مجلة الرسالة/العدد 186/إلى الأستاذ الزيات

مجلة الرسالة/العدد 186/إلى الأستاذ الزيات

ملاحظات: بتاريخ: 25 - 01 - 1937



(ذكرى ميلاد) حركت قلمي!

للمربية الفاضلة الآنسة زينب الحكيم

أحييك من قلب فواجع الحدثان للتتابعها، ويئن من المصائب لتواليها، حتى اصبح قلباً كسيراً ملتاعاً. وأشكرك على كلمتك (ذكرى ميلاد) بقدر ما أشاركك عواطفك النبيلة نحو ذلك (الرجاء) الضائع والأمل المنهار.

لقد هز نفسي هذا المقال هزة عنيفة، وحرك قلمي بعد أن سكن طويلاً ليكتب عن الأطفال، والطفولة الهنيئة. وكنت قد دفنت هذه الذكرى لا تعمداً ولكن قهراً، مع إن أمنيتي في الحياة كانت العمل على إسعاد الأطفال واستمتاعهم بطفولتهم، ولا سيما ونحن في بلد لا يعرف للطفل حقه، ولا يدرك للطفولة كرامتها.

وكم نحن في حاجة إلى آباء مثلك يعنون بدراسة أبناءهم، ويشاركونهم الحياة ليعيشوا وإياهم سعداء.

غالب الظن، أن الأستاذ الزيات لم يدخل مدرسة علم النفس الحديثة، أو هو إذا كان قد فعل لا يطنطن بدراساته المتعددة وجهوده المتكررة كما يفعل بعضهم. إن كلمتك يا أستاذ تعد بمثابة رؤوس لعدة دروس تربيوية جامعة في عالم الأطفال، يجب أن توضح وتدرس للآباء والأمهات جميعا.

فان (فرحك الصادق، واستبشار نفسك بذلك المولود الذي هبطت عليك بشراه هبوط الملك على زكريا، والذي جعل نفسك تطمئن إلى إن اسمك قد اشترك، ووجودك قد ازدوج، وعمرك قد امتد في الحياة)، كل ذلك ما ينبغي أن يحسه ويشعر به جميع الآباء والامهات، قبل وبعد أن يرزقهم الله أطفالاً، وذلك من أهم العوامل التي تؤثر في حياتهم.

إن ذلك (الرجاء) الذي غير من نظرتك إلى الاطفال، فجعلها نظرة عملية جادة، بعد إن كانت خيالية نظرية، تلك النظرة التي جعلتك تتقرب إلى كل أب، وتسكن إلى كل أم، هي التي جعلتك في هذه الناحية في صف المكلفين المسؤولين. ولعمري إن الرجل المكلف المسئول هو الرجل الحر الذي يعتمد عليه. فلله ما اجمل ما اختصك الله به من فطنة للوجود الحق، وما أقوى ما امتازت به طبيعتك من تكوين الأسرة السعيدة التي هي اللبنة الأولى في بناء الوطن العزيز.

ثم إن خطة تعاقب المآدب، وتقديم الهدايا، وبهجة الدار المتوالية، وإعطاء الصغير فرصة الرياضة في الحديقة، والعناية بنظام حياته كلها، في غير إسراف أو تقتير يتفق تماماً وروح التربية الصحيحة. كذلك إقامة حفلات الميلاد والتعارف بين الأطفال، وما إلى ذلك، لمما يزيد في بهجة الأسر، ويدرب النشء على الآداب العامة من نعومة أظفارهم، ويشعرهم بالواجب، ويعد شخصيتهم للنضوج التدريجي، ويشجعهم أيضاً على قبول كل شيء حولهم وفحصه، من أشياء وأفكار ومبادئ، فيخضعون للصالح منها في غير تأفف، ويأنفون من الطالح في صراحة ويقين.

لقد كنت مثال الأب الصالح بالنسبة لطفلك العزيز، فان مصاحبة الآباء لأبنائهم أثناء شراء لعبهم ولوازمهم، وإعطاءهم فرصة الانتقاء والاختيار مع التوجيه الصحيح والإرشاد الحكيم، يمكنهم من دراسة غرائز أطفالهم وتعرف ميولهم، فيعملون على تربية كل وفق طبيعته.

وكم كنت أباً رحب الصدر، بارعاً في فن تربية الأطفال وهم رجال المستقبل وعدة الوطن حينما كنت تجيب (رجاء) على أسئلته بقدر ما يحتمل عقله، ولا ترد له سؤالاً أو تعنفه عليه، ولو كنت فعلت لما لحظت مخائل نجابته المبكرة، ولا حدة ذهنه وشخصيته القوية المرنة كما وصفت

إلى هنا، يأتي دور العتب على الأستاذ الزيات، في هلع نفسه، وتطيره من الحياة، لان الله اختار ذلك الكم العبق لجواره الكريم (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) أيدري أحدنا لماذا خلق على النمط الذي اختصه الله به؟! أو لماذا يرجعنا الله إليه إن عاجلاً أو آجلاً؟! له فيما يريد ابلغ حكمة

وعهدنا بالأستاذ كبير النفس قوي الإيمان، صقلته غير الدهر وصروف الزمن، فلا ينبغي أن يجزع إلا على قدر

ولست ادري لم تطوى ثياب (رجاء) تعبث بها الهوام وتوارى في الحقائب، وقد لامست جسمه النضر، وتضوع فيها شذى أنفاسه العطر!! ولماذا تخفى لعب (رجاء)، وهو الذي لمسها بيديه الطاهرتين؟! وأتساءل في دهشة: لماذا تستر صور (رجاء) وجميع آثاره؟!! إن هذا ينافي بقاء ذكراه الكريمة، ويمحو صورته الجميلة من المخيلة، ويذهب بصوته الرائق من الأذن

أيها الأب الكريم! سهل على النفس غرامها، وعلى القلب حنينه، وعلى العقل حيرته. انشر صور (رجاء) في كل مكان جميل في المنزل، وضع لعبه في اكرم مكان وأليقه، وانفض عن ثيابه المطوية الغبار، حتى تتلمسه في كل شئ حولك؛ وضع أثراً من آثاره كمنديل، أو قفاز، أو لعبة صغيرة في مكان يحتمل أن تطرقه على حين فجأة، وانس انك وضعت ذلك الأثر في هذا المكان، فإذا صادفك بعد حين، فاختبر انفعال نفسك بالعثور على ذلك الأثر المنسي، وجدد الذكرى؛ ثم حدث أصدقاءك ومحبيك كلما زاروك عن صور (رجاء) على اختلاف مواضعها ومناسباتها. واشد بذكائه وجمال نفسه، وما كنت تعقد على وجوده من أمل، وبهذا تستطيع إن تبقى (رجاء) حيا في عقلك وفؤادك، وبهذا تستطيع أن تجد رجاء أقوى في (خليفة رجاء). وحذار من تضليل الطفل بعاطفة مصطنعة، فإنها لن تخفى عليه مهما صغر سنه، وان هو عجز عن أن يثأر لنفسه منك صغيراً، فلن فلت منه وهو كبير. واعمل بالمبدأ القائل: احي ويسر للآخرين الحياة

وإني بهذه المناسبة، يحضرني حوار شعري طريف، كنت قد حفظته وأنا طفلة بالمدرسة لشاعر الطبيعة الإنجليزي (وردذورث ألخص معناه فيما يلي:

تخيل الشاعر انه قابل مرة طفلة ريفية راقه حسنها، فاستأذن في محادثتها، وسألها: (ألك اخوة وأخوات أيتها الصغيرة؟ قالت: نعم، نحن سبعة من ذكور وإناث، مات منا اثنان. فقال لها: إذن انتم خمسة الآن لا سبعة؟! فقالت: لا، نحن سبعة. فقال إذا كان قد مات منكم اثنان فالأحياء خمسة فقط!! فأجابته الريفية الساذجة بدهشة ردت الشاعر العظيم إلى صوابه قائلة: ولكنهما حيان عند الله وسنتقابل جميعا في الجنة. .)

هذا يا سيدي الأستاذ تحليل طفلة غربية ساذجة، فهل يجوز أن يكون جواب الشرق في مثل هذه الأحوال كذلك؟!!

الجواب منك وإليك، وأنت صاحب النفس الكبيرة، والإيمان العامر. أطال الله بقاءك، وأجمل عزاءك

زينب الحكيم