مجلة الرسالة/العدد 196/بين حراء. . . وعرفات

مجلة الرسالة/العدد 196/بين حراء. . . وعرفات

ملاحظات: بتاريخ: 05 - 04 - 1937



للأستاذ عبد المنعم خلاف

وقف الرجل الذي تلخص فيه مجد الإنسان وتحقق به وشاع منه على عرفات في حجة الوداع، وقد احتشدت حوله في ذلك الرحب الصامت الرهيب الذي فيه أول بيت وضع للناس، الأزمان والدهور وأرواح الملأ الأعلى والرسل والحكماء وأعضاد الإنسانية وحاملي المشاعل على طريقها، وأفواج الخلائق من عالم الذر والبرزخ، وأجساد أولئك المتجردين من لبس المحيط والمخيط من صحابته المخبتين. . ومن فوق الحشد الخفي والمستعلن ينظر وجه الله ذو الجلال إلى عبده ورسوله وهو يلقي الكلمة الخاتمة البلاغ الأخير بالآيات المنزلة من حول العرش: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا). . . ويعلن حقوق الإنسان وواجباته ويسأل الجموع المحشودة: هل بلغت؟ فتردد البطاح والأودية والشعاب التي كان يأوي إليها في طلب الهدى ثم في التخفي بالدعوة ثم في الجهاد لها - الجواب الإجماعي في إقرار وشكران

وما بد من أن الكلمة الأولى: (اقرأ باسم ربك. . .) التي طالعه بها الوحي في (حراء) كانت تتردد على سمعه في تلك البرهة الخالدة، فتتوالى أمام مخيلته عزائم جهاده في الأرض التي كان كل قديس فيها رجسا، وكل بَرَّة فَجْرة، وكل امرئ آثما في عقيدة القلب، خرفاً في رأى العقل، ضارياً في معاملة الخلق، طفلا في طقوس العبادة. . . أيام أن كان يتخفى بالغار في حيرة وانفراد ورهبة وصمت وشك وفراغ، وأعصاب مرهفة، وقلب مفجوع بالضلالات المعقدة، وعقل عظيم، ولكنه أمي ينظر إلى كون مبهم مختلط نظرا لا يقع إلا على قمم الجبال وصفرة الرمال وأمم تحنو على أصنام من الأناسي والأحجار والأخشاب، ومواكب من النجوم تبدأ كل يوم من الشرق وتروح إلى الغرب في قهر وصمت وطواعية ووجوم. . . وهو ذا الآن على عرفات في استعلانٍ ومعرفة وحشدٍ وطمأنينة وضجة ويقين وامتلاء في العقل من عالم الشهادة، وفي الروح من عالم الغيب، وفي اليد من أجساد العباد الذين لم يؤمنوا به حتى أحبوه أكثر من نفوسهم التي بين جنوبهم، فهم في يده يقذف بهم على كل أفق وتحت كل كوكب ليكونوا امتدادا منه وظلا من دعوته. . وقد امتلأ قلبه بالأمل الواثق بان الله متم نوره ومعل كلمته. وقد شبع عقله من جوع إلى المعرفة واتصلت به شرارة الوحي، وانتهت إليه ينابيعه فأضاء وصفا وعمق، ففيه لبني الإنسان الهدى والحلي والطهر.

وقد تعوض نظره من رءوس الجبال التي حول حراء، برءوس خاضعة من النساء والرجال الذين رباهم ثلاثا وعشرين حجة في كل يوم بآية من الكتاب أو جملة من بيانه أو فعلة من سلوكه أو إيماءة أو صمت. . حتى صقلوا وصاروا أناسا كالنجوم المصابيح.

بين الكلمة الأولى الآمرة المغرية المثيرة لعقله وروحه بقصة خلق الإنسان ذلك الكون العجيب من علق، وقصة القلم ذلك الشيء العجيب الذي يجعل الدنيا كلمات بين البنان واللسان: (اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق. اقرأ وربُّك الأكرمُ الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم) وبين الكلمة الأخيرة المخبرة الهادئة الممتنة بكمال الدين واختيار الطريق: (اليوم أكملت لكم دينكم. . .). . . دار الفلك ثلاثا وعشرين دورة على محور من ذلك الرجل الذي كان عقله مرآة لما يدور في السماء حول صلاح عمار الأرض. وهاهو ذا يقف معلنا (أن الزمن قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض) وأن حركة بدء واستهلال وولادة ثانية للإنسانية تتمخض عنها الأيام الوالدات. . .

وإنها لكلمة ثقيلة التبعات لأنها حديث عن ابتداء الزمن واستدارته كهيئته في اليوم الأول.! ومنذا الذي يجرؤ على الحديث بها إلا أن يكون نبيا؟

إذاً هو الأب الثاني للبشر ولدت منه الإنسانية ولادة روحية وعلية كما ولدت من آدم بالجسد. ألم يستدر الزمان معه كما بدئ مع آدم؟ ألم تبلغ البشرية به رشدها وتترك طفولتها وسفهها ووقوفها عند المجسمات من الأرباب والمعجزات؟ ألم يسلمها مفاتيح الطبيعة ويهب بها إلى الفكر في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شيء، وكيف بدأ الخلق؟ ألم يرفع الحجب والشفاعات بينها ويبن ربها الأقرب إليها من حبل الوريد؟ ألم يمح الفوارق بين أجناسها وألوانها وأوطانها كما يمحو الأب الحاني الفوارق بين بنيه من الجسد والروح؟ ألم ينهها أن تقفوا ما ليس لها علم وأن تتبع الظن الذي لا يغني من الحق شيئا؟ ألم يدعها إلى أن تؤمن بجميع الرسل والأنبياء وبما أنزل الله من كتاب؟ ألم يعلن حقوقها وواجباتها وأخوتها ومساواتها والعدل بينها؟ (لأن ربها واحد وأباها واحد) ألم يترك لها ميراثاً خالداً منظماً مستوعباً شؤونها وحيوانها في البيت والجماعة والحرب والسلم والعاجلة والآجلة؟ ولم يترك موقفه الأخير منها وهي أمامه في عرفات ممثلة في الحبشي بلال الأسود والرومي صهيب الأصفر والفارسي سلمان الأبيض والعربي في العدد الأكثر إلا وقد أخذ منها قراراً بإبلاغه الأمانة وأدائه الرسالة وأشهد الله على ذلك. ولو سكتوا لنطق الحصى الذي كان يرجم به في بدء الدعوة وحطام الأصنام التي هشمها بيمينه في يوم الفتح. .

أيها الرسول المنقذ! كلمة إقرار بالبلاغ يرسلها القرن الرابع عشر في فجر عام جديد لتلحق بإقرار صحابتك في فجر القرن الأول ويوشك الزمن أن يأخذ هذا الاعتراف من أفواه أهل الأرض جميعاً بعد أن ابتدءوا يعرفونك وينصفونك.

لقد بلغت كتاب الدنيا ورسالة كل شيء، إلى القلوب السليمة الكبيرة فجعلت من كل شيء محراباً تقف فيه لعبادة الله ذي المجد، وحب الحق والخير والجمال. .

ولا يزال صوتك يدوي في الآفاق مخترقاً أربعة عشر قرناً بسرعة الشمس والضوء، ولن يزال كذلك يعلن الكلمة التي أضاءت لها الظلمات وقام عليها صلاح العالم.

الحقوق والواجبات التي خصصت حياتك لتقريرها وأعلنتها في الخطبة الجامعة على الحشد الذي لم تلقه بعد كما توقعت. . صارت أبجدية الإنسانية ومزمور أمانيها، حملها العباد الذين كلفتهم حملها ممن شهدوا مقامك وسمعوا بلاغك أو سمعوا به،. حملوها أنهارا تجري من الصحراء أرض الجفاف إلى الوديان والسهول المخصبة بالنبات، الكزة المجدبة من فضيلة الإنسان فأمرعت بالخير والحق والجمال والسلام

وقد ثارت البشرية لهذه الحقوق بعدك ثورات عدة كلما بدأت رءوس الأصنام البشرية أو الحجرية تتحرك بعد أن قمعتها وحطمتها ببرهانك وفيصلك. . فالثورة الإنجليزية لإقرار الشورى، والثورة الفرنسية لإعلان حقوق الإنسان. . إنما هما صدى يحكى في خفوت وضآلة وبطء وتخلف، ثورتك الكبرى على الأرباب الزائفين والطواغيت وعناصر الدمار والفساد التي تأفك الإنسانية وديعة الله في الأرض وتصرفها عن وجه الله ذي الجلال ومقام الحق ونصاب العدل

وشتان ما بينهما وبينهما! إنها ثورة رجل يهتف في بوق النبوة له قلب فيه مدد من هدى الوحي، وسلام من رحمة الروح، وله يد بريئة من الإثم والجبروت تضرب أحياناً بمبضع الطبيب لإذهاب الألم لا لإحداثه. وكلاهما وبخاصة الفرنسية ثورة دامية قاسية عمياء ضارية، قامت بها أيد أرضية حيوانية فيها أظافر ومخالب. . تدفعها قلوب فيها أطماع وغل وحقد مؤرث. ومن عماها أكلت الحطب والأيدي التي كانت تقدمه، ولطخت وجه الحرية بمآثم وشناعات لا تزال تغض منها وتثير حول ذكراها سخطا واشمئزارا، والتاريخ ميزان.

(بغداد)

عبد المنعم خلاف