مجلة الرسالة/العدد 186/من هنا وهناك

مجلة الرسالة/العدد 186/من هنا وهناك

ملاحظات: بتاريخ: 25 - 01 - 1937



غاندي والفيران

انتهى سلطان غاندي في الهند وظهرت حقيقة الزعيم الذي كان بريق شهرته يخطف الأبصار. وفي الحق لقد كان الناس معذورين في إعجابهم بغاندي، لا سيما أيام إعلانه العصيان المدني وصبره الجميل لبطش نائب الملك وغطرسة الحكام الإنجليز؛ فلما فشل العصيان المدني ورأى الهنود أن غاندي كان يسخرهم في تيه لا طائل وراءه، هب الشباب في أنحاء الهند يسخطون على المهاتما ولم يبالوا أن يلتفوا حول جوهر لال نهرو. وزهدهم في غاندي انغماسه الشديد في الهندوكية، ودفاعه الحار عن تعاليمها التي هي سبب نكبة الهندوكيين. وغاندي برهمي سخيف العقيدة، فهو مؤمن سني يقدس البقرة ويتبرك بروثها بل يتطهر به، وهو لذلك لا يرى مانعا من أن تترك 70 مليون بقرة سائمة، لا يستطيع أحد أن يطردها من حقله إذا عاثت فيه أو نفشت في زرعه. ويدعي غاندي أنه انصرف عن الميدان السياسي إلى نصرة المنبوذين وتخليصهم، وكان ادعاؤه ذلك جميلاً لو أنه عمل به، ولكن غاندي، بدلاً من أن يوصي بالمنبوذين خيراً ويكف عنهم أذى البراهمة أوصاهم بالصبر على هذا الأذى. . . لأن الدين يأمر بذلك. . . وهو يقول أن الدين يأمر بذلك، ويعلم أن الفيدا - كتاب البراهمة المقدس - لم يرد فيه سطر واحد يهون فيه من شأن هذه الطبقة البائسة. وبذلك كان غاندي ضغثا على المنبوذين، وكان موقفه الموئس سبباً في ثورة الدكتور امبيدكار - زعيم المنبوزين - عليه وتصميمه على الانحياز بإخوانه، وهم سبعون مليوناً - إما إلى المسلمين وإما إلى السيخ.

ولكن المضحك من أمر غاندي هو انهيار ماضيه العظيم وتربيته العالية تلقاء خرافات الصوفية البرهمية التي لا تطاق. فقد حدث أن زلزلت الأرض زلزالها في الهند وانخسف جانب عظيم من الأرض، فما كان من غاندي إلا أن عزا الزلزال إلى غضب الآلهة؟! واحنق بذلك أديب الهند الكبير طاغور. وحدث مرة ثانية أن اجتاح الهند طاعون قتال، فأوصت الحكومة بوجوب محاربة الفيران لأنها اكبر الوسائل في نقل ميكروب هذا المرض. . . فما كان من غاندي إلا أن هب يحمي الفيران ويناضل عنها (لأنها مخلوقات ضعيفة لا حول لها وهي لا تستحق التعذيب والقتل لكي يسعد الناس، والطاعون قضاء السماء إن شاءت رفعته!!).

بين يوريبيدز وأرسطوفان

كان يوريبيدز عدواً للمرأة، وهو في كل دراماته كان يبشر بالحد من سلطانها وجعل الرجل سيدها المطلق. ولم يكن يؤمن بها مطلقاً، وكان يبني مآسيه دائماً على المصائب التي تنبع من مكرها والتي كان يعزوها إلى الشيطان الثاوي في أعماقها؛ وعلة ذلك انه كان بائساً في زواجه؛ فقد دخل الجحيم عندما تزوج زوجته الأولى، فلما خرج منها تزوج زوجته الثانية استقر في سقر، ولم يسعه إلا أن يطلقها كذلك، وقد طلق زوجتيه لأنهما كلتيهما خانتاه وصبتا إلى غيره. . .

هذا ويوريبيدز أقوى رجال المسرح اليوناني، ودراماته تدل على تفكير عميق وخيال خصب، ولكنه هاج الرأي العام اليوناني بأفكاره المتطرفة وآرائه التي كان لا يتورع أن يسخر فيها بالآلهة، بله الناس.

وقد سلطت المقادير أرسطوفان - الدرامي الكوميدي - على يوريبيدز يوسعه سخرية، ويتخذ من أدبه هزواً؛ وأرسطوفان اكبر أديب مهرج عرفه التاريخ، وهو لا يستحي أن يظهر على المسرح بطل الدرامة راكباً حماراً اعرج، أو يلبس الرجل زي امرأة وما يلبث أن ينكشف آخر الأمر؛ وقد يحشو الرواية بنكات مكشوفة تتصل بالعرض وتنهش الشرف ويحمر لها وجه الفضيلة.

وسنلخص كوميديات أرسطو فان في هذه النبذ في الأعداد التالية، غير أن الذي يروعنا منه في هذه المناسبة هو جراءته الكريهة على سيد أدباء اليونان والتعريض المزري بأمه؛ وكان يبالغ في إيذائه فيتهمها بالدعارة والفجور، وأنها كانت في صدر حياتها تبيع الفجل والخيار والطماطم في (مشنة) تحملها على رأسها وتنادي في شوارع أثينا!! وكان اليونانيون يسمعون هذا البذاء ويغضون. وقد أدى رضاءهم عن أرسطوفان إلى سقوطهم وظهور رومة عليهم.

سرفانتس

هاج ضرب الثوار الإسبانيين للطراد سرفانتس ذكريات سرفانتس الكاتب الروائي الإسباني العظيم صاحب (دون كوبكسوت) والذي يباهي به الإسبانيون الإنجليز كما يباهي الإنجليز كل العالم بشاكسبير. والذي يقرأ سرفانتس لا يلبث أن يتملكه الإعجاب الشديد بذكائه الخارق، ونشاط روحه التي يطبعها المرح، وتسبح في لجة من المزاح البريء والدعابة الخلابة والنكتة الحلوة المضحكة. ولقد كتب سرفانتس مقدمة كتابه (دون كوبكسوت) وهو نزيل السجن، وقد صدرت تلك المقدمة عام 1605 فما لبثت أن ترجمت إلى الإنجليزية ثم الفرنسية بعد صدورها بعام واحد. هذا وقد صدر الجزء الثاني سنة 1615، وقد استطاع سرفانتس أن يتناول في كتابه هذا الخالد حياة طبقات الناس في إسبانيا كما لو كان عائشاً بينهم - ولم تفته طبقة من تلك الطبقات على كثرتها إلا وتغلغل فيها واندمج في معائشها. فهو يصف المحامين والحلاقين، والأطباء والسماسرة، والمعلمين واللصوص، والكهنة وعذارى الأندلسيات من العرب والطباخين وأميرات قشتالة والجزائر. وشخصية دون كوبكسوت شخصية عجيبة اخترعها سرفانتس فجعلها تحب وتكره، وتسخط وترضى، وتنشد المثل الأعلى للحياة والقدوة الصالحة للفروسية، ودون كوبكسوت رجل غريب الاطوار، وهو في الحقيقة يمثل سرفانتس نفسه، لأنه شقي كما شقي صاحبه، وتعذب كما تعذب، وجال في الآفاق كما سجن سرفانتس وحي عبداً رقيقاً في قيود البيئات المختلفة كما حي سرفانتس عبداً رقيقاً عند أحد أمراء الجزائر ببلاد المغرب. ولقد عاش سرفانتس في العصر الذهبي لإسبانيا المسيحية في القرن السادس عشر بعد جلاء العرب والقضاء على صولة ملوك الطوائف، ومات في نفس اليوم الذي مات فيه شاكسبير من عام 1616.

يوريبيدز والسوفسطائيون

يصغر يوريبيدز الشاعر الدرامي اليوناني الكبير مواطنه سوفوكلس بخمسة عشر عاماً، ولهذه الخمسة عشر عاماً أثر كبير جداً في المسرح اليوناني الذي بدله يوريبيدز وغير معالمه إن لم يكن قد هدمه وأقامه على أسس جديدة متينة. ففي هذه الفترة كان السوفسطائيون قد عظم سلطانهم، واتسع مدى تعليمهم، وتأثر الناس بفلسفتهم، لأنهم علموا اليونانيين قواعد النقد، وبذروا في نفوسهم الشك، وجعلوهم يستريبون في كل قديم حتى آلهتهم، لأنهم كانوا يجيدون الجدل ويتقنون المنطق، فوسعهم أن يصبحوا المعلمين الفنيين لجميع الشعب اليوناني المثقف. ولقد تأثر بهم يوريبيدز، وانتهل من مورد فلسفاتهم، ومن هنا ثورته على التقاليد القديمة للمسرح، واستهزاؤه الشديد بآلهتهم، ونظرته إلى هذه الآلهة نظرة السخرية المرة التي تقع في اعتبارها موقع المردة والشياطين الجبارين، لا موقع الأرباب الرحماء.

حقيقة لقد أسخط يوريبيدز قومه، ولكنه فتح عيونهم على حقيقة الحياة، وبدلاً من أن يقدم لهم روايات أبطالها الأرباب وأنصاف الارباب؛ قدم لهم روايات أبطالها هؤلاء الناس، وحوادثها تلك الحوادث التي تزدحم بها الحياة كل يوم. . . الحب والبغضاء، والحقد، والطمع، والأنانية، و. . . المرأة!.

ولا نغالي إذا قلنا إن يوريبيدز هو الذي أنار الذهن اليوناني واعد الأفكار لثورة الفلاسفة (سقراط وأفلاطون وأرسطو. . .) وبالتالي فهو الذي أنار أذهاننا منذ اكثر من أربعة وعشرين قرناً.

هل برنردشو كافر؟

لا تستطيع أن تدعو برنردشو فيلسوفاً؛ مع انه احسن الفلاسفة الذين يعيشون في العصر الحديث، وليس في هذا الكلام تناقض، إذ لا تستطيع أن تحدد فلسفة شو كما تحدد فلسفة نيتشه أو كانت أو ديكارت أو برجسون، وكل من هؤلاء قد ترك أثراً كبيراً أو طفيفاً في عصره وبيئته، ولكن شو قد ترك آثاراً جليلة في الدنيا برمتها، وسيعيش أدب شو، ولكن أدباً كأدب ولز سيموت. ذلك أن أدب شو كتب لهذا الجيل وللأجيال القادمة، أو قل انه كتب للنفس البشرية في كل العصور، ولكن ولز يكتب لهذا العصر الذي نعيش فيه فقط، وقد ماتت كل كتبه التي دعا فيها إلى الإخاء الأممي. وها هي ذي الدكتاتوريات تبتلع آراءه وتغيبها في أعماق الظلام. ولذلك كتبنا مرة أن ولز قد مات وكان ذلك يوم الاحتفال ببلوغه السبعين، وكنا نقصد انه مات بأفكاره وكتبه وقصصه لولا أن سها الصفاف فاغفل هذه العبارة. وفلسفة شو هي باقات يانعة من الآراء الاجتماعية منتثرة في قصصه ودراماته، وليست له نظرية محدودة كما للفلاسفة، ولكن الذي يبرز بروزاً واضحاً منها هو كفره الصريح وإيمانه بان الله هو الحياة نفسها، وليس شيئاً آخر. ومع أن هذا الرجل متأثر إلى حد بعيد بالطهريين، وهو إلى الآن ينحو نحوهم في امتناعه عن إيذاء الحيوان والاكتفاء بالأغذية النباتية فانه يكفر بأفكارهم ويثور على تقاليدهم الاجتماعية بكل ما فيه من قوة وجلد. وقلما ألف شو في الحب، وهو يستهزئ بالمحبين، ولذلك لم ترج دراماته في مصر خاصة، وفي ممالك البحر الأبيض عامة، ذلك لان شعوب هذا البحر شعوب وجدانيون مولعون بالموسيقى والرقص والغناء والفنون، وهذه كلها من آلات الحب، ويدلنا ذلك أيضاً على رجحان العقل في رأس شو على القلب في صدره، ولذلك لم ندهش يوم زار مصر وتفرج على آثار توت عنخ واحتقرها، وقال انه جدير بمصر أن تبيعها للأمريكان وتبني بثمنها سدودا على النيل أو تسدد بها ديونها. حقا إن شو لكافر!.

د. خ