مجلة الرسالة/العدد 196/التصوف الفلسفي في الإسلام

مجلة الرسالة/العدد 196/التصوف الفلسفي في الإسلام

ملاحظات: بتاريخ: 05 - 04 - 1937



للدكتور أبو العلا عفيفي

مدرس الفلسفة بكلية الآداب

سأعرض في هذا البحث للتصوف الفلسفي من ناحية نشأته والعناصر التي دخلت في تكوينه لا من حيث مسائله ولا نظرياته، وإن كنت سأشير إلى بعض هذه النظريات إشارة سريعة مجملة

ونشأة التصوف الفلسفي في الإسلام متصلة بنشأة التصوف نفسه من جهة، وبنشأة الزهد الذي تقدم التصوف الفلسفي منه وغير الفلسفي

وربما خلط بعض الناس بين التصوف والتصوف الفلسفي من جهة، وبين التصوف والزهد من جهة أخرى؛ أو فهم الثلاثة أنها من المترادفات، وليس هذا بنادر الوقوع. أما الزهد فهو الناحية العملية من الطريق الصوفي؛ أو هو الحياة التي يحياها الصوفي، تلك الحياة البادية في مظهره الخارجي من تقشف في المأكل والمشرب واعتزال للناس وانقطاع إلى الله، والبادية في حياته الباطنة الروحية من خشية من الله وورع وتقوى وعبادة وصوم وصلاة وذكر وتهجد وهجر للدنيا وزخرفها. وأما التصوف فأصدق وصف له أنه طريق لتصفية النفس ومجاهدتها ورياضتها والانتقال بها من حال إلى حال ومن مقام إلى مقام والترقي بها في خطوات بطيئة عسيرة حتى يصل بها صاحبها إلى المقام الذي يطلق عليه الصوفية اسم مقام الشهود أو الوجد أو الفناء - وهو المقام الذي يدرك فيه الصوفي - وفي هذه الحال لا فرق بين صوفي مسلم وصوفي مسيحي أو يهودي أو بوذي - يدرك من الحقائق ما لا سبيل للعقل الإنساني أن يدركه، ويتذوق من المعاني ما يكل اللسان الإنساني عن شرحه

وأما التصوف الفلسفي فهو الأساس الميتافيزيقي أو النظريات الفلسفية التي يحاول بها الصوفيون في وقت صحوهم تفسير أو تعليل ما يجدونه في وقت سكرتهم أو في حالة وجدهم

وقد وجدت هذه الأنواع الثلاثة في الإسلام وظهرت فيه ظهورا تاريخيا متواليا بحيث يمكن اعتبار كل منها دورا من أدوار التصوف هو بمثابة المقدمة المنطقية للدور الذي يليه، فظهر الزهد في القرنين الأولين من الهجرة، وظهر التصوف في القرن الثالث، وظهر التصوف الإسلامي في القرن الرابع وما بعده، ولم يأت القرن السادس والسابع حتى بلغ التصوف الفلسفي أقصى حده في النضوج ثم ضعف شأنه بعد ذلك تدريجياً

أما الزهد فقد ظهر في الإسلام قويا فتيا بمجرد ظهور الإسلام تقريبا؛ ذلك أن الإسلام دين ورحمة وزهد وتقوى؛ وليس دين دنيا وشهوات ولذات كما يصفه بذلك أعداؤه الذين يحاولون تعليل نشأة الزهد في الإسلام بأنها راجعة إلى عوامل كلها خارجة عن الإسلام، ويخصون بالذكر من بين هذه العوامل المسيحية والرهبنة المسيحية التي كانت منتشرة في صحراء العرب وبلاد الشام ومصر وغيرها من البلاد الإسلامية

نعم لم يدع الإسلام إلى الرهبنة، بل هو صريح في إنكارها في القرآن والحديث، ولكنه دعا إلى العبادة والورع والتقوى والتهجد وقيام الليل والصوم والصلاة

نعم لم يذكر القرآن كلمة زهد ولا مادة الزهد إلا في آية واحدة في سورة يوسف في قوله تعالى (وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين) ولم يذكرها هنا على سبيل المدح ولا بالمعنى الذي نتكلم عنه، ولكنه وإن لم يذكر (الزاهد) فقد ذكر العابدين والسائحين والقانتين والمخبتين والركع السجود، وكل هذه من صفات الزاهدين

وإذا كان الزهد طريقة للتقرب إلى الله ومناجاته وذكره فقد وصف القرآن الله بأنه رحيم، وبأنه ودود، وبأنه قريب من عبده، بل إنه أقرب إليه من حبل الوريد، وبأنه سميع مجيب يجيب دعوة الداعي إذا دعاه

فلا حجة للقائلين بان فكرة الحب الإلهي قد دخلت إلى الزهد الإسلامي عن طريق المسيحية لأن الإسلام قد قضى على كل أمل في الاتصال الروحي بين العبد وربه يوصفه الله بأنه جبار متكبر منتقم الخ

ظهر الزهد في الإسلام إذن داعيا إليه الإسلام كما قلنا وداعيا إليه ظروف أخرى هي الظروف السياسية القاسية التي عاش فيها المسلمون في عهد الخلفاء وعهد بني أمية - فقد كان هذا العصر عصر حروب وفتن مستمرة وقلاقل واضطرابات - وفيه دخلت النظريات السياسية إلى العقائد الدينية، وتدخل الحكام في آراء الناس الدينية ومعتقداتهم، فاضطهدت الحرية وكبت التفكير الحر: فشعر من لم يميلوا إلى اعتزال الناس بضرورة العزلة وزهدوا في الدنيا وزخرفها وفي الحكومة والحكام أما الرهبنة المسيحية فقد كان لها أيضاً أثرها في الزهد الإسلامي لا من حيث أنها كانت السبب في وجوده، بل من ناحية أنه تسرب إلى طريقة المسلمين في الزهد كثير من تقاليد الرهبان المسيحيين وعاداتهم وطقوسهم

بل إن القرن الثاني لم يكد ينتهي حتى انتظمت حركة الزهد الإسلامي داخل أديرة وصوامع أشبه بأديرة وصوامع المسيحيين: فأسست خانقاه في دمشق سنة 150هـ وأخرى بخراسان سنة 200. ويقول عبد الرحمن جامي في كتابه نفحات الأنس أن أول خانقاه أسست في الإسلام كانت بالرملة بفلسطين أسسها في القرن الثاني راهب مسيحي - وإن كان المقريزي يقول في الخطط إن الأديرة لم تظهر في الإسلام إلا في القرن الخامس الهجري - ولعله يقصد بذلك انتشار الأديرة في البلاد الإسلامية لا مجرد وجود بعضها

وقد امتاز الزهد في القرنين الأول والثاني - ولاسيما القرن الثاني بصدق الورع والتقوى وسلامة الإيمان والخشية الشديدة من الله ومن عذاب جهنم، والأمل الشديد في الحظوة برؤية الله في الدار الآخرة، وكثرة المناجاة والكلام في الحب الإلهي

وقد تغلغل الزهد في نفوس المسلمين العامة والخاصة على السواء، وظهر منهم في القرن الثاني أمثال الحسن البصري المتوفى سنة 110 وهو المؤسس لفرقة الصوفية بالبصرة، وإبراهيم بن أدهم البلخي المتوفى سنة 161، وداود بن نصير المتوفى سنة 165، والفضيل ابن عياض المتوفى سنة 186، ومن النساء رابعة العدوية التي توفيت سنة 135

وكانت رابعة آية من آيات الله في الزهد: زهدت أولا في الحياة الدنيا وزخرفها طمعا في الآخرة وجنتها، ثم زهدت في الجنة طمعا في الفوز بمحبة الله ورضاه

وقد حل الحب الإلهي من قلبها كل مكان فأصبحت لا تناجي سوى الله ولا تتحدث إلا إليه؛ وفي هذا يحكي شهاب الدين السهروردي في عوارف المعارف أنها كانت تقول:

إني جعلتك في الفؤاد مؤانسي ... وأبحت جسمي من أراد جلوسي

فالجسم مني للجليس مؤانس ... وحبيب قلبي في الفؤاد جليسي

ويقول القشيري عنها إنها كانت تقول في مناجاتها (إلهي! تحرق بالنار قلبا يحبك؟) فهتف بها هاتف: ما كنا نفعل ذلك؛ فلا تظني بنا ظن السوء

أما القرن الثالث فدور انتقال من الزهد إلى التصوف بمعناه الحقيقي. والواقع أن هذا الدور كان أقرب إلى الزهد منه إلى التصوف. في هذا القرن نجد كلمة (صوفي) شائعة الاستعمال ولم يكثر استعمالها قبل نهاية القرن الثاني خلافا لما ذهب إليه القشيري، فلم يفرق الناس بين زاهد وصوفي لأنه لم يوجد من الزهاد من ينطبق عليه وصف صوفي بالمعنى الدقيق. أما في القرن الثالث فحصل التمييز بينهما فسمى الزاهد زاهدا وسمى الصوفي صوفيا أحيانا وعارفا أحيانا

بل إننا نجد في هذا القرن تحولا في وجهة نظر الزهاد أنفسهم، فإنهم لم يعودوا ينظرون إلى الزهد باعتباره غاية في نفسه، بل نظروا إليه باعتباره وسيلة لتحقيق غاية أخرى هي الكشف: أي أنهم اعتبروا الزهد مرحلة من مراحل الطريق بواسطتها يصل السالك أو المريد إلى تصفية النفس والترقي بها في معارج الحياة الروحية إلى أن يصل بها إلى حالة الفناء التي تنكشف له فيها الحقائق الألهية، فتنعكس هذه الحقائق على مرآة قلبه كما تنعكس صور المرئيات على صفحة المرآة الصقيله المجلوة

وفي هذا القرن أيضاً نجد القوم يكثرون من الكلام في المواجد والأذواق، ويصفون الأحوال والمقامات، ويتكلمون في الصحو والسكر والمحو في الوحدة والسكرة والتفريد والتجريد والفناء والبقاء وغير ذلك من أحوالهم الصوفية

يعرف معروف الكرخي المتوفى سنة 200 التصوف بأنه الأخذ بالحقائق واليأس مما في أيدي الناس؛ يريد أنه إدراك الحقائق الإلهية بواسطة الكشف والزهد في الدنيا. وهذا تعريف جديد للتصوف لم نسمع به من قبل

ونغمة أخرى جديدة نسمعها من ذي النون المصري الذي كان أول من تكلم في المعرفة الحاصلة بالكشف واعتبرها المقياس الحقيقي لحياة الرجل الصوفي، يقول: إنه بمقدار ما يعرف الصوفي من ربه يكون إنكاره لنفسه. وتمام المعرفة بالله تمام إنكار الذات، وهي الحالة التي عبر عنها غيره بالفناء

وفي هذا المعنى يقول الحسن بن علي بن يزدينار: (يكون العارف بمشهد من الحق إذا بدا الشاهد، وفني الشواهد، وذهب الحواس، واضمحل الإحساس) وهو قول ينسبه بعض الصوفية للشبلي، ونغمة ثالثة نسمعها من أبي يزيد البسطامي (المتوفى سنة 261) في الحال التي يعبر عنها القوم بالفناء: يقول أبو يزيد وقد سئل عن العارف (أي الصوفي): (للخلق أحوال ولا حال للعارف، لأنه محيت آثاره ورسومه، وفنيت هويته (أي شخصيته) لهوية غيره، وعييت آثاره لآثار غيره؛ فالعارف خير والزاهد سيار) وفي هذه إشارة صريحة إلى التفرقة بين الزاهد والعارف أو الصوفي

في أثناء هذا القرن كان التصوف الفلسفي في دور التكوين؛ فقد توفرت العوامل على ظهوره، وتهيأت النفوس لقبوله، وظهرت بوادره بالفعل في عبارات بعض الصوفية أمثال ذي النون المصري وأبي يزيد البسطامي. ولكن من المغالاة أن نقول إن لأحد من متصوفة القرن الثالث مذهبا فلسفيا خاصا أو عقيدة فلسفية صوفية معينة، على الرغم من أن كثير من أقوالهم يمكن تأويلها تأويلا فلسفيا

ولكن سرعان ما انتهى عصر الانتقال وبدأ التصوف يدخل في دوره الثالث وهو الدور الفلسفي الحقيقي؛ وكان ذلك في القرن الرابع وما بعده، فقد تحول التصوف إلى شكل جديد بدخول النظريات الفلسفية فيه. وربما كان أول السابقين إلى هذا الميدان الحسين بن منصور الحلاج المتوفى سنة 309هـ

لم يقف الصوفية بعد القرن الثالث عند حد الكشف والشعور بالمواجد والأذواق في أحوالهم الصوفية، بل حاولوا أن يفسروا ما يدركون ويؤولوا ما يشعرون به، ويعللوا لما يتذوقونه من تلك المعاني التي هي فوق طور العقل، فكانت نتيجة شرحهم وتفسيرهم وتعليلهم أن وضعوا نظرياتهم الفلسفية. عرفوا الكشف في أحوالهم فحاولوا أن يضعوا نظرية للكشف في صحوهم: أدركوا وحدة الوجود في حالة فنائهم فحاولوا تفسير وحدة الوجود. أدركوا الوحدة في الكشف والتعدد في الصحو فدعاهم ذلك إلى تفسير معنى الوحدة والكثرة، ومعنى الحق والخلق ومعنى الفيض والاتصال، والجمع والتفرقة وغير ذلك

فمجموعة تفسيراتهم لمظاهر الحياة الصوفية هي الذي نعنيه بفلسفتهم التي يمكننا أن نلخصها في ثلاث نظريات: نظريتهم في طبيعة الوجود، نظريتهم في المعرفة، نظريتهم في الإنسان ومركزه في العالم وموقفه من الله

على أن من الصوفية من رجال العصر المتأخر أمثال محي الدين بن عدي، وشهاب الدين عمر السهروردي المقتول، من سلك مسلك الفلاسفة من بادئ الأمر، فكانت لهم وجهات نظر فلسفية خاصة في طبيعة الوجود وفي الإنسان والعالم، فاستعملوا المنهج النظري الفلسفي وأساليب الفلاسفة واصطلاحاتهم واستدلالاتهم، ثم نظروا إلى التصوف باعتباره مرحلة متممة لمذهبهم، كما نظر الصوفية إلى الزهد باعتباره مرحلة متممة لطريقتهم

والفرق بين هذا النوع من الصوفية والنوع الأول أن الأولين أمثال الحلاج يضعون نظرياتهم الفلسفية في عرض تأويلهم وتفسيرهم لما يشاهدونه في أحوالهم ومواجدهم؛ أما الآخرون فيلجئون للكشف والذوق توكيدا وتحقيقا للنتائج التي يصلون إليها بالنظر العقلي

وهذه الطريقة ممثلة تمام التمثيل في كتب ابن العربي بوجه خاص، فإنه بعد أن يبحث المسائل الفلسفية بحثاً عميقا ويناقشها من جميع وجوهها يحس كأن العقل غير كاف في الوصول إلى درجة اليقين فيها، فيحيل القارئ إلى الكشف والذوق، أو يخبره بأنه هو نفسه قد أدرك حقيقتها كشفا أو ذوقا

صار التصوف الفلسفي بعد ذلك سيراً حثيثا بخطوات واسعة فسيحة وظهرت فيه المذاهب الفلسفية الكاملة، بل والمدارس الفلسفية، وألفت فيه المؤلفات أمثال الأحياء والمشكاة للغزالي والنصوص والفتوحات لابن العربي وحكمة الإشراق للسهروردي والإنسان الكامل لعبد الكريم الجبلي

أما العوامل التي ساعدت على ظهور التصوف الفلسفي فكثيرة متعددة، فقد كانت البيئة التي يعيش فيها متصوفة القرن الثالث وما بعده مزيجا غريبا من الأمم المختلفة والثقافات المختلفة والديانات المختلفة والفلسفات المختلفة، بل كان الجو الذي يتنفس فيه المسلمون خليطا من هذه العناصر كلها: فلا عجب إذن أن يأتي التصوف الفلسفي في الإسلام ممثل لكل مذهب من المذاهب، حاويا لكل بدعة إسلامية وغير إسلامية، فإن فلسفة التصوف الإسلامي ليست مذهبا واحداً ولا عقيدة واحدة، بل مجموعة من المذاهب بعضها يتفق مع روح الإسلام وبعضها يتعارض مع التعاليم الإسلامية معارضة صريحة

واهم هذه العناصر التي دخلت في التصوف الفلسفي ومنها تركب هي:

أولا - التصوف نفسه بكل ما فيه من وصف للحياة الروحية، وكلام في المقامات والأحوال، وذكر للمواجد والأذواق، وتعبيرات عن خاطر النفس ومحاسبتها ومراقبتها

ثانيا - القرآن والحديث: فإن الصوفية قد اتخذوا كثيراً من الآيات القرآنية أساسا لنظرياتهم فأولوها تأويلات تتفق وروح هذه النظريات، وذلك مثل قوله تعالى: كل شيء هالك إلا وجهه. وقوله: كل من عليها فان، وقوله: الله نور السموات والأرض الخ فقد أولوا الوجه في الآيتين الأوليين على أنه الذات الإلهية الأزلية المقومة لكل موجود؛ وأولوا الهالك والفاني على أنه مظاهر الوجود أو الوجود المتكثر: أما النور ففسره تفسيراً زرادشتيا على أنه الوجود الحقيقي وضده الظلمة التي هي العدم المحض. أما الأحاديث التي يستشهد به الصوفية فأكثرها مدخول على النبي منتحل

ثالثاً - علم الكلام: فقد وصل علم الكلام في إبان ظهور التصوف الفلسفي في الإسلام أقصى حده في النضوج الفلسفي، وتسرب الكثير من نظرياته إلى نظريات الصوفية

والمعروف أن عدداً كبيراً من رجال الصوفية في القرن الثالث كانوا من كبار المتكلمين أيضاً أمثال أبو القاسم الجنيدي والحارث المحاسبي وغيرهما

والناظر في كتب التصوف أمثال اللمع للسراج والتعرف للكلاباذي والرسالة للقشيري وغيرها يعرف مدى علم الصوفية بمسائل الكلام ومدة مزجهم لها بنظرياتهم. وتكفي الإشارة هنا إلى عقيدة وحدة الوجود التي هي أخص مظهر للتصوف الفلسفي الإسلامي، فإنها فيما أعتقد راجعة في اصل نشأتها إلى تفكير إسلامي كلامي صوفي؛ وليست كما يقول بعض المستشرقين راجعة إلى الفلسفة الأفلاطونية الجديدة أو الفلسفة الهندية؛ فقد بدأ الصوفية يبحثون في عقيدة التوحيد بحثا كلاميا فوقعوا من حيث لا يعلمون في عقيدة وحدة الوجود. بدءوا يبحث الوحدانية فقالوا: الله واحد بمعنى أنه لا شريك له، فنفوا الشريك والند والضد والمثل. وقالوا أهم صفة للإله الواحد وجوب الواجد. ثم بحثوا في واجب الوجود فقالوا الله واجب الوجود بمعنى أن وجوده من ذاته، وغيره ممكن الوجود أي وجوده من غيره، ولكنهم زادوا على ذلك بقولهم إنه واجب الوجود بمعنى أن وجوده هو الوجود الحقيقي وكل ما عداه فوجوده ظاهري أو وهمي. ثم توسعوا في معنى وجوب الوجود فقالوا إن واجب الوجود هو الفاعل لكل شيء والعلة في وجود كل شيء - فانتهوا من بحثهم بنتيجتين:

الأولى: نفى للعلل كلها والقول بأن لا فاعل على الحقيقة إلا الله

والثانية: نفى الوجود المتكثر الظاهر في الكون والقول بأنه وجود زائل متغير - وأن المقوم لكل موجود والحقيقي في كل موجود هو الحق أو الله وهكذا بدءوا بقولهم: لا إله إلا الله، وانتهوا بقولهم: لا موجود على الحقيقة إلا الله. ثم وجدوا - أو خيل إليهم أنهم وجدوا - ما يعزز دعواهم هذه في الحالة الصوفية التي يعبرون عنها بالفناء وهي الحالة التي يشعر فيها الصوفي بالوحدة المطلقة فلا يدرك فيها فرقا بين حق وخلق - وهي الحالة التي صاح فيها الحلاج بقوله: أنا الحق!

وقد سمى الصوفية عقيدة التوحيد بتوحيد العوام، وعقيدة وحدة الوحدة بتوحيد الخواص، وأوردوا لكل منهما تعريفا خاصا

يقول الجنيد في تعريف توحيد العوام إنه إفراد الموحد بتحقيق وحدانيته. ويقول في تعريف الخواص إنه الخروج من ضيق الرسوم الزمانية إلى سعة فناء السرمدية يعني بذلك الفناء

رابعا - الفلسفة الأفلاطونية الجديدة - لاسيما الأفلاطونية الجديدة المتأخرة التي ظهرت في كتابات برفلس ويبميليخوس والكاتب الأفلاطوني المسمى خطأ ديو تسبوس الازيوباغني.

ولا نبالغ إذا قلنا إنه لا تكاد مسألة من مسائل التصوف الإسلامي الفلسفي أو نظرية من نظرياته تخلو من أثر للفلسفة الأفلاطونية الجديدة: فنظريات الصوفية في خلق العالم والفيض أو الصدور عن الواحد الحق، وكلامهم في النفس والعقل والقلب والكشف والمعرفة والشهود، وفي العالم العلوي والعالم المحسوس وفي الإنسان الكامل، كلها مطبوعة بطابع هذه الفلسفة ومستند إليها

خامسا - المسيحية ولا نعني بالمسيحية الديانة المسيحية وعقائدها، بل الحياة المسيحية كما حييها المسيحيون في البلاد التي انتشر فيها الإسلام ممثلة في حياة الرهبان والمتصوفين؛ ولم يأخذ الصوفية عن المسيحيين بعض أساليبهم في الزهد ومظاهر التقشف ولباس الصوف الذي منه اشتق اسمهم فحسب، بل أخذوا عنه بعض نظرياتهم في طبيعة المسيح وفي التثليث: فقال بعضهم بالحلول، مثل الحسين بن منصور الحلاج الذي قتل بسبب هذه العقيدة سنة 309. ومن أبياته في الحلول قوله:

سبحان من أظهر ناسوته ... سرَّ سناً لاهوته الثاقب

ثم بدا لخلقه ظاهراً ... في صورة الأكل والشارب

حتى لقد عاينه خلقه ... كلحظة الحاجب بالحاجب

وقال بعضهم صراحة بالتثليث، وأن التثليث أساس يقوم عليه أمر الخلق كله، ولكنه تثليث اعتباري قائم بالفردية الإلهية. وبهذا المعنى يجهر ابن عربي في غير مبالاة في قوله:

تثلَّثَ محبوبي وقد كان واحداً ... كما صير الأقنام بالذات أقنما

وليست نظرية الصوفية فيما يسمونه النور المحمدي (أو الحقيقة المحمدية) الذي يقولون إنه كان في القدم قبل أن يخلق الله العالم، وأنه بواسطته ومن أجله خلق الله العالم، سوى صورة من صور النظرية المسيحية في المسيح الذي يطلقون عليه اسم (الكلمة) ويقولون أنها كانت في الأزل مع الله، وأنه بواسطتها ومن أجلها خلق الله العالم

سادسا - الفلسفة الهندية التي دخلت الإسلام عن طريق فارس وما وراء النهرين وما جاورهما من حدود الهند، فإن المسلمين لم يفتحوا الهند إلا في القرن الرابع الهجري (في زمن السلطان محمود الغزنوي المتوفى سنة 421)، ولكن الفلسفة الهندية البوذية والتصوف الهندي قد شقا طريقهما إلى بلاد الفرس وما جاورها بل الفتح الإسلامي بنحو ألف سنة، وقد كان كثير من بلاد هذه الناحية مراكز مشهورة بالتصوف غاصة بالإدارة الوثنية القديمة: نخص بالذكر منها مدينة بلخ

ومما هو جدير بالذكر في هذا المقام أن كثيرا من أوائل الصوفية في الإسلام قد جاءوا من بلخ هذه وما جاورها، وبواسطتهم دخل في التصوف الإسلامي كثير من النظريات الهندية والتقاليد البوذية في مجاهدة النفس ورياضتها وتعذيب البدن وما إلى ذلك. من هؤلاء إبراهيم بن أدهم الذي يقول عنه الأستاذ جولدزيهر إن قصته قد حيكت على مثال قصة بوذا من أنه كان من بيت من بيوت الملك فزهد في الملك والدنيا بأسرها وعاش من عمل يده؛ ومثل أبي يزيد البسطامي الذي كان من أصل فارسي زرادشتي تلقى عقيدة الفناء عن أبي علي السندي، كما تلقى عنه الطريقة الهندية المعروفة بمراقبة الأنفاس؟ والفناء الذي يتكلم عنه أبو يزيد والذي شاع بعده في كلام الصوفية جميعهم هو ما يسميه الهنود (زفانا) أي انمحاء الشخصية الفردية والشعور بالوحدة العامة للوجود. ومما يدل على أن عقيدة الفناء هندية الأصل أنها ظهر أول ما ظهرت في كلام الصوفية من الفرس أمثال أبي يزيد البسطامي، وليس لها وجود في عبارات أهل مصر والشام أمثال ذي النون المصري مع أن ذا النون كان من معاصري أبي يزيد

كل هذه العناصر وعناصر أخرى ثانوية الأهمية دخلت التصوف الإسلامي فغيرت من عادته وصورته، وعنها جميعها ظهرت ناحية من نواحي الحياة العقلية الروحية في الإسلام على جانب كبير من الأهمية، لأنها مرآة نرى فيها النشاط العقلي والروحي على السواء، كما نرى فيها وصفا دقيقا لأحوال النفس الصوفية في أرقى درجات صفاتها، ومحاولات فلسفية أراد بها أصحابها وضع نظريات في طبيعة الوجود أو طبيعة المعرفة أو طبيعة الإنسان ومركزه من الله والعالم

ولم يقف الصوفية، كما لم يقف فلاسفة الإسلام من هذه المصادر كلها موقف سلبيا، أي لم يكونوا مجرد نقلة أو مرددين لأقوال غيرهم ترديد الصدى للصوت، بل مزجوا كل هذه العناصر المختلفة المتباينة مزجا ربما لم يعهده تاريخ الفلسفة ولا تاريخ التصوف في أي أمة أخرى، وخرجوا بعد كل ذلك بمذاهب في التصوف الفلسفي كان لها أثرها ولها خطرها في تطور الفلسفة والتصوف في القرون الوسطى والحديثة، لاسيما بعد أن بلغ التصوف الذروة الفلسفية في مذاهب أمثال محي الدين بن عربي، وشهاب الدين عمر السهروردي المقتول، وعبد الحق بن سبعين الأندلسي، وعبد الكريم الجيلي، والصدر القونوي، وجلال الدين الرومي، وعبد الرحمن جامي وغيرهم

من هذا يتبين أن كل نظرية في نشأة التصوف الإسلامي قائمة على فكرة إرجاعه إلى أصل واحد مقضي عليها بالفشل. إذ قد رأيت النواحي العديدة الإسلامية وغير الإسلامية التي استمد منها التصوف مادته.

ولكن بعض المستشرقين إن لم يكن أكثرهم لم يروا حرجا في القول بأن التصوف الإسلامي قائم على أصل واحد أو مستمد من جهة واحد: فذهب الأستاذ فون كريمر ودُوزي إلى أن أصل التصوف الإسلامي هندي أساسه مذهب الغيدانتا؛ وذهب الأستاذ (مركس) إلى أن أصله الفلسفة الأفلاطونية الجديدة؛ وقال الأستاذ برون إنه فارسي في جوهره وإنه نتيجة لرد فعل أحدثه ثوران العقل الآدمي ضد الدين الإسلامي الفاتح. وربما كان الأستاذ نيكلسون أكثر اعتدالا وأوسع نظرا من هؤلاء جميعاً، إذ يعترف أن التصوف الإسلامي ظاهرة معقدة غاية في التعقيد، وأن أصوله متشبعة كثيرة لم يكشف البحث الحديث إلا عن بعضها فقط

والحق أن كل نظرية من هذه النظريات إنما تعبر عن جزء من الحقيقة لا الحقيقة برمتها، وأن الذي دعا هؤلاء المستشرقين إليها قصرهم النظر على ناحية خاصة من التصوف دون النواحي الأخرى وملاحظتهم لبعض جهات الشبه بين التصوف الإسلامي والأحوال التي قالوا إنه مستمد منها ناسين أو متناسين الثقافة الإسلامية والعقلية الإسلامية التي هضمت كل ما وصل إليها من عناصر الفلسفة والتصوف الأخرى، واستخلصت لنفسها فلسفة وتصوفا جديرين بالبقاء وجديرين بأن يطلق عليهما اسم الفلسفة الإسلامية والتصوف الإسلامي

أبو العلا عفيفي