مجلة الرسالة/العدد 185/نظرية النبوة عند الفارابي

مجلة الرسالة/العدد 185/نظرية النبوة عند الفارابي

ملاحظات: بتاريخ: 18 - 01 - 1937



للدكتور إبراهيم بيومي مدكور

مدرس الفلسفة بكلية الآداب

تتمة

وبصرف النظر عن هذه الحملة الباطلة التي أثارتها عوامل الحقد والحسد والتي لم يكن لها أساس من الواقع والحقيقة في شيء، فأن الذي نحب أن نستخلصه من الأفكار السابقة هو أن السيد يلتقي مع الفارابي في نقطتين هامتين؛ فهو يوضح أولاً مهمة النبي الاجتماعية والسياسية، وهذه مسألة يعد الفارابي من أول من صوروها في الإسلام بصورة علمية نظرية، وربما تلخص كتابه (آراء أهل المدينة الفاضلة) في إدعاء فكرة النبوة على أساس من (جمهورية) أفلاطون وعلم النفس عند أرسطو. والسيد وهو مصلح ديني وسياسي لا بد له أن يحتذي هذه الخطى ويسير على هذا النهج. ومن جهة أخرى لا يفوتنا أن نشير إلى أن النبي والحكيم يقتربان عند هذين المفكرين إلى حد كبير، فهما روح الجمعية ومبعث الحياة والإصلاح. نعم إن السيد يفرق بينهما من ناحية الكسب والعصمة، في حين أن الفارابي لم يوضح القول في الأول وأغفل الثانية بتاتاً، وبدا كأنه يسوى بين النبي والفيلسوف من جميع الوجوه. ولكن يجدر بنا ألا ننسى أن الفارابي كان يصعد بالحكيم إلى مستوى هو العصمة بعينها ولا يمكن أن يتصور فيه الزلل، ولهذا لم يفرق بينه وبين النبي في هذه النقطة. وفوق هذا فأن السيد إذا كان قد جهر بهذه التفرقة فهو متأثر بعصره وبيئته والحملات التي وجهت من قبل إلى البحث العقلي، لأنه يعود إلى موضوع الحكمة بعد سبعة قرون قضاها المسلمون في مطاردة الفلسفة والفلاسفة. فلم يكن في مقدوره أن يدعو للفلسفة دعوة صريحة ولا أن يثبت لها حقاً في الحياة مكتملاً من كل نواحيه. وكيفما كانت الفوارق بينه وبين الفارابي فمما لا شك فيه أنه قرب المسافة بين النبي والحكيم، وعدهما معا مصدر تقويم وإصلاح؛ وهاتان الفكرتان فارابيتان في أصلهما سواء أكان السيد قد استمدهما مباشرة من كتب الفارابي أم بالواسطة من مصدر آخر. وقد ساهم السيد في نصرة الفلسفة والأخذ بيدها وساعد على إحياء دراستها في الشرق بعد أن كان الناس ق انصرفوا عنها زمناً

ولم يكن الأستاذ في تأثره بالفارابي أقل وضوحاً من شيخه وصديقه السيد جمال الدين، فقد قرأ ابن سينا واشترك بنفسه في إحياء الدراسات الفلسفية القديمة المهجورة. وفي نشره لكتاب (البصائر النصيرية) ما يشهد بذلك. هذا إلى إنه وإن اشترك مع السيد في فكرة التجديد والإصلاح يخالفه في الوسائل الموصلة إلى ذلك. فبينما السيد مجدد طموح يريد الوصول سريعا وعن طريق السياسة، إذا بالأستاذ الأمام يعتقد أن طبيعة الأشياء تأبى الطفرة وأن الإصلاح يستلزم خطوات رزينة، وتدرجا معقولا، ودعائم مثبتة من الأخلاق والدين. لهذا اتجه أولاً وبالذات نحو التعاليم الدينية محاولا أن يصوغها في القالب الذي يتفق وروح العصر، وأن يصعد بها إلى ما كان عليه السلف الأول. فقد كان على يقين مما لحق الإسلام من أفكار فاسدة صورته بصورة معيبة شنيعة، ووضعت حجر عثرة في سبيل النهوض والتقدم. ولم ير بداً من محاربة هذه الأباطيل والترهات والقضاء على البدع والخرافات، والأخذ بيد التفكير الحر الطليق تحت راية الدين الصحيح؛ وأثره في هذه الناحية أوضح من أن ينوه عنه. وفي رأيه أن العلم والدين لا يختلفان مطلقاً، بل يجب أن يتضافرا على غاية واحدة هي تهذيب الإنسانية وترفيهها وإسعادها. فالدين يحول دون الإنسان والزيغ الذي يقود إليه عقل جامح؛ والعلم يوضح الأصول الدينية ويبين إنها لا تتنافى مع المبادئ العقلية. ولن نستطيع الإدلاء هنا بكل أفكار الأستاذ الأمام الدينية، وسنكتفي بأن نلخص رأيه في النبوة كي تتبين وجوه الشبه بينه وبين النظرية الفارابية

يقف الأستاذ الأمام على هذا الموضوع ثلث (رسالة التوحيد) المشهورة أو يزيد، وفيها يتحدث عن الرسالة العامة وحاجة البشر إلى الرسل وإمكان الوحي ووقوعه ووظيفة الرسل ورسالة محمد . ويصرح بأن الإنسان مدني بطبعه محتاج إلى المخالطة والمعاشرة، وعلى كل فرد من أفراد الجمعية واجب يؤديه وحق يطالب به. بيد أن الأفراد قد يخلطون الحقوق بالواجبات، ويتهاونون فيما كلفوا به مسرفين كل الإسراف فيما يدعونه لأنفسهم من حقوق؛ فتعم الفوضى وينتشر الفساد، وتصبح الجمعية في حاجة ماسة إلى قيام بعض أفرادها هداة ومرشدين، يبينون للناس النافع والضار، ويميزون لهم الخير من الشر، ويعلمونهم ما شاء الله أن يصلح به معاشهم ومعادهم، وما أراد أن يقفهم عليه من شؤون ذاته وكمال صفاته؛ وهؤلاء هم الأنبياء والمرسلون صلوات الله عليهم. فبعثتهم من متممات كون الإنسان، ومن أهم حاجاته في بقائه، ومنزلتها من النوع الإنساني منزلة العقل من الشخص؛ منحة أتمها الله لكيلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل. وليس غريباً أن يختص الله بعض خلقه بالوحي والالهام، فقد سمت نفوسهم وأصبحوا أهلاً للفيض الإلهي والكشف الرباني؛ وبديهي أن درجات العقول متفاوتة يعلو بعضها بعضاً، ولا يدرك الأدنى منها الأعلى إلا على وجه الأجمال. وليس هذا التفاوت نتيجة الاختلاف في التعليم فحسب، بل كثيراً ما كان أثراً من آثار الاختلاف في الفطرة التي لا تخضع لقوانين الكسب والاختبار؛ ولا يزال المرء يرقي في الكمال حتى يبدو البعيد له قريباً، وتتفتح أمامه حجب الغيب. يقول الأستاذ الأمام: (فإذا سلم ولا محيص من التسليم بما أسلفنا من المقدمات فمن ضعف العقل والنكول عن النتيجة اللازمة لمقدماتها عند الوصول إليها ألا يسلم بان من النفوس البشرية ما يكون لها من نقاء الجوهر بأصل الفطرة ما تستعد به من محض الفيض الإلهي لأن تتصل بالأفق الأعلى وتنتهي من الإنسانية إلى الذروة العليا، وتشهد من أمر الله شهود العيان ما لم يصل غيرها إلى تعقله أو تحسسه بعصا الدليل والبرهان، وتتلقى عن العليم الحكيم ما يعلو وضوحاً على ما يتلقاه أحدنا عن أساتذة التعاليم)

لا نظننا في حاجة أن نشير إلى أن كثيراً من هذه المعاني التي يرددها الأستاذ الأمام قال بها السيد جمال الدين. فمهمة النبي في رأيهما أخلاقية واجتماعية، ووظيفته تنحصر في تربية الشعوب والسير بها نحو الطريق القويم. وإذا كان السيد قد اعتبر النبي روح الجمعية الإنسانية فالأستاذ الأمام عده عقلها. ولا نظننا مغالين إذا قلنا إن الأمام يعود بنا إلى عصر الفارابي وبن سينا اللذين كانا يفسران النبوة تفسيراً علمياً سيكولوجياً. وهو يميل دائماً كما قدمنا، إلى أن يرجع التعاليم الإسلامية إلى الحال الزاهرة التي كان عليها السلف الأول؛ وفي كثير من آرائه ما يقربه من هذين الفيلسوفين وما يدفعنا لأن ندرس العلاقة بينه وبينهما في شكل أكمل وعلى صورة أوضح. فهو يقرر مثلهما أن التعاليم والأوامر الدينية يراد بها الشعوب وعامة الناس في حين أن الفلسفة إن صلحت غذاء لطائفة معينة فليس في مقدور الجميع استساغتها. ويقول بالأسباب الطبيعية التي أنكرها أهل السنة ملاحظاً، كما لاحظ فلاسفة الإسلام من قبل، إنها لا تتنافى مع قدرة الله واختياره في شيء. وفي اختصار يتفق الأستاذ الأمام مع الفارابي في محاولته التوفيق بين العقل والنقل، بين العلم والدين. وهذه المحاولة تدور عادة حول نقط تكاد تكون محدودة، ولعل هذا هو السبب الذي قرب المسافة في بعض المسائل بين هذين المفكرين

تتبعنا في كل ما سبق نظرية النبوة الفارابية منذ نشأتها، أعني في القرن العاشر الميلادي، إلى أن وصلنا بها إلى أوائل القرن العشرين؛ ونأمل أن نكون قد وفقنا لبيان أثرها في الشرق والغرب، في التاريخ المتوسط والحديث؛ ونعتقد أن في هذا ما يحفزنا إلى إخباء الدراسات الفلسفية الإسلامية، فقد ثبت أن هناك صلة بين أفكار اليوم والأمس، وفي أبحاث القرون الوسطى، كما لاحظ ليبنتز، درر نفيسة لا يصح إغفالها. على أن نهضتنا العقلية والفكرية لا يمكن أن تؤسس على أساس صالح إلا إن ربط فيها الحاضر بالماضي واتصلت سلسلة التفكير الإسلامي الصحيح؛ ولنا في الأستاذ الأمام والسيد جمال الدين أسوة حسنة

إبراهيم بيومي مدكور