مجلة الرسالة/العدد 186/على أطلال الماضي

مجلة الرسالة/العدد 186/على أطلال الماضي

ملاحظات: بتاريخ: 25 - 01 - 1937



وقفة على (إيوان كسرى)

للأستاذ علي الطنطاوي

خرجنا من بغداد فسلكنا على (حي البتاويين) ظاهر (الباب الشرقي)، وجزنا على قصوره الشم التي تتكئ فيها الأرستقراطية الناعمة على الأرائك سكرى بخمرة الذهب، وسرنا إلى (الهنيدي) في الطريق التي تنام على بسط الحقول السندسية، يحرسها صفان من النخيل، حتى انتهينا إلى (المعسكر البريطاني) صرح أكاسرة اليوم، فتركناه وأممنا صرح أكاسرة الأمس لنقف عليه ذاكرين معتبرين.

عبرنا نهر (ديإلى) وخلفنا القرية جاثمة على كتف النهر، قد دلت رجليها في مائه، واستقبلنا الفلاة الواسعة، فما عدنا نرى إلا الفضاء؛ حتى إذا سرنا فيها ساعتين طلعت علينا قرية (سلمان) تلوح على حاشية الأفق، تضح وتغيب، ثم تبيناها ورأينا قبة مسجدها واضحة، ورأينا بجنبها بناء ضخماً كأنه جبل. . . قلت: ما هذا؟ قال صحبي: هذه قبة سلمان الفارسي، وهذا ايوان كسرى. فقلت: يا للعجب! أطاف سلمان حتى استقر قبره بجانب الإيوان، فغدوا متلاصقين، وبدوا متعانقين؟ وحثثنا (الدراجات) إلى القرية فبلغناها بعد ساعة.

كانت قرية صغيرة، نشأت على تربة سليمان رضي الله عنه، ليس فيها - إلا مسجده - شيء يذكر؛ أما الإيوان فهو في ظاهر البلد، متربع على ظهر الفلاة وحيد معتزل، مطرق حزين!

وقفنا عليه فإذا هو طاق عال مهدم، وجدار شامخ متصدع، وإذا هو ضخم فخم، ولكنه عار موحش، ليس فيه صورة ولا نقش: لا صورة إنطاكية التي تروع بين روم وفرس، ولا انوشروان الذي يزجي الصفوف تحت الدرفس، ولا عراك الرجال بين يديه في خفوت منهم وإغماض جرس، ومن مشيح يهوي بعامل رمح، ويليح من السنان بترس. . .

لقد محا الدهر الصورة، كما محا أهلها، ودار الزمان دورة أخرى، فأصبح حاضر البحتري ماضياً وعيانه أثراً. . . ذلك لأن الماضي نقطة واحدة، تتلاقى فيها الأبعاد، وتضيع المسافات، وتفنى الدهور. . . نقرأ قصيدة البحتري، ونرى الإيوان، فنحس أنهما قد التق في عالم الماضي وضاع ما كان بينهما من عصور، كما التقت آثار (سر من رأى) بأطلال بابل، فكان حكمها في الخيال واحداً وأثرها في النفس واحداً، وكما التقت في أبصارنا ونحن قادمون على القرية قبة سلمان بالإيوان. . . ومن لعمري يدرك الزمن الذي كان بين آدم ونوح، وإبراهيم وموسى، وبلقيس والزباء، وهوميروس وأفلاطون، وحروب طروادة وفتوح اسكندر؟ إن الحوادث كلما أمعنت في المضى، ضاعت من بينها الأزمنة وامّحت الأبعاد

وليس يهيج النفس ويثيرها كرؤية أطلال الماضي والوقوف بآثار الغابرين؛ ففيها روعة البقاء، وهول الفناء، وعبرة الدهر؛ وهي نوافذ تطل منها النفس على عالم المجهول الذي تحن إليه أبدا ولا تنى تقرع بابه، فتتحرر فيها ساعة من قيود المادة، وتطير في مسارب الأحلام

ولقد وقفت على الأهرام، ومررت على الحديبية، وجلست في العقيق، وعرجت على حطين، وزرت بعلبك، فكان شعوري في ذلك كله كشعور اليوم وأنا في المدائن أمام إيوان كسرى. . . استعظم الأثر واعجب بجلاله، واكبر القدرة التي أنشأته، ثم أعود بفكري إلى الماضي فأحسن بأن صفحته تفتح أمامي فأرى حقيقة شاهده كل ما قد قرأت في الكتب، وأتخيل أنى مع الغابرين أسمع وأرى، فأراني قد عشت دهوراً؛ ثم أقابل وأعتبر، ثم أذهل عن نفسي، وأجول بفكري وخيالي في آفاق كثيرة لم أرها من قبل في الآثار الباقية للأمم الماضية يلتقي أعظم شيئين وأجلهما: الزمان والمكان؛ فتلمس القرون تنحدر على صخر الهرم، أو أعمدة بعلبك، أو آجر الإيوان، هذا الآجر الذي حمل أعباء القرون السبعة عشر. يا لروعته وجلاله! انى لأحتقر نفسي وأنا قائم بقامتي القصيرة الهزيلة حيال هذا الكائن الجبار الهائل، ثم أعود فأرى كل شي دوني حقيرا، أنا الحي، وأنا الباني، وما هذه كلها إلا أثر من آثاري، ليس لها لولا فكري وجود ولا لوجودها معنى. . .

أطفت بالإيوان في خشوع واكبار، ووقفت على بابه في هيبة وإجلال، ثم دخلت من الصحراء فإذا. . . فإذا أنا خرجت إلى الصحراء، الصحراء الصامتة صمت الموت، الموحشة وحشة المقبرة، الممتدة امتداد الزمان. . . وقفت أستنشق عبير المجد، وأتسمع نشيد العظمة؛ فما سمعت إلا صفير الرياح، ولانشقت إلا رطوبة الفناء. لمست الجدار فما أحسست إلا برودة الحجر؛ تسلقت الجدار حتى كلت رجلاي ولم أبلغ نصفه، فجلست على لبنة بارزة لاستريح، وتلفت. . . فإذا الأفق الواسع الرحيب وإذا الناس كالنمل، وإذا القرية كأنها كومة من الحجارة، مكومة في أعماق الوادي، وإذا دجلة تجرى بعيدا تلبس حلة من نور الشمس فتبدو لامعة تزيغ منها الأبصار، وإذا أنا وحدي معلق بين السماء والأرض، فغثت نفسي، وأخذني الدوار، وهممت بالسقوط، فأغمضت عيني كيلا أرى شيئاً

أغمضت عينى، وفتحت قلبي، فرأت البصيرة مالا يراه البصر: رأيت إني قد ذهبت أتخطى أعناق القرون وأطوي سجل الزمان، وأدير بفكري دولاب الفلك، فيكر راجعا. . ازّخرفت هذه الجدران العارية وأخذت زينتها، وعادت هذه الأبواب، فأسدلت عليها ستر الوشى والديباج، وتحلت هذه السقوف بالصور والنقوش وتدلت منها سلاسل الذهب، تحمل الثريات المرصعة باللؤلؤ. . . عاش الإيوان، وقام في صدره سرير انو شروان، ورجع المجد وعاد السلطان

وحلت الحياة في هذه الصحراء، فنبعت المدائن والقصور من الأرض نبعاً، ونبتت منها نباتا، فنمت في لحظة وأورقت، وعلت واستطالت، ولونت الحياة هذه البرية الكالحة بألوان الزهر، فعادت حدائق وبساتين، كانت لهذه المدائن كالإطار، فرايتها أعظم المدن، وقصورها أفخم القصور، والإيوان أجل صروحها وأعلى ذراها، ورأيت هذه الأبواب التي كانت منذ ساعة تفضي من الصحراء إلى الصحراء، مفتحة للرياح والذئاب. . . قد قامت عليها الحجاب، ووقفت دونها الملوك، وحل على أعتابها المجد، والجدران التي كانت عارية مصدعة، قد شمخت وبذت وعزت، حتى غدت والطير تخشى إن تطير فوقها، أو تحوم في سمائها، ورأيت دجلة التي كانت منذ ساعة تجرى في البادية بعيدة عن الإيوان، معرضة عنه، لا تلتفت اليه، ولا تأبه له، قد غدت ساقية. . . تمشي خاضعة وسط المدائن، وتنحني لتعقد على كتفيها القناطر والجسور، وتفتح صدرها لتضم ظلال هذه القصور، وهى تستنقع فيها في أمسيات الصيف الحارة!

ورنوت بعيني إلى هناك، إلى الحيرة، فإذا الخورنق السامق يعنو للإيوان كما يعنو صاحبه لربه؛ ورميت ببصري إلى بعيد. إلى الجزيرة، فإذا فيها أشباح تجيء وتروح خلال الضباب، تموج كأنها في بحر واسع، وكأن خيامها سفائن يحملها الموج، ويمشي بها مد وجزر، ولكن هذه الأمواج تتكسر على صخرة الإيوان ثم ترقد ضعيفة وانية، والإيوان مشمخر عات، لا ملك اعظم من ملكه، ولا سلطان اعظم من سلطانه، ولا إنسان اعز من ربه؛ وامتد ببصري إلى المشرق والمغرب فلا أرى كالإيوان ثروة وجاهاً وعظمة ومجداً.

ولكن. . . مه! إن في البادية لشيئاً جديداً؛ إنها تضطرب وتهتز؛ إن فيافيها تتمخض بالحياة، ها هوذا النور يشق الضباب الكثيف، حتى يلمع كالبرق الخاطف، بين قصور المدائن وتحت أقبية الإيوان. . . لقد ضرب محمد () صخرة الخندق، فأضاءت المعجزة الإيوان، فوعده اتباعه وقال لهم: هذا الطريق.

يا للعجب العجاب! إن هذه القرية الملتفة في ألحفة الرمل، النائمة على صخور الحرة، المتوسدة سفح أحد، وجوانب سلع، تريد أن تأكل المدائن!. . بلغ كسرى الخبر، فضحك حتى استلقى. . . ثم جاء كسرى الكتاب، فعبس وبسر، واعرض واستكبر، ومزق كسرى كتاب سيد العالم. . .

لقد نطق سيد العالم بالحكم النافذ: ليمزقن الله ملك كسرى.

وفتحت عيني فإذا الحلم قد تصرم، فغاضت المدائن في الأرض ونزعت الجدران ثيابها، وابتلعت الصحراء زهرها ووردها، وعادت قاحلة ليس فيها إلا هذه الأنقاض جاثمة على ظهرها، قد حطمها الكبر، وثقلت عليها السنون، فانحنت حتى تسلق صبية القرية سطحها يلعبون عليه. . .

الصبية يعلبون على سطح الإيوان! أين كسرى يرى ما صار إليه إيوانه؟ أبناء العرب يتلهون بمجلسك يا شاهنشاه! لقد قوض المجلس، وثل العرش، وهوى التاج، فما أنجدك الجند، ولا أغنى عنك الغنى، ولا حمتك الحمية، ولا آواك الإيوان!

لقد مزق البدو ملكك يا كسرى؛ وما هذا عجيباً، فالتمزيق اسهل من الترقيع، والهدم اهون من البناء؛ ولقد هدم البرابرة من قبل عرش الرومان. . . غير أن هؤلاء البدو - يا ملك - قد أسسوا حضارة خيراً من حضارتك، وبناء اجل من بناءك، وحكموا اعدل من حكمك. وقد أثمرت حضارتهم حضارة القرن العشرين، وحضارتك لم تثمر شيئاً.

لقد بنت ديمقراطية عمر الذي كان ينام على التراب، ويلتحف بالبرنس، ويؤدب بالدرة، ويعين الفقير، ويخدم العجوز، وينصف من نفسه، لقد بنت ديموقراطيته دولة. أما جبروتك، وعظمتك الجوفاء، واستبعداك الناس، فلقد هدم دولة!

هذه بغداد الإسلام؛ فيها أربعمائة وخمسون ألفاً؛ وهذا إيوانك تصفر فيه الرياح الباردة صفير الفناء المرعب، وتنشد فيها الطبيعة نشيد الموت!

من الذي كان يفكر أيام عز الإيوان أن صبية العرب ستلعب في أنقاضه؟ من الذي يفكر اليوم بان أطفال الحبشة ستقفز على أطلال روما؟ لا تتعجبوا من شيء، إن الليالي يلدن كل عجيبة. . .

وليعتبر الطغاة، فلقد كان كسرى - يوم كان كسرى - اضخم سلطاناً، واعظم بنياناً، واكثر أعواناً، فأباد الزمان السلطان، ودك البنيان، واهلك الأعوان. . .

اعتبروا. . . فهذا صرح كسرى خال موحش. وهذا قبر سلمان عامر مأنوس. . . قد مات القصر، وعاش القبر! قصر كسرى شاهنشاه، الذي كانت تقوم على بابه الملوك.

. . . ضاحين حسرى من وقوف خلف الزحام وخنس قد مات، وغدا قبراً في الفلاة؛ وهذا القبر، قبر فارسي من عامة الناس، يصبح مثوى الحياة، تلتف به البيوت، ويؤمه الزائرون، يقفون حياله خاشعين، ثم يعودون ولا يلتفتون إلى الإيوان وبينهما ثلثمائة متر. . .

اين كان سلمان من كسرى انوشروان؟ أين كان من وزراءه واتباعه؟ أين كان من خدامه وحشمه؟ صه. . لقد خلد سلمان بالإسلام، فكان اعظم من كسرى!

أما بعد، فقد تكون الأهرام اضخم أفخم، وأعمدة بعلبك اجل واجمل، ولكن للإيوان معنى آخر. . .

هنا كان يستقر جلال الماضي كله؛ هنا كانت عظمة الملك وجبروت السلطان؛ هنا كان الذي يستعبد الناس، فيؤلهه الناس. . . لم يبق من ذلك كله شئ. . .

وكانت الشمس قد جنحت إلى المغيب، فنزلت ووقفت أودع الإيوان، فاقترب مني سائل اعمى، وجعل ينفخ في ناي معه نغمة حزينة مؤثرة. . . فكان لها - في تلك الساعة، في صمت الصحراء، ووحشة الإيوان، وغروب الشمس - اثر في نفسي لا يوصف، فقلت: آه. . . ليتني كنت شاعراً.

علي الطنطاوي

مدرس الأدب في الثانوية المركزية ببغداد