مجلة الرسالة/العدد 192/أقصوصة

مجلة الرسالة/العدد 192/أقصوصة

ملاحظات: بتاريخ: 08 - 03 - 1937



الخداع

مترجمة عن الفرنسية

بقلم الأستاذ فليكس فارس

بين الوهاد والجبال أمام روعة الطبيعة لم تدنسها يد الإنسان كانت العساكر الفرنسية والإنكليزية تتحين الفرصة للهجوم، وكل منها يتوقع الفوز بوفرة عدده وضخامة عدده. وكان قائد الجملة الفرنسوية شيخاً بلته الأيام فما زادته إلا صلابة وعزماً. وقد ملئ تذكاره بالوقائع الكبرى وعقد له النصر ألوية وسجل له التاريخ صفحات المجد خالدة.

حمي وطيس الحرب فتوالت الهجمات وتفجرت الدماء على تلك الأرض الجرداء مثمرة الترمل والثكل واليتم. وما لبث أن أحاط الإنكليز بأعدائهم إحاطة السوار بالمعصم فكادت تدور على هؤلاء الدائرة لو لم يتدارك القائد الشيخ خطورة الموقف بعزمه وإقدامه

وكان هذا القائد ممتطياً صهوة جواده يفكر في إيجاد وسيلة تمكنه من اختراق صفوف الأعداء. فشاهد أحد أتباعه يتقدم إليه بخطوات ثابتة. وعندما وصل القادم إلى مقربة منه عرف أنه هنري الذي تبناه بعد أن سقط والده قتيلاً في موقعة كان هو قائدها أيام الصبا. وحاط القائد هذا الطفل بكل رعايته حتى بلغ أشده فاتخذه معيناً له، وكان يستصحبه في جميع معاركه وكان هذا الفتى الجميل قد عاد مرات من الحروب مثخناً بالجراح فضمدتها يد قرينة القائد الشيخ وهي فتاة في ريعان الصبا كانت تزوجته بالرغم من تقدمه في السن وبالرغم من أقوال الناس وتكهناتهم

وحدق القائد بفتاه معجباً بجمال طلعته وبسالته وقال له: - لا خلاص لنا من هذا المأزق إذا نحن لم نخترق دائرة الأعداء المحيطة بنا، فعليك أن تقوم بهذا العمل، اختر من تشاء من الشجعان وسر في مقدمتهم. فالواجب يدعوك إلى التضحية من أجل الوطن والمليك

وانتضى الفتى سيفه ونادى: ليحيى الملك

فرددت نداءه فرقة من الجند لمعت سيوفهم في الفضاء وتقدموا منضمين إلى قائدهم الجديد منتظرين إشارة الهجوم وارتمى هنري بين يدي مربيه يضمه إلى صدره قبل أن يقتحم المخاطرة الكبرى، فتمازج دمعا الفتى والشيخ وكل منهما موقن بأن لا لقاء بعد هذا الوداع

وفي تلك اللحظة شق الصفوف فارس آت من باريس، ترجل عن فرسه وقد علاه الغبار وأضناه التعب وتقدم إلى القائد الشيخ مقدماً له رزمة رسائل مختومة بالشمع الأحمر حاملة عنوان هنري بأحرف منمقة، ولم يكد يفض القائد الختم ووقعت أبصاره على السطور حتى جمد الدم في عروقه وارتسمت على وجهه أمارات حزن عميق وحدق في ربيبه ملياً وقد جفت دموعه فجأة بين جفنيه

وكانت الرسائل من عقيلة القائد الشيخ موجهة إلى هنري. في كل كلمة منها شرارة شوق وفي كل سطر شعلة غرام وجنون

وأدار الشيخ وجهه عن ربيبه وسرح أبصاره على ميدان المعركة كأنه يفتش عن هاوية تنفتح فيه فيذهب إليها ببقية حنان كانت تختلج في قلبه لربيبه وبشبح غرام نورت أزهاره على غصن هرم ففاحت منا رائحة القبور

مزق الرسائل الواحدة تلو الأخرى على مهل وهو مصغ من أعماق روحه إلى هتفة ما كان يعلم أمنها أم من روح الوجود مصدرها: - ويل للعقوق، ويل للخائنة

وانتبه الشيخ كمن يستفيق من حلم وقال لهنري: - ابق هنا وقم مقامي، فلسوف أقود مخترقي الصفوف بنفسي

فصاح الفتى: - ولم تريد حرماني هذا الشرف، يا أبي؟

فأدار القائد رأسه ليخفي ما ارتسم عليه من الحنق والألم وقال بهدوء: - ذلك أمر تلقيته الآن

واختنق صوته، فاندفع نحو الخطوط وتبعته فرقة المستبسلين

وعلا دخان البارود وملأ الفضاء أزيز الرصاص، فلم يسمع أحد ما هتف به القائد الشيخ وهو يرتمي قتيلاً عن صهوة جواده.