تفاقم التدخل الألماني وظهور ألمانيا في سياستها الأسبانية بمظهر يزعج الدول الغربية ويثير كل مخاوفها. ذلك أنها لم تكتف بإرسال السلاح والذخيرة والمتطوعين إلى جبهة الثورة، ولكنها بعثت بقسم من أسطولها إلى المياه الأسبانية الشمالية، وأخذت سفنها الحربية تعتدي تباعاً على السفن الأسبانية الجمهورية بحجة الانتقام لحادث الباخرة (بالوس)؛ وفي الأنباء الأخيرة أن قوة عسكرية ألمانية نزلت في مراكش الأسبانية، وأنه شرع في بناء الثكنات اللازمة لإيوائها مما يدل على أنها ستمكث هناك طويلاً؛ وأن قوات أخرى نزلت في قادس لنجدة الجبهة الثورية

وقد كان تدخل إيطاليا وألمانيا في الحرب الأسبانية على هذا النحو يزعج الدول الغربية منذ البداية؛ بيد أنه يلوح لنا أن السياسة الإيطالية أخذت على أثر تفاهمها مع إنكلترا تخفف نوعاً من هذا التدخل، وأن الاتفاق الإنكليزي الإيطالي (اتفاق الجنتلمان) على الاع بالحقوق والمصالح المتبادلة في البحر الأبيض المتوسط، وعلى احترام الحالة الراهنة فيه كان ذا أثر كبير في تعديل سياسة إيطاليا الأسبانية، وقد ظهر هذا التحول واضحاً في سحب إيطاليا لقواتها من جزيرة ميورقة، وفي وقف النجدات التي كانت ترسلها تباعاً إلى جبهة الثوار؛ هذا بينما يشتد التدخل الألماني ويتفاقم، ويمتد من أسبانيا نفسها إلى مراكش الأسبانية؛ وكان من المنتظر أن المجهود الذي تقوم به السياستان البريطانية والفرنسية لحصر الحوادث الأسبانية في نطاقها المحلي ودرء أخطارها الدولية يسفر عن بعض النتائج المرضية؛ ولكن الدولتان الفاشستيان وهما إيطاليا وألمانيا لجأتا إلى المطل والتسويف في الرد على هذا المسعى. وكانت المذكرة البريطانية الفرنسية تقترح على الدول ذات الشان أن تبذل مجهوداً مشتركا لوقف التدخل الدولي في شؤون أسبانيا الداخلية، ومنع المعاونات العسكرية عن الفريقين المتحاربين، وترك المسألة الأسبانية يحلها الأسبان فيما بينهم؛ وقد أجابت روسيا وهي التي تؤازر حكومة مدريد على هذا الاقتراح بالقبول؛ ولكن إيطاليا وألمانيا وهما اللتان تؤازران فريق الثوار تمهلتا في الرد حتى تطورت الحوادث الأسبانية على هذا النحو الخطر، واستطاعت ألمانيا أن تمد الثوار بنجدات عسكرية كبيرة؛ وأخيراً قدمت إيطاليا وألمانيا رديهما وهما متحدان في اللهجة والموضوع، وخلاصة رد الدولتين الفاشستيتين هو أنه لا محل لإجراء المفاوضات الدبلوماسية للبحث في هذا المشكل في حين أن هنالك لجنة خاصة للبحث في مسالة عدم التدخل، وأن منع المتطوعين الآن معناه معاونة حكومة مدريد التي تؤازرها قوات بلشفية كبيرة، وأن التبعة في تفاقم التدخل الأجنبي في أسبانيا ترجع إلى إنكلترا وفرنسا لأنهما هما اللتان اعترضتا منذ البداية على اقتراحات ألمانيا في وجوب منع المتطوعين الأجانب؛ وتزيد ألمانيا على ذلك إنها ترى بحث المشكلة كلها لا بحث بعض نواحيها فقط، وإنها تحتفظ بحرية العمل إذا لم تقبل وجهة نظرها

ومن الغريب أن ألمانيا تقرن ردها بإرسال نجدات جديدة إلى أسبانيا، وبإنزال بعض قواتها في مراكش الأسبانية، وإذا كان ظهور الجنود الألمانية في أسبانيا وفي صفوف الجنرال فرانكو قد أثار مخاوف إنكلترا وفرنسا، فان ظهورها في مراكش الأسبانية يضاعف هذه المخاوف ويذكيها، وقد رأينا الوزارة البريطانية تسارع بالاجتماع لبحث المشكلة الأسبانية، ورأينا السياسة الفرنسية، تضطرب لهذا التطور المزعج في الشؤون الإسبانية. ولكي نقدر خطورة هذا الظرف يجب أن نرتد بالذاكرة إلى حاث مماثل وقع في ظروف مماثلة، ذلك هو حادث أغادير الشهير الذي كاد يثير ضرام الحرب بين فرنسا وألمانيا؛ ففي أغسطس سنة 1911 ظهر في مياه أغادير المراكشية (وأغادير واقعة على المحيط الاطلنطي) طراد ألماني، وطلب القيصر في نفس الوقت (مركزا لألمانيا تحت الشمس) واضطربت فرنسا لهذا الحادث واعتبرته انتهاكا لحقوقها التي كفلتها معاهدة الجزيرة والتي عقدت بين الدول العظمى ومنها ألمانيا، ونصت على أن حفظ النظام في مراكش هو من شان فرنسا وأسبانيا وحدهما؛ واشتد توتر العلائق بين الدولتين ويومئذ لاح شبح الحرب بينهما في الأفق؛ ولم تسحب ألمانيا طلباتها ووعيدها إلا بعد مفاوضات طويلة شاقة، وبعد أن تنازلت لها فرنسا عن بعض أراضيها في الكونغو؛ والآن وقد بسطت فرنسا حمايتها على مراكش، ووطدت في مركزها وسلطانها، وأضحت جزءاً من إمبراطوريتها الضخمة في شمال أفريقية، فإنها ترتجف لأقل بادرة تهدد مراكش أو أي جزء آخر من أجزاء هذه الإمبراطورية الغنية؛ وقد كانت فرنسا تتوجس جزعاً مذ قامت الثورة الأسبانية، واضطربت شؤون مراكش الأسبانية التي تحد أملاكها من الشمال، وأضحت منطقة عسكرية خطرة؛ فالآن يزيد جزعها وتتضاعف مخاوفها إذ ترى الجنود الألمان ينزلون في هذه المنطقة ويعسكرون في مليله على مقربة من الحماية المراكشية

وهنالك ما يدل على أن هذا الحادث يشبه حادث أغادير من كل الوجوه. ذلك أن ألمانيا أثارت حادث أغادير لأطماع استعمارية، واستغلته لإرضاء هذه المطامع، وهي الآن تعيد الكرة، وتجيش بنفس الأطماع. وليس من المصادفات أن تنزل الجنود الألمانية في مراكش الأسبانية في نفس الوقت الذي تتقدم فيه ألمانيا بمطالبها الاستعمارية إلى فرنسا وإنكلترا بصورة رسمية. وقد كانت ألمانيا تروج لمطامعها الاستعمارية منذ اشهر وينادي بها زعماء ألمانيا المسؤولون في شدة وصراحة؛ وقد أجابت فرنسا وإنكلترا غير مرة على لسان ساستها وصحفها انهما لا تفكران في النزول عن شبر من الأرض لألمانيا، ولكن ألمانيا لم تنثن عن ندائها ومطالبها؛ ومنذ أسابيع قلائل كان وزير الاقتصاد الألماني الدكتور شاخت يكرر هذه المطالبة بعنف وبشدة ويصرح بأن استعادة ألمانيا لمستعمراتها لم يبق مسألة كرامة فقط، وإنما أضحى ضرورة اقتصادية ترزح ألمانيا تحت عواملها المرهقة، وينذر أوربا بالانفجار إذا لم تعط ألمانيا حقها من المستعمرات والمواد الخام؛ ثم اتخذت ألمانيا بعد ذلك خطواتها الرسمية الأخيرة، بتقديم مطالبه الخاصة بالمستعمرات إلى فرنسا وإنكلترا، مقرونة بمناورتها البحرية في المياه الأسبانية الشمالية، وبمناورتها العسكرية في شمال مراكش

فهل تزمع ألمانيا أن تستغل هذه المظاهرات العسكرية لتحقيق مطامعها الاستعمارية؟ هذا ما نعتقد؛ ولقد جرت ألمانيا النازية في العهد الأخير على سياسة المجازفة والوعيد والتظاهر، وجنت ثمار هذه السياسة في نقض ميثاق لوكارنو، وفي تسليح منطقة الرين الحرام، وفي غيرهما، واستطاعت أن توقع بسياستها الخلاف في صفوف الحلفاء السابقين، واضطرت فرنسا أن تسلم بالأمر الواقع في هذه المسائل مع إنها مما يمس سلامتها؛ فهل تني فرنسا أمام الوعيد والتظاهر مرة أخرى؟ هذا ما لا نعتقد؛ ففرنسا تنظر إلى أعمال ألمانيا ومشاريعها في أسبانيا وشمال إفريقية بمنتهى التوجس؛ وألمانيا تصيب هنا نقطة حساسة جداً في السياسة الفرنسية، وقد ظهر اهتمام فرنسا واضحاً في ذهاب وزير حربيتها إلى شمال أفريقية ليتفقد أعمال الدفاع، وفي حركات أسطولها حيث تجتمع وحدات كبيرة منه على مقربة من المياه الأسبانية؛ وقد بادرت فرنسا بالاحتجاج لدى حكومة بورجوس على السماح للجنود الألمانية بالنزول في مراكش طبقا لما تنص عليه معاهدة الجزيرة من تحريم مثل هذا الأجراء؛ ومن المحقق أن فرنسا لن تتساهل على الإطلاق في مشاريع ألمانية في هذه الناحية خصوصا أن مراكش الأسبانية تقع وسط إمبراطوريتها الأفريقية كما إنها تشرف من جهة البحر على طريق فرنسا الإمبراطوري؛ وإنكلترا لا تستطيع مثل فرنسا أن تتسامح في وجود الجنود الألمان في هذه المنطقة على مقربة من ثغر سبتة المواجه لجبل طارق والذي يعتبر أهم من جبل طارق ذاته بالنسبة للأشراف على مدخل البحر الأبيض المتوسط، وقد بدأت إنجلترا مثل فرنسا في حشد جانب كبير من أسطولها على مقربة من المياه الأسبانية؛ فالسياستان البريطانية والفرنسية تجمعهما هنا سياسة موحدة، وتحدوهما إلى العمل المشترك بواعث مشتركة لا شك في خطورتها

والمعروف أن ألمانيا منذ قيام الحرب الأهلية ترنو إلى استغلال هذه الأزمة الأوربية الجديدة لمصالحها الخاصة، وأنها تحوم حول مراكش الأسبانية وجزر الكناري، كما أن إيطاليا كانت تحوم حول جزر البليار، ولكن إيطاليا انتهت إلى إدراك الحقائق الواقعة وآثرت أن تتفاهم مع إنكلترا، وأخذت في الواقع تخفف من تدخلها في المسالة الأسبانية وإن كانت في الظاهر تبدو مؤيدة لخطة ألمانيا. أما ألمانيا فقد اندفعت في خطتها إلى هذا المدى الذي يثير اليوم أزمة في منتهى الدقة والخطورة. وفرنسا لا تجهل البواعث التي تدفع ألمانيا إلى مثل هذه المغامرة، وهي تدرك تمام الإدراك أن من ورائها المسألة الاستعمارية برمتها؛ ولكنها على ما يفهم من تعليقات صحفها لا تنوي أن تنزل في هذا الموطن على وعيد ألمانيا ورغباتها؛ وكل ما هنالك أنها لا تأبى أن تبحث المسألة الاستعمارية على ضوء جديد، وأنها لا ترى مانعاً من تحقيق بعض رغبات ألمانيا في هذا السبيل إذا كانت ألمانيا تتعهد من جانبها بان تقف عند هذا الحد من تحقيق مطامعها، وأن تعود إلى حظيرة الدول الغربية لتعمل معها على تأييد السلام الأوربي؛ ويقتضي ذلك أن تخفف ألمانيا من حدتها العسكرية، وأن تعمل مع الدول الأخرى على تخفيض سلاحها؛ أما إذا كان قصد ألمانيا من الاستيلاء على المستعمرات هو بالعكس استثمارها لتوسيع مشاريعها العسكرية، فأن فرنسا تعارض كل المعارضة في استيلاء ألمانيا على شبر من الأرض يعاونها على تحقيق هذه الغاية. هذه النظرية الفرنسية كما تعرضها الصحف الفرنسية؛ أما إنكلترا فلم يتضح موقفها بعد في هذه المسألة تماماً، وإن كان ساستها المسؤولون قد أكدوا غير مرة إنها لن تنزل عن شيء من مستعمراتها

ومن المحقق أن تطور هذه الأزمة الجديدة يتوقف إلى حد كبير على تطور الحوادث الأسبانية ذاتها، وعلى نتائج المعارك التي تضطرم حول مدريد؛ فإذا كتب الفوز للثوار، فأن ألمانيا تزداد إصرار في سياستها ومشاريعها؛ وإذا كان الأمر بالعكس، فمن المحقق أن هذه المغامرة ألمانية تنهار في مهدها

وسنرى من جهة أخرى ماذا تستطيع الجهود السياسية أن تحقق في هذا السبيل

(* * *)