مجلة الرسالة/العدد 196/الخلود

مجلة الرسالة/العدد 196/الخلود

ملاحظات: بتاريخ: 05 - 04 - 1937



للدكتور إبراهيم بيومي مدكور

أمل حلو زاد التعلق به فلبس ثوب الحقيقة، وخيال عذب طاب لنا أن نسبح وراءه فاكتسى بكساء الواقع، وغيب شغفنا بالبحث عنه حتى كدنا نبرزه في مظهر الحاضر، وسلوة نتسلى بها عن الحرمان أو عثور الجد وسوء الطالع، وثار من الموت ذلك الخصم العنيد الذي يحمل الشاب على الرحيل في عنفوان شبابه، ويرغم الشيخ على السير وأن تباطأ به ركابه. فهو إذن عون على الحياة وامتداد لها: عون على ما فيها من بؤس وشقاء والآم وويلات، وكثيرا ما نستطيب شدة اليوم في سبيل فرج الغد؛ ووصلة لأجل وإن طال قصير، وعمر وإن بغل أرذله عزيز، وعيش وإن ساء مرغوب فيه. وربما كان حب الحياة أول ملهم بتجددها، وكانت غريزة الاحتفاظ بها أول دافع للقول باستئنافها. وقد صور الإنسان هذا الاستئناف وذلك التجدد بصور شتى وأشكال متباينة هي في جملتها صدى لرغباته ونزعاته وميوله وأهوائه، أو انعكاس لعالمه الحاضر والحياة التي يحياها. فتصور الهمجيون الذين يعيشون عيشة السلب والنهب والقتل وسفك الدماء الخلود على أنه عودة للإنسان في شكل مارد جبار شيطان رجيم يثأر لنفسه ممن عدا عليه. وظنه بعض المتحضرين ضربا من اليقظة يرفل فيه المرء في حلل السعادة وآيات النعيم، ولهذا أعدوا في القبور وسائل الزينة والزخرف ولذيذ الطعام والشراب. ثم جاءت التعاليم السماوية فصورته في صورة أسمى، وكسته بكساء أفخم، وأغدقت على الحياة المقبلة متنوع الأوصاف بين مادية وروحية وحسية وعقلية كي تقنع العامة والدهماء وترضي المفكرين والعقلاء

كم كنا نود أن يبقى للخلود حلاوة الأمل فنسير وراءه سيرا أعمى، وعذوبة الخيال فنتعلق به في شوق وحرارة راغبين مخلصين، وحرمة الدين فنؤمن به إيمانا جازما لا يساوره شك أو ارتياب ولا يعزوه برهنة أو استدلال. ولكن العقل الذي منحنا إياه وبلينا به في آن واحد يأبى إلا أن يعكر علينا بعض الصفو ويحرمنا من أحلام لذيذة. فيفلسف ما لا صلة له بالفلسفة، ويبحث ويعلل فيما يسمو عن البحث والتعليل، ويقيس ويستنبط فيما لا يخضع لمبادئ القياس والاستنباط. وقد سرت عدواه إلى موضوع الخلود منذ عهد بعيد، فأخذ يتفهم سره وغايته ويبرهن على إمكانه أو ضرورته. وليس ثمة فلسفة إلا قالت في الخلود كلمتها بالإيجاب أو السلب، بالقبول أو الرفض، وأي فيلسوف لم يتساءل من أين جئنا وإلى أين نذهب ولم يبحث عن المصدر والمرد والمبدأ والمعاد؟

فاليونانيون وإن كانوا قد شغلوا بالكون وتغيراته والحياة الحاضرة وقوانينها لم يفتهم أن يدلوا في هذا الموضوع الخطير بآرائهم. ورجال القرون الوسطى كان لابد لهم أن يبدئوا فيه ويعيدوا ويعترضوا ويجيبوا، فهو من فلسفتهم الدينية في صميمها ونقطة هامة من نقط التوفي بين العقل والنقل التي ملكت عليهم أذهانهم. وفي التاريخ الحديث نرى الروحيين والماديين بين مثبتين للخلود ومنكرين. وإذا شئنا أن نمثل لكل عصر من هذه العصور برجل فهناك شخصيات ثلاث لا يكاد يذكر موضوع الخلود إلا ذكرت، ولا نظن أن آخرين سواها تمثل عصرها في هذا الباب تمثيلها، ونعني بها أفلاطون، وابن سينا، وكانت.

فأما أفلاطون فهو من غير شك أكثر فلاسفة اليونان اشتغالا بالخلود وأول من حاول أن يبرهن عليه برهنة عقلية منطقية. تحدث عنه عرضا في غير ما موضع، ثم لم يقنع بهذا فوقف عليه محاورة مستقلة مشهورة هي (فيدون). وفيها يجري ذلك الحديث العذب الأخاذ على لسان أستاذه سقراط ومن حوله من الأتباع والتلاميذ. وأفلاطون روائي ماهر وقصصي مبدع يعرف كيف يضع روايته ويرتب قصته ويتخير أبطاله ويرسمهم بريشة المصور الفنان. فهو يدع (سقراط) المتهم البريء الذي يرقب الإعدام بين عشية أو ضحاها، والحي الذي يسعى إلى الموت في خطى حثيثة رزينة راغباً لا راهباً ومختاراً أو شبه مختار، يتحدث عن خلود الروح في آخر يوم من أيام حياته فما أجل المحدث وما أنسب الظرف وما أروع الحديث! ولسقراط سنة معهودة في حواره من استيلاء على نفوس محاوريه وإرشاد إلى سبل القول وهداية إلى مواطن الضعف وافتنان في وسائل الإثبات. وتكاد ترجع برهنته على الخلود إلى نقط ثلاث: برهان التضاد وبرهان المشابهة ثم برهان المشاركة. فنحن نلاحظ أولا أن الشيء إذا زاد عن حده انقلب إلى ضده، وأن الأكبر يتولد عن الأصغر والأحسن عن الأسوأ؛ فهناك تبادل دائم بين الأضداد. ومادام الموت والحياة ضدين فهما متعاقبان. وقديما قالت الأرفيه والفيناغورية بالتناسخ وتداول الأجيال البشرية! وبهذا يخرج الحي من الميت كما يخرج الميت من الحي، وتبقى النفس رحالة متنقلة من جسد إلى جسد دون أن يطرأ عليها عدم أو فناء. ونسلم ثانيا مع أفلاطون أن النفس تدرك المثل والحقائق العامة الأزلية الباقية! والشبيه وحده هو الذي يدرك الشبه. فلابد أن يكون للنفس ما للمثل من ثبوت وبقاء. وأخيراً لنفس مشاركة للحياة بذاتها ومنافية للموت بطبعها، فهي بحسب مدلولها وحقيقتها حياة. ولا يمكن أن يجتمع في ماهية واحدة ضدان! فالنفس حياة فقط ولا تقبل الموت بحال، وأني لأتساءل بعد كل هذا هل وفق أفلاطون في برهنته؟ إذا اختبرنا أدلته لم نتردد في أن نجيب بالسلب، فإن فكرة صدور الصد عن ضده مرفوضة من أساسها، ونظرية التناسخ واضح بطلانها. ولا نظن أن أحدا يسلم اليوم مع الإغريق أن الإنسان لا يدرك إلا ما يشابهه. فإنا لو قبلنا هذا لوقفنا بالمعلومات الإنسانية عند دائرة ضيقة، ولم يبق بين علماء الحياة من يقول بذلك المذهب النفسي القديم الذي كان يعد النفس في آن واحد مصدر الحياة والحركة والإحساس والتفكير. على أن أفلاطون نفسه كان على بينة من حرج موقفه وخطورة مهمته وضعف حجته، فأنه يصرح على لسان سمباسي أن العلم بحقيقة الخلود ممتنع أو جد عسير في هذه الحياة. وجدير ببحث كهذا أن يوضع في قالب القصة وكفى، لا أن يصاغ بصيغة الأقيسة والبراهين

وسواء أوفق أفلاطون في برهنته أم لا فإنه قد سن سنة استمسك بها من جاء بعده، أو نهج نهجا حبب إلى الخلف السير فيه، فأنزل الخلود من السماء إلى الأرض، وأحل فيه منطق العقول محل همس الضمائر والقلوب. وكان من أكبر فلاسفة القرون الوسطى تأثرا به في هذا الصدد ابن سينا الذي قد يردد بعض أدلته أحيانا أو يؤيدها ويدعهما أحيانا أخرى، لاسيما وقد توفر لديه ما لم يتوفر لدى أستاذه! فقد وقف على الوحي الإلهي الذي صير الخلود عقيدة بعد أن كان مجرد أمل ورجاء، وسمع لغة القرآن الصريحة في الحشر والنشر والبعث والقيامة، فرأى لزاما عليه أن يربط هذه التعاليم الدينية بالبراهين الفلسفية، وفي خيال حلو هو أشبه ما يكون بخيال أفلاطون يقص علينا قصة هبوط الروح من عالمها العلوي ومقامها في هذا العالم الفاني ثم عودتها إلى بحر اللانهاية حيث الأبدية والخلود

هبطت إليك من المحل الأرفع ... ورقاء ذات تعزز وتمنع

محجوبة عن كل مقلة ناظر ... وهي التي سفرت ولم تتبرقع

وصلت على كره إليك وربما ... كرهت فراقك وهي ذات توجع إن كان أهبطها الإله لحكمة ... طويت عن الفذ اللبيب الأروع

فهبوطها لاشك ضربة لازب ... لتكون سامعة لما لم تسمع

وتعود عالمة بكل خفية ... في العالم فخرقها لم يرقع

ولا يقف ابن سينا عند هذا الشعر وهذا الخيال، بل يأبى ألا أن يبرهن على خلود الروح برهنة منطقية ويثبته إثباتاً فلسفياً، فيقرر أن النفس وهي جوهر بسيط لا يمكن أن تشتمل على مبدأين متناقضين، وقد ثبت أنها حياة بفطرتها وطبيعتها فلا يمكن أن يكون فيها أي استعداد للفناء. وفوق هذا سواء لديها أبقي الجسم أم فني، فإن صلتها به ليست صلة ارتباط وتلازم متبادل، بل صلة سيد ومسود ومالك ومملوك. ولن يضير السيد في شيء ما قد يلحق عبده من التغير، كما لا يؤثر في شخص المالك ما قد يطرأ على ملكيته من الفساد. فالنفس هي المتصرفة في البدن والمدبرة لأمره، ولن ينقلب الآمر مأموراً ولا المتأثر مؤثراً. بيد أن حظ ابن سينا في هذه البرهنة الفلسفية والأدلة العقلية ليس أعظم من حظ أفلاطون. فإن الجوهر البسيط الذي يفترضه هو موضع البحث والمنافسة ومثار الأخذ والرد، وصلته بالجسم لا تزال حتى اليوم عقدة العقد ومشكلة المشاكل؛ ولم يتوصل أنصار المذهب الروحي على اختلافهم إلى حلها أو الفصل فيها بقول جازم

ولقد تنبه (كانت) إلى هذا التهافت في البرهنة والقصور في الإثبات. فرفض في كتابه (نقد العقل المجرد) الأدلة التي تساق لإثبات خلود الروح وأبان أنها غير موصلة. وما كان للعقل أن يهتدي إلى شيء يقيني في دائرة الأمور المغيبة؛ وفي هذا ما يسمح للنقل أن يحتفظ لنفسه بمكان في جانبه، وما يهيئ للوحي والإلهام الفرصة أن يكملا نقص البحث والنظر. خصوصا والتبعة الأخلاقية لا قيام لها بدون الثواب والعقاب والحساب والمسئولية، والواجب في حاجة ماسة إلى تأييد الدين ونصرته. لهذا نرى (كانت) يعود في كتابه (نقد العقل العملي) فيحاول إثبات خلود الروح عن طريق الأخلاق بعد أن أظهر أنه لا يمكن إثباته فيما وراء الطبيعة. وذلك أن الخير الأسمى الذي ننشده والسعادة الحقة التي نسعى إليها لا سبيل إلى تحقيقهما في حياتنا الحاضرة القصيرة. فإن شئنا أن يكون للواجب الذي ننادي به قيمته وللأخلاق التي ندعو إليها جلالها وحرمتها فلابد أن نجزم بخلود الروح. ولاسيما والعدالة تأبى كل الأباء أن يكون جزاء الفضيلة هو الإعدام، وأن يستوي البر والفاجر في مصير واحد وفناء لا رجعة بعده. وكأني بكانت يردد، هو كذلك، فكرة تنبه لها أفلاطون ويوضح معنى أشار إليه من قبل شيخ الأكاديمي في جمهوريته؟ غير أن هذا البرهان الأخلاقي ليس أكثر إقناعا من سابقيه؛ وكل ما يمتاز به أنه أقرب إلى فكرة الخلود وأكثر تلازما مع طبيعتها وأميل إلى جانب القلب والعاطفة من تلك الأدلة العقلية الصرفة. وما أشبهه بالغرض منه بالبرهان والمبدأ يسلم به احتراما وتقديسا لمبادئ أخرى.

والحق أن الخلود ليس مما يبرهن عليه برهنة عقلية منطقية. وما كان أغنى الفلسفة أن تغامر بنفسها في هذا المضمار وأن تنزلج في هذا المأزق الحرج. في مقدورنا أن نقول إنه ممكن أو محتمل أو ضروري، ولكن لا سبيل لنا بحال أن نقرر اعتمادا على عقولنا وحدها أنه أمر واقعي. وأنى لنا ذلك ومن وصلوا إلى مرتبة الخلود يأبون أن يعودوا إلى حياة قاسوا فيها الأمرين، ولاقوا ما لاقوا من جهد وعناء؟ ولم يصل استحضار الأرواح بعد إلى درجة اليقين وليس في وسائله ما يبعث على الثقة والطمأنينة. وإذا كان العقل عاجزا عن إدعام الخلود وإثباته فهو أعجز عن دحضه وإنكاره. وخطأ أن يزعم أنصار المذهب المادي أن تجربتهم لا تسلم بحياة بعد هذه الحياة، وأن بحثهم يرفض أي وجود بعد هذا الوجود. فإن للتجربة ميدانا لا تتجاوزه، وللبحث العلمي دائرة لا يتعداها؛ ومن العبث أن نتكلم باسم العلم في دائرة تسمو على العلم، وأن نفسر عالم الغيب الفسيح بقوانين عالم الشهادة المحدود. ولن يضير الخلود في شيء أن تعجز عقولنا الضعيفة عن الانتصار له فأنه يستمد جلاله ورهبته من مصدر أسمى ومقام أرفع. ولن يعيبه مطلقا أن تقصر لغة أهل الأرض في بيانه فأنه من خصائص سكان السماء ووقف عليهم. هو أمر خارج عن عالم الفناء وحقيقة مخالفة لما ألفه المحدثون، وما كان لفان أن يدرك إدراكا واضحا ما يتنافى وطبيعته ألا أن عرج إلى سماء الخالدين

إبراهيم مدكور