مجلة الرسالة/العدد 191/من هنا ومن هناك
مجلة الرسالة/العدد 191/من هنا ومن هناك
أونجين
لعل هذه التحفة النادرة هي أبدع ما نظم بوشكين الشاعر الروسي طول
حياته، وقد بدأها سنة 1823 وأتمها سنة 1831. وهي خيال طريف
لقصيدة بيرون ببو وإن تكن في صدقها وروعة فنها خيراً من ببو
ومن كل ما نظم بيرون على الإطلاق. ونلخص اليوم تحفته أونجين
التي تبذ كل ما كتب الأدباء الروس فنقول:
(بوجين أونجين أحد أبناء الطبقة المتوسطة من سكان بطرسبرج، حسن البزة، منسق الهندام، عنى أبوه بتربيته تربية رفيعة، وتوجيهه في الحياة وجهة خاصة، إذ وصله بالأستاذ لابيه فتفقه في الفرنسية حتى ثقفها وأصبح يتكلمها كواحد من أهلها. وكان مشغوفاً في ملبسه بالطراز الإنجليزي من نسق لندن. وأجاد بضع رقصات كان أحبها إليه (المازورقا) - وكان متأنقاً في عبارته، يتخير اللفظة الرنانة، ويصقل الحروف صقلا أرستقراطياً يزيد في فخامتها، ويضاعف موسيقاها. وطالما كان ينثر في حديثه أبياتاً من الأنييد (فرجيل) أو يستشهد بالحكمة اليونانية، والمثل اللاتيني، كأنما يريد أن يلفت السامع إلى تبحره في الأدب، ورسوخ قدمه في التاريخ، وإلمامه بعلوم الأولين. . . . . . والآخرين! وفي مشيته، بل في طعامه، بل في جلسته، بل في الإيماءة الصغيرة بطرفه، كان يتعمل تعملا ملحوظاً، وكأنما أورثه تعمله هذا رذيلة الاضطغان، والتبرم بجميع المخلوقات!. . . وكان أبوه رجلا متلافاً مبذراً، لا يكفي دخله المتوسط للمظهر الذي كان يبدو به بين الناس، وكان لذلك الاستدانة قليل السداد. . . يقيم في داره المراقص والمراقص. . . وهو في إفلاس وضيق ليس وراءهما إفلاس وضيق. فلما مات خلف تركة ثقيلة من الديون الفادحة، أتت على أخضره ويابسه
واشتد الضيق على أونجين فارتحل إلى عمه في الريف فوجده قد انتقل إلى الآخرة هو الآخر. وثمة تعرف إلى شاب ألماني حَدَث، واسع أفق الفكر، متشعب المعرفة، درس كانت وشيللر وهجل وأدباء الألمان، حتى ما يكاد ينطق إلا بكلامهم ولا يفيض إلا عنهم. ويقد هذا الشاب (لنسكي) إلى عائلة مجاورة قوامها أرمل وابنتان، صغراهما أولجا، فتاة يافعة ممشوقة ساحرة اللفتات، رشيقة الحركات، علقها لنسكي من كل قلبه، وشغفه حبها حتى ما يفكر إلا فيها. والكبرى، تاتيانا، أقل جمالا من أولجا، وإن تكن أرجح عقلا، وأثبت جناناً، وأكمل أنوثة. ترى أونجين فتحس بزائر جديد يحتل قلبها دون أن يستأذن، وتشعر بانعطاف إليه يقرب أن يكون ولوعاً. وتكتب إليه بعد أن يكون التعارف قد اشتدت أواصره، وتعترف له بما تحس نحوه في أعماقها، في أسلوب صارخ، وعبارة مجلوة منتقاة، وكلمات تكاد تتوهج وتلتهب. وليس في أشعار العالم شيء يشبه ما نظمه بوشكين في رسالة تاتيانا هذه، بل ليس في فلسفة الحب صورة هي أروع ولا أصدق مما جاء في خطابها إلى أونجين. لقد كان قلبها يتكلم ويتضرم، وكانت نفسها الملتاعة الوامقة تسيل دماً على شباة القلم. ولقد قرأنا درة شللي (أبييسيكيديون) في الحب، ولكنا لم نلمس هذه الروح التي هبطت من وحي بوشكين في رسالة تاتيانا، ولم نلمح هذا القبس المقدس الذي أججه بوشكين العظيم في شعره العظيم. . .
ويرد أونجين على هذه الرسالة العلوية بخطاب فاتر بارد فيدعي فيه أنه لم يخلق للحب، ولا يفكر في الزواج. وأنه غير جدير بها، لأنه لم يشعر نحوها إلا بما يشعر به الأخ نحو أخته.
وإنهم جميعاً لفي مرقص، فتدعو أولجا الصديق أونجين إلى رقصة اختارتها، فينهض ملبياً طلبها، وما تنتهي الموسيقى إلا وقد جن جنون لنسكي من الغيرة، فينهض إلى أونجين وينتهره، ويتحداه تحدياً يهيجه، فتكون بينهما مبارزة هائلة يقتل فيها لنسكي - وتسود الدنيا في عيني أونجين، فيرحل عن هذا البلد ويتنقل في أطراف البلاد. . وتنتقل الأرمل بابنتيها إلى العاصمة حيث يتفتتن أحد أغنيها بتاتيانا، فيخطبها إلى أمها، وسرعان ما يصبحان زوجين سعيدين
ويلتقي بها أونجين فجأة في إحدى حدائق بطرسبرج، فتثور في نفسه الذكريات القديمة، ويهيج به ميله الماضي، فيبثها حبه ولكن. . ولكن. . الفتاة تدمع قليلا. ثم تصارح الفتى قائلة:
(أونجين! لقد أحببتك من صميمي، ولكنك استكبرت ورفضت حبي. . . وهأنا الآن زوجة.
وعلي واجبات. . . ولزوجي شرف، وله كرامة. . . وهو بحبه لي خير منك بعبثك عليَّ. . . أونجين. . . وداعاً!)
هذا ملخص مقتضب لهذه القصة الرائعة التي يخطئ مؤرخو الآداب فيقرنونها بدون جوان لبيرون
فن راسين (1639 - 1699)
يعتز الفرنسيون براسين اعتزاز الإنجليز بشاكسبير. ولكل من راسين وشكسبير ميزة يفضل بها أخاه، فراسين يحكم العقل في العاطفة ويسخرها له وبعكسه شاكسبير الذي يجعل العاطفة مسيطرة على العقل سيطرة تامة ويترك لها القياد فوق المسرح فتنتقل بالنظارة في آفاق شعرية جميلة صاخبة لا وجود لها في عالم الحقيقة. ولا يدري أحد أيهما يفضل أخاه ولا يستطيع أحد أن يحكم لأحدهما على الآخر
والذي يلفت النظر في فن راسين أنه مشيد على دعائم يونانية من فن سوفوكليس ويوريبيدز في حين تفيض فيه روح مسيحية عليها طابع قوي من جماعة الـ (أو الطهريين الفرنسيين) ثم يزين ذلك كله رواء من أبهة لويس الرابع عشر وفخامته.
ولكن يوريبيدز أقوى أثراً في راسين من كل شيء آخر. ولا غرو، فقد كان راسين يسير على درب الأديب البوناني الكبير ويمشي على منهاجه فلا يحيد قيد أنملة، اللهم إلا فيما يجعل دراماته ملائمة لعصر لويس العظيم. ففي (أندروماك) و (إفجنيا) و (فيدر) نلمس يوريبيدز في الأدب الفرنسي وتكاد المقارنة بينهما، وإن كان راسين قد لون فن أستاذه بمثل الألوان التي كان رافائيل يضيفها على صور لداته فيخلقها خلقاً آخر.
وليس شك في أن (أندروماك) خير درامات راسين جميعا. ولا نبالغ إذا قلنا إن أية درامة أخرى لم تجمع أشخاصاً ذوي عواطف شتى وأحاسيس متناقضة كما جمعت أندروماك. ولا نستطيع أن نعلل الأسباب التي إليها يرجع عدم نجاح هذه الدرامة العنيفة على المسرح المصري، إلا أنها قطعة كلاسيكية لم يعتدها الذوق المصري بعد. وهذا ما يؤسف له! وإذا كانت أندروماك قد جمعت كل هذه الشخصيات المتناقضة فبعكسها (فيدر) التي ازدحمت في قلب بطلتها متناقضات من عواطف غريبة ما برحت تتنقل وترتفع وتنخفض وتخبو وتشتعل حتى ختام المأساة. فقد أحبت فيدر ابن زوجها حبا شهوانيا اختلط بلحمها وخامر قلبها، ثم جعلت تتلطف إليه، ثم أعلنت إليه أنها تحبه، وطفقت تراوده، ولكن الفتى أبى أن يخون أباه أو يغمس شرفه في الوحل، فتضرعت إليه، وانقلبت الضراعة فأصبحت مذلة وهواناً، فلما اشتط الفتى في تمنعه انقلبت المذلة فصارت حقدا وغيظا، ثم اضطرم الغيظ فصار شرا تضمره فيدر ويمزق فؤادها. . . ثم اتهمت الفتى لدى أبيه أنه يراودها عن نفسها. . . فوقعت المأساة! فأنت ترى - إن كنت قد قرأت أندروماك أو شهدتها على المسرح - أن العواطف المتناقضة التي توزعت على أبطال أندروماك قد اكتظت كلها في نفس فيدر؛ وهذا عمل فتي خالد لم يتح لكاتب مثل راسين.
كذلك قد قلد راسين الشاعر الكوميدي اليوناني أرسطوفان في ملهاته التي احتذى فيها الكوميدية اليونانية (الزنابير!) والتي أضحكت لويس الرابع عشر حتى ذهبت بوقاره المعروف عنه!