مجلة الرسالة/العدد 194/الكتب

مجلة الرسالة/العدد 194/الكتب

ملاحظات: بتاريخ: 22 - 03 - 1937



ملحمة عبقر

للشاعر المطبوع شفيق معلوف

رمى الكثيرون الشعر العربي بالعجز والقصور عن متابعة الشعر الغربي في القصة والملحمة والرواية التمثيلية؛ ولكن ناظم عبقر ضرب لهؤلاء المثل الحي على العيب واقع على عاتق الشعراء أنفسهم لا على اللغة ولا الشعر. ولقد ظلت عبقر مدى العصور تتردد في ألفاظ كثير من الشعراء ولكن لم يفكر واحد منهم في أن يخرج لقراء الضاد قصيدة عنها بقدر ما توحي إليه من خيال؛ كأنها أبت أن تكشف سترها وتميط اللثام عن حقيقتها إلا لهذا الشاعر المحلق في سماء الجمال، فحمله شيطانه إلى عبقر، وأوديتها السحرية؛ وهناك كشف له سر الحياة، فوقف على المجهول من أمرها، حتى إذا عاد إلى دنياه صوره بلغة الأرض؛ فأبدع في ذلك ما شاء له الإبداع، ورسم هذه العوالم الدفاقة بالسحر والخيال وقربها إلى قارئيها فإذا هم يعيشون ويتحركون ويتنفسون فيها، وإذا هم يحيون في مهابط الجن، ويقضون مع حورها لحظات لا يحسون فيها لغب الواقع، ولا تعب الحياة وأوضارها، ولست أدري أيهما خلد الأخر: هل خلق شفيق عبقر، أم هي التي خلقته؟

حمله شيطانه إلى عبقر ذلك الشيطان الذي:

في فمه من سقر جذوة ... يطير منها الشرر الثائر

ووجهه جمجمة راعه ... أنيابها والمحجر الغائر

كأنما محجرها كوة ... يطل منها الزمن الغابر

ويمضي الشيطان بصاحبه إلى عبقر ليريه (جنا من النور جلابيبها) وإذ يهبط الاثنان عبقر، يرى الشاعر (الغمائم الزرق) وفي أبراج المنازل (تثور ضجة بها يضيق الأفق الأوسع) ثم يحيط به الشيطان عند عراقة عبقر فإذا بها عجوز شمطاء طواها الكبر، ولقد أبدع الشاعر أيما إبداع في وصفها بقوله:

تلف ثعبانا على وسطها ... يكمن في نابه كيد القدر

مجامر الصندل من حولها ... تألب الجن عليها زمر

ينبعث الدخان من شعرها ... ويلتظى في مقلتيها الشرر كأنما الله لدى بعثها ... زودها بكل ما في سقر

وفي حديث العرافة له نرى الوصف المر الأليم للإنسان، وما انطوت عليه نفسه من مكر وخديعة، وترى روح التهكم تنبعث على لسان العرافة ساخرة بكبرياء ابن آدم وقد خال (نفسه أعلى من ربه، وحسب عيبه فضلا) وأية سخرية أشد وقعا مما انطلق به لسانها من أنها:

تخشى على الثعبان ... من شره

في نابه السم كان ... وصار في صدره

وينطلق به شيطانه إلى امرأة قد كورت من حلقات النور أضلاعها تلك هي (الشهوة) وإن وصفه الرائع لها، ليجعل القارئ يخال الشهوة قد جسمت امرأة وهي تضج:

من لي بحب نوره ينبلج ... من شرر محتدم في المقل

من لي بثغر لاهب تنفرج ... ثغرته عن شعلات القبل

يا حامل الجسم ألا أعطنيه ... وخذ إذا شئت خلودي ثمن

وشاحي الناري من يشتريه ... فإنني أبيعه بالكفن.

ويمضي به الشيطان إلى الكاهن سطيح الذي يرى أن الله خلصه برحمته حين استل منه العظام (وملأ الفراغ من حكمته) أما الكاهن شق فقانع بنصفه، وما ضره أن حباه الله بيد واحدة إذ:

هل تنفع اليدان والواحدة ... تهدم ما تشيده الثانية

ويخلص القارئ من مغزى هذه الحكمة أن في النقص كمالا، ولكن الشاعر يهوى به الأسلوب في قوله (والله يهديني سواء السبيل) فهي نابية في موضعها لا تلائم الذوق الشعري، وإنك لتلمح رثاءه للبغايا وألمه لهن خلال وصفه الشعري الجميل لهن فهن:

دسن من الحديد محمره ... ورحن يقحمن البراكينا

يلغن في الجمر ويغببنه ... غبا ويرشقن الشياطينا

زج بهن الله في عبقر ... يبلو بهن العبقريينا

وينتهي بالشاعر المطاف عند رفات العبقريين من الشعراء والأدباء، وفي نشيد جماجم هؤلاء العباقرة تلمح تقديس الشاعر لهم، فهؤلاء أرواحهم تبني قباب الخلود (بغير أحجار الورى) وهم في موتهم يعيشون على. . الحب الذي:

إن كانت الأرض جحيما له ... وكان فيها تهنأ الأرض

هذه جولة في عبقر المعلوف، فإذا كان فوزي قد حلق على (بساط الريح) فإن أخاه في عبقر قد تغلغل في ثناياها مع حورها وكهانها وعرافاتها وشيطانها

وإن خيال شفيق لمنسجم مع تفكيره، وهذا سر إبداعه، فلا جرم إذا حلق خياله من شاهق ولم يسف في شعره. ولا عجب إذا طالعنا ذلك الشاعر بنفحات من الشعر الخالد في لفظ متسق، وجمال مطبوع، وبيان عذب فصيح، وخيال لو قيل له اختر صاحبنا لما اختار غير شفيق.

حسن حبشي