مجلة الرسالة/العدد 186/الفنون

مجلة الرسالة/العدد 186/الفنون

ملاحظات: بتاريخ: 25 - 01 - 1937



رمبراندت

للدكتور احمد موسى

بقية ما نشر في العدد الماضي

أما صور الجماعات، فمنها ما هو في منتهى الروعة والقوة. وصورة التشريح تمثل عدداً من فطاحل أطباء أمستردام متلفتين حول جثة منبسطة على منضدة التشريح، والدكتور تلب يلقي عليهم شيئاً عن حالة تشريحية معينة أتم الفنان تصويرها سنة 1632، وكانت في دار جماعة الأطباء بأمستردام إلى أن أخذتها الجليري الملوكية في الهاي. وهي صورة تمثل ثمانية اشخاص، سبعة منهم يستمعون لثامنهم وهو الدكتور تلب، وتظهر على الوجوه إجمالاً ملامح الوقار العلمي والشوق إلى معرفة الجديد. أما الدكتور تلب فقد مثل الثبات والهدوء اللازمين للعالم، ماسكاً (جفتاً) بيمينه رافعاً به الشرايين، ناظراً إلى زملائه، متحفزاً للشرح، مشيراً بيسراه إشارة العالم الواثق الذي تنبعث من عينيه نظرة محيطة بالدرس والفحص؛ وتبدو على وجوه المستمعين ظاهرة الرغبة الأكيدة والاستغراب، انظر للواقف إلى جانب الدكتور تلب، ممسكاً صفحة ورق بيسراه، ألا ترى وجهه ناطقاً بالحياة؟ ثم انظر إلى التكوين المجموعي للرؤوس وقد بدت اللحى نامية تحت الذقن، سنة العلماء ذلك الحين. لقد جمع رمبراندت بين بساطة مظهر العالم وبين جلالة العلم والوقار، أما الجثة فلا يمكن إخراجها بأحسن مما أخرجه رمبراندت، فهي مسلوبة الإرادة تماماً، ترى اليد مرتمية ارتماءً متراخياً على المنضدة، فضلاً عما ظهر على الوجه من علائم فقدان الحياة؛ فالفم مفتوح والعينان مغمضتان، والجسم عار، والذراع الأيسر مشرح ظهرت منه الشرايين ممسوك بعضها بالجفت، وهي في مجموعها لا تدل فقط على القوة في الإخراج، بل تدل أيضاً على النزعة العظيمة التي نزع إليها رمبراندت، فهو ميال إلى الجديد، مدفوع بعامل الفن إلى خدمة النواحي البعيدة التي لولا تفكيره فيها واتجاهه إليها لما شرع في عمل شبيهاتها غيره من بعده

وتكاد تكون أهم لوحاته عموماً صورة الحراسة الليلية وهي أكبرها مساحة، إذ بلغ طوله أربعة أمتار ونصف متر وعرضها ثلاثة أمتار ونصف أو يزيد قليلاً. وبالرغم من إن الصورة تظهر كما لو كانت تمثل فرقة من الجنود الأمسترداميين خارجين من مركزهم نهاراً، فنظر لما وقع من أشعة النور على جانب من وجوههم؛ إلا إن الظل والنور في الصورة يعطي فكرة صحيحة عن قوة هذا العبقري ولمسه جمال التصوير في ظلام حالك يخترقه شعاع من النور، فيزيد في جلال التصوير بجوار الظلام الحالك. تمثل هذه اللوحة عشرين شخصاً لا ترى وجهاً يشابه الآخر، ولكنه مع هذا جعل الجزء منسجم في الكل ومندمج في المجموع؛ فهو بتصويره على هذه الصفة أشبه بملحن موسيقي يوزع قطعته على آلات موسيقية عديدة، جاعلاً الانسجام الكلي متوافراً بينهما ليتم بذلك الخلق الفني المنشود.

صورها رمبراندت في فترة طويلة وأتمها سنة 1642، وهي مع اتساع مساحتها مليئة بالإنشاء، لا ترى فيها فراغ إصبع دون معنى أو دون عناية، جعل الظل شديداً والنور شديداً فظهرت بألوانها الساحرة معجزة عصره.

ومجموعته للصور الدينية كبيرة عظيمة من أهمها صورة (بولص في السجن) مؤرخة سنة 1627 ومحفوظة باستوتجارت، وسمسون ودليلة سنة 1628 ببرلين، والعائلة المقدسة سنة 1631 بميونيخ وتجهيز الصليب 1633 بميونيخ ايضاً، وانزال المسيح من الصلب 1633، وضحية إسحاق 1635 ببطرسبرج، وسيمون ينذر حماه، وصعود المسيح 1636، وعائلة توبياس 1637 باللوفر، وبعث المسيح 1639 بميونيخ، وبحث العذراء عن المأوى 1640 في جروسفنور هاوس بلندن، والعائلة المقدسة باللوفر، وتضحية مانو مؤرخة 1641 بدرسدن؛ وهي أيضاً تكمل تعريفنا بفنان لا يمضي يوم دون ذكر اسمه في عالم الثقافة والفن. انظر إلى وجهي القديسة والقديس وما بدا عليهما من فرط الخشوع والاستسلام. أما الملابس بثناياها وتفاصيلها، والدار والمدخل والسلم، فكلها بجانب ما ظهر على تكوين الملاك الصاعد شيء ثانوي؛ صوره كما لو كان مسحوباً من أعلى بإرادة خارقة، وتراه وقد تجرد عن الإرادة الذاتية صاعداً دون مقاومة.

وصورة الزوجة الزانية أمام المسيح 1644، والعائلة المقدسة 1645 ببطرسبرج، وإبراهيم مضيفاً لملاك 1645 ببطرسبرج أيضاً، وسوزانا في الحمام 1647 ببرلين، وداود وشارل يعزفان الهارب بامستردام، وأولاد يعقوب يحضرون لأبيهم بدم أخيهم يوسف ببطرسبرج، وعودة الابن المفقود (وهذه أيضاً من احسن لوحاته) ببطرسبرج.

أما الصورة الطبيعية، والتي تظهر أنها لم تتجاوز الاثنتي عشرة، فمن أهمها صورة الطاحونة وهي في حيازة اللورد لانسدون، وصورة الرعد في متحف براونشيوايج، وصورة منظر جبلي على سفحه بعض خرائب وهي مؤرخة 1560 بجاليري كاسل، وصورة جبال وقع عليها ضوء القمر فجعلها تؤثر على الناظر تأثيراً شعرياً غريباً. ومجموعته بالقلم الرصاص والريشة معظمها باللوفر وفينا، وبمتحف الصور اليدوية بميونيخ وبرلين ودرسدن، وبالمتحف البريطاني، وبمتحف هارلم وأمستردام غير ما لدى الأثرياء؛ وهي كلها تبلغ حوالي المائتين وستين صورة تصلح لان تكون وحدها رسالة علمية فنية لحلقة في سلسة تاريخ الفن العام.

ولا يحضرني الآن ما أقوله عن رمبراندت الخالد سوى قول شيللر:

(إن الإنتاج الفني الحق لا ينبغي أن يحيط بما هو خارق للعادة من الناحية الإشتمالية البحت، ولكنه ينبغي أن يشمل ما هو خارق لها من الناحية التكوينية، التي بها يتأثر الإنسان بكليته؛ على حين لا يتأثر إلى هذا الحد بالناحية الإنشائية التي لا تهم غالباً إلا الأخصاء ذوي الحاجة المحدودة).

احمد موسى