مجلة الرسالة/العدد 191/الفنون

مجلة الرسالة/العدد 191/الفنون

ملاحظات: بتاريخ: 01 - 03 - 1937



الفن المصري

العقيدة الدينية أصل الباعث على الفن

للدكتور أحمد موسى

انظر إلى خريطة وادي النيل الطبيعية، تجد أن مصر واد جميل منبسط، لا تتخلله ارتفاعات ولا انخفاضات خصوصاً في المناطق المأهولة بالسكان، أما الأمطار فهي نادرة فيه، فضلا عن أن الشمس تسطع عليه طوال أيام السنة

وتفكير الناس وتكوين إحساسهم وليد البيئة التي يعيشون فيها. ولما كان الفن وليد دقة الإحساس وسمو التفكير، وجب أن يكون الفن المصري بسيطا سهلا، نظراً لبساطة الخيال المصري ولين شاعريته، على عكس الخيال الإغريقي مثلا

وكان المصري ولا يزال قليل الاستمتاع بجمال الطبيعة لندرة تغيرها، على حين نرى الإغريقي عظيم الإحساس بالجمال والاستمتاع به سريع التأثر بمظاهر الطبيعة المتقلبة، كثير السعي والبحث وراء ما فيها من جمال وفن. كل هذا راجع إلى اختلاف الطبيعي بين مصر وهي البلاد المنبسطة المكونة من قطعة واحدة غير منفصلة، وبين اليونان وهي جزائر سواحلها كلها تضاريس، فضلا عن كثرة الارتفاعات والانخفاضات في سطحها

وقد أوضحت شيئا يسيراً عن الفن المصري قبل التاريخ، وقلت إن الالتفات إلى الدين كان قبيل عهد الأسرات، وأن هذا الالتفات نما وأزداد حتى عصر مينا، الذي وحد بين الوجهين البحري والقبلي مكونا مملكة واحدة

وإذا استطعنا أن نفهم شيئا عن تطور العقيدة الدينية، فإنه يمكننا أن ندرك الفن المصري إلى حد الاستمتاع

أنعم المصريون النظر في الموجودات والمرئيات، واتجهوا بنظرهم إلى السماء، فتصور بعضهم أن القبة السماوية شيء أشبه ببقرة كبيرة رأسها متجه نحو الغرب، وأن بلادهم بين أرجلها، كما تخيلوا أن النجوم لا تخرج عن كونها زينة تتحلى بها

وتصور غيرهم أن السماء على هيئات امرأة انحنت متجهة بيديها ورأسها نحو الغرب، وبأرجلها نحو الشرق، وأن النجوم حلى منثورة على بطنها وصدرها

وإذا فكرنا قليلا نجد التشابه في الفكرة عظيما، ولاسيما وأن الذين تخيلوا السماء على هيئة بقرة ظنوا أن الشمس تولد (تشرق) على هيئة عجلة صغيرة؛ وأما الآخرون الذين تخيلوها على شكل امرأة فقد ظنوا أنها تشرق على هيئة طفلة تسير من الشرق إلى الغرب، فلا تلبث أن تصير عجوزاً عند غروبها

ظل الحال كذلك حتى اتصل أهل مصر العليا بأهل مصر السفلى وتم التعارف بينهم، وتبادلوا التجارة وتفاهموا في شؤون الحياة وفي شؤون الدين

وكانت نتيجة هذا التعارف والتفاهم أن وجدنا أن هناك من رأوا الصقر يطير بسرعة، فتخيلوا الشمس مثله، تطير بجناحين من الشرق إلى الغرب. وكان أثر هذا الخيال عميقاً في الفن المصري، فترى الشمس قد رسمت بجناحين في مناسبات مختلفة

ولم ينته الأمر عند هذا الحد، بل نظر المصري إلى الماديات وأولها وادي النيل، فتخيله رجلا منبسطاً على الأرض، ظهره إلى السماء وعليه نمت النباتات، وعاش الإنسان والحيوان مستمدين الحياة من الشمس. وظنوا أن الدنيا تبدأ حيث بدأ النيل من ذلك المحيط اللانهائي جنوباً، وتنتهي حيث يصب شمالا

واعتقدوا أن هناك آلهة للماء وللأرض وللهواء، وتوسعوا في تصوراتهم فجعلوا للحياة إلها وللموت آخر، وللمسرات والحب غيرها وهكذا

وكانت عبادتهم للشمس قوية باعتبارها مصدر الحياة والنور، فاختاروا لها مدينة خاصة أسموها عين شمس (هليوبوليس) كما أسموا الشمس (رع) عند الشروق و (اتوم) عند الغروب.

ونظراً لدقة ملاحظتهم للقمر وإعجابهم بانتظام سيره الزمني، جعلوا منه منظما لزرعهم واعتبروه إلها للعلوم والآداب، واتخذوا بلدة الأشمونين (قريبة من المنيا) مقراً لعبادته

ورمزوا للسماء ببقرة رسموها في معبد درندرة (بالقرب من قنا) وبقطة في صا الحجر (بالقرب من كفر الزيات) وبلبؤة في ممفيس (بالقرب من البدرشين)

وكانت مصوراتهم التي رمزوا بها للآلهة بسيطة في أول الأمر، مما يدل على بساطة معيشتهم في ذلك الحين، كما أن رسوماتهم لها لا تدل على انهم أحبوا حيواناتهم حباً عظيماً جعلهم يصورون رؤوس هذه الآلهة بصور تلك الحيوانات نفسها عند تدهور المدنية المصرية

وإذا دهشنا للعقلية المصرية من ناحية العقيدة الدينية، فإننا لا نندهش عندما نجد الكهنة يتركونهم مسترسلين في عقائدهم حتى بذلك يدوم لهم السلطان

وكانت هذه العقيدة، رغماً عن عدم انسجامها مع العقلية المصرية خير دافع للفن المصري بل وإلى الحضارة المصرية إجمالا، فكل ما وصل إليه المصريون من أبهة وعظمة كان عن طريق هذه العقيدة، وكل ما تركوه من آثارها لا يخرج عما شيدوه للدين

فإنشاؤهم المقابر والأهرام والمعابد، كل هذا لم يكن إلا لرسوخ العقيدة الدينية في أنفسهم. ولا يعنينا الآن وصف شيء من مقابرهم أو أهراماتهم؛ أما معابدهم فكانت إجمالا عبارة عن حوش محدود بحوائط تنتهي بصالة مستطيلة ذات أعمدة، وعلى يمينها ويسارها غرف لحفظ الأثاث والأدوات والهدايا، وضمن هذه الغرف مساكن الخدم

وخصصوا غرفة وضعوا في وسطها حجراً من الجرانيت المنحوت جيدا، جعلوه قاعدة لتمثال المعبود الذي كان أحيانا من الخشب المطعم بالذهب والفضة والأحجار الكريمة، وبارتفاع يتراوح بين نصف متر ومترين

وكانت احتفالاتهم الدينية في أول الأمر بسيطة، ولكنها أخذت شكلا عظيما فيما بعد، فبدأوا يقيمون حفلاتهم الدينية التي كانت تتخللها الموسيقى والغناء والرقص

وقام الكل بتموين هذه المعابد بالمأكل والمشرب، ووصل بهم الحال إلى جعل الاشتراك في هذه الاحتفالات إجباريا فاشتركت البلاد من أقصاها إلى أدناها، وقدموا هداياهم إرضاء للمعبود لينالوا بذلك سعادة الدنيا والآخرة. وكان فرعون، وهو الحاكم المطلق للبلاد يقوم علاوة على مهمته المدنية بمهمة الكاهن الأكبر، وقد عين لنفسه نائبا في كل معبد، يقوم بتقديم القربان للمعبود: وبرئاسة المصلين الذين يدعون لفرعون بدوام الملك والأبهة. وكان من شأن الكاهن أن يقوم بالمحافظة على المعبد بمشتملاته وبمراقبة حساباته من إيراد ومصروفات

من كل هذا نرى أن الدين المصري دفع المصريين في إخلاصهم المتناهي له، إلى بناء المعابد والاهتمام بشأنها وتنميتها وزخرفتها. وكل هذا لا يخرج عن كونه الفن المصري إجمالا، لأننا إذا ألقينا النظر على وادي النيل كله، وتأملنا ما تركه المصريون قديما، لا نجد إلا أهراما ومعابد ومدافن، وما بداخلها لا يخرج أيضاً عن متروكات ارتبطت بحياة الناس أو بموتهم

ويتلخص تاريخ الفن المصري كدراسة خاصة، في التوسع في وصف هذه الآثار ووضع قواعد لنماذجها وتطوراتها ورقيها وانحطاطها، وعلاقة ذلك بالحياة الاجتماعية في ذلك الحين، مع الاستعانة بما وجد على الجدران والسقف من كتابات ونقوش وزخارف، وما وجد من تماثيل وتحف ومحفوظات دلت بدرسها على ما وصلت إليه المدنية المصرية من مستوى يجعلها وحيدة فريدة بذاتها بين أمم العالم

ولاعتقاد المصريين في عودة الحياة إلى الجسم بعد الموت (البعث) فضل عظيم في إيجاد التقدير الهائل نحو الموتى الذين تمتعوا أثناء حياتهم بمشاهدة مقابرهم التي سيدفنون بها بعد موتهم

وفكرة شروق الشمس واعتقادهم بأنها تأتي معها بالحياة، وفكرة غروبها واعتقادهم بأنها تذهب ومعها الحياة، جعلتهم يدفنون موتاهم على الضفة الغربية للنيل في معظم الأحيان، ليمثلوا بذلك الموت في اظهر معانيه

وكانت هناك عقائد خاصة بحال الروح بعد الموت؛ فمن المصريين من اعتقد أنها تسكن عالماً آخر اسفل هذه الدنيا؛ ومنهم من ظنها تتحول إلى طير يطير بعد مفارقة الجسم إلى قرص الشمس ليعيش بجواره

وحرصهم على جثث موتاهم التي ستعود إليها الروح في وقت ما، جعلهم يمهرون في فن التحنيط، كما تفننوا في طريقة المحافظة على الموميات، فتراهم دفنوها دفناً منيعاً، بعد وضعها في تابوت من الخشب وضع في تابوت آخر من الصوان أو الحجر الجيري. وكانت مدافنهم على شكل الأهرام أو على المصاطب أو في جبانات عملت خصيصا

وكان الغرض من التحصين الحيلولة بين اللصوص وبين العبث بالجثث، وبما دفنوه معها من أدوات وجواهر وتماثيل الخ.

واشتملت حوائط غرف الأهرام والمصاطب والمقابر على كتابات ونقوش، كما اشتملت على رسومات تبين صاحب القبر يراقب الخدم أثناء اشتغالهم بخدمته والمحافظة على راحته بعد موته.

وكانت العناية ببناء المقابر فائقة في كل أجزائها التكوينية والشكلية، وسهر نفر معين من الناس للمحافظة عليها نظير أجر معلوم حصلوا عليه من أصحابها.

أحمد موسى