مجلة الرسالة/العدد 196/من مواقف العروبة

مجلة الرسالة/العدد 196/من مواقف العروبة

ملاحظات: بتاريخ: 05 - 04 - 1937



للأستاذ محمد سعيد العريان

من ذلك الفتى الشعاع، يختال في العزم والقوة، والشباب والفتوة، حاسرا عن ذراعه، متقدما على صحابته، قد فرعهم طولا، وبهرهم تماما وحسنا. . .؟

قال أصحاب محمد: (ذلك قزمان المدني. ما نعرف في أصحابه من يفوقه شهامة ورجولة؛ إنه ليعين الضعيف، وينتصر للمظلوم، ويسرع إلى الصريخ؛ لا تني به عزيمته عن أمر يقصد إليه؛ وما تعرف المدينة في فتيانها أغير من على حماه، وأبر منه لأهله. . .!)

قال محمد: (إنه لمن أهل النار. . .!)

واستمع المسلمون لرأي النبي في الفتى الذي اجتمعوا على الإعجاب به والتمدُّح بخلاله، فما راجعوه الرأي ولا ناقشوه العبارة؛ إنهم ليؤمنون بالنبي إيمانهم بكلمة الله؛ وإنهم ليعرفون محمدا أصدق نظراً وأنفذ بصيرة فما تخفى عليه من أصحابه خافية. إنه ليكاد ينفذ إلى سرائرهم جميعا بعينيه الثاقبتين، فيعرف ما تجيش به نفس كل رجل منهم، وإنهم ليعيشون من هذه المدينة في جو من الحذر والتربص، بين المنافقين من أتباع عبد الله ابن أبي بن سلول، وبين اليهود من بني قريظة والنضير؛ فما يسيئون الرأي في واحد بينهم إلا حسبوه عينا وربيئة من عيون المنافقين واليهود؛ فمن يكون (قزمان) بين هؤلاء وأولئك؟ وهل يدري أحد ممن هو وإلى من ينتسب؟ إنه لرجل يعيش في المدينة كما يعش أهل المدينة جميعا، ولكن أحدا منهم لا يعرف عنه أكثر مما يرى منه. . .

وتذامر المشركون من أهل مكة على قتال محمد، واجتمع إليهم من اجتمع من قبائل كنانة وأهل تهامة، يطلبون الثأر لقتلى بدر. وسار جيش الشرك في ثلاثة آلاف مقاتل، ما منهم إلا موتور يحرص على الأخذ بالثأر ولو مات دونه؛ وتطايرت رمال الصحراء تحت سنابك الخيل وأخفاف الإبل، نذيرا بما سيكون في غد بين الطائفتين؛ وسال الوادي يقذف بالزبد رجال على الصهوات تلمع سيوفها تحت الشمس ثائرة مهتاجة؛ وتجاوبت جنبات البادية بحداء الرجال على نواصي الخيل ورنين الدفوف بين الظعائن؛ حتى أشرف الجيش على (أحد) فلتبثوا ينظرون ما يكون من أمرهم وأمر محمد. . .

وخرج محمد وأصحابه سبعمائة رجل إلى لقاء الجيش عند أحد، فما تخلف في المدينة إ الصبيان والشيوخ والنساء والعجزة. وما انخزل عنه إلا المنافقون من أتباع عبد الله بن أبي، وتخلف قزمان فيمن تخلف بالمدينة. .!

وغدا قزمان يمشي في طرق المدينة لا يصحبه إلا ظله. أين رفاقه وصحابته؟ لقد خرجوا جميعاً إلى لقاء العدو فما تخلف منهم غيره، ففيم بقاءه ولا بقاء لمثله؟ ولكن فيم خروجه وما يؤمن بما يؤمن به صحابته؟ لقد خرجوا دفاعاً عن دينهم الذي يدينون الله عليه، وذياداً عن الحق الذي يذعنون له، بلى، وحفاظاً على الوطن العزيز أن تطأ ثراه نعال الغرباء. . .

وتحدث قزمان إلى نفسه هُنيَّة: (ما مُقامي هنا وأصحابي هناك؟ وَيْ! وماذا تكون مقالتهم عني وليس في المدينة غيري وغير هؤلاء؟)

هؤلاء كل ما هنا لك: شيخ هم يمشي على عصوين، وأعمى ضرير يتوكأ على عكازته، وطفل لدن يركب عصاه يستبق مع لداته، وعجوز عرقتها الأيام جالسة وراء الباب تنتظر ما يأتي به الركبان من أخبار الحرب، وشابة مخضوبة البنان متوارية في الخباء وأذنها إلى الطريق تتسمع نبأ عن زوجها الذي خرج للجهاد؛ وهذا الفتى وحده. . .!

وعاد قزمان يتحدث إلى نفسه: (. . . وماذا يكون من أمري حين يعود أصحابي أو حين تأكلهم الحرب فلا يعودون؟ بل ماذا يكون إن كانت الهزيمة وعجز الأوسُ والخزرجُ أن تدافعا عن المدينة؟ وما مقامي وكيف أكون إن ظفر العدو واستباح الحمى ووطئت نعاله تراب الوطن. . .؟ يا لأحساب قومي، ويا لعزة بلادي. . . ولكن. . .! يا للعروبة! أتغفر لي أن أقاتل في صفوف محمد وما أنا على دينه؟)

وتوزعته الفكرتان لا تسلمانه إلى رأي فيهدأ، ثم لم يلبث أن خلع الفكرتين جميعا إلى خاطر هفت له نفسه. . .

ومضى يحث الخطا إلى داره (سُلافة بنت طلحة)، يلتمس في الأنس بها ساعة من نهار هدوء البال وراحة النفس. منذ كم لم يجتمع قزمان وسلافة تسر إليه ويسر إليها؟ إن لها في نفسه لمكانا؛ وإن له في نفسه لحديثا يسره أن يلقاها فيحدثها به وتحدثه؛ لقد كانت العيون بينهما حائلة، فهاهي ذي الفرصة قد أمكنته ليجلس إليها ساعة في غفلة العيون. . . وطرق الباب. . .

-: (من؟ من يدق الباب؟) -: (قزمان. . .!)

-: (ويْ. . .! قزمان؟ وما جاء بقزمان الساعة؟)

-: (سلافة. . .)

-: (حسبتك هناك. . .!)

-: (أتظنين يا سلافة؟)

-: (بل أعتقد. . . قزمان لا يكون هنا وقومه هناك!)

-: (ولكني هنا من أجلك يا سلافة!)

-: (وقومك. . .؟ وأهلك. . .؟ ودينك. . . .؟)

-: (أنت قومي، وأهلي، وديني. . .!)

-: (لست منك يا قزمان إن لم تكن من أهلي وقومي وديني؛ لخير لي أن أفقدك في الجهاد وأنت أحب إلي. . .!)

-: (سلافة!)

-: (سلافة لقزمان البطل المجاهد وليست لك. . .!)

وغادر الفتى فتاته وقد اجتمع إليه هم ثالث، وسار بين البيوت مطرق الرأس، تتناوله نظرات الريبة والحدس. وسمع عجوزاً تتحدث إلى جارتها: (أما سمعت يا عاتكة؟)

-: (ماذا؟)

-: (حسيل بن جابر، وثابت بن وقش؛ إنهما من تعلمين: هل يقوى أحدهما أن يحمل نفسه من الهرم والضعف؟ لقد لحقا اليوم برسول الله يرجوان المثوبة في الجهاد أو الشهادة، وما عليهما والله إن بقيا في الآطام مع النساء والصبيان، وما منهما إلا له اخوة أو ولد في الحرب يكفون عنه. .!)

قالت صاحبتها: (بلى، قد علمت يا أختاه! فهل جاءك أن عمرو بن الجموح لم يمنعه من الحرب أنه يمشي برجل واحدة، وأن له بنين أربعة مثل الأسد يشهدون المواقع مع رسول الله؟)

وسمع الرجل ما تتحد به المرأتان، فكأنما كانت ترجمانه بالحجر فما يستطيع أن يتماسك مما ينهال عليه. واستمر يمشي وكأنما تستعر الحرب في رأسه لا في الميدان البعيد ومرت به (نسيبة بنت كعب)، تحمل سقاء فيه ماء، فاستوقفها يسألها عن خبرها فما أجابت نداءه؛ لقد كانت في طريقها إلى أحد، لتقوم بما تقدر عليه في صفوف المجاهدين. .!

وعاد قزمان يتحدث إلى نفسه: (ويلي! ما أنا هنا والحرب هناك؟ وما يكون من أمري غدا على الحالين: في النصر والهزيمة؟ أفراراً من الموت؟ أنكوصا عن الواجب؟ أكفراً بالوطن والأهل والعشيرة؟ ألا إنه يومك يا قزمان، فليجاهدوا هم في سبيلهم، وليكن جهادي معهم لأجل الوطن. . .!)

وترامت السهام، وبرقت الأسنة، والتفت السيوف، وابتدأت المعركة بين الجيشين وقزمان غير بعيد؛ لقد أدرك الجيش ولما يبدأ النضال، فما فاته أن يشهد المعركة من البداية

من ذلك الفتى الشعشاع، يختال في العزم والقوة، والشباب والفتوة، حاسراً عن ذراعه والسيف في يده، يحتز الرءوس، ويقطع الأوداج، ويلقي الرعب في قلوب الأعداء؟

إنه قزمان نفسه؛ لقد قاتل في ذلك اليوم قتالا شديداً، وأبلى بلاء حسناً، فما وضع السيف حتى أثخنته الجراحة.

والتف المسلمون حول قزمان يخففون عنه ما ناله من أذى القتال، وما منهم إلا معجب بصبره وقوة بلائه، فهم يقولون: (والله لقد أبليت اليوم يا قزمان فأبشر!) قال: (بماذا أبشر!) فوالله إن قاتلت إلا عن أحساب قومي، ولولا ذلك ما قاتلت. . .)

ونظر المسلمون بعضهم إلى بعض ثم انفضوا. . .

(إنه لمن أهل النار!) هكذا كان يقول عنه محمد. صدق رسول الله!

ونظر قزمان إلى نفسه، فإذا هو يتلاشى نفسا في نفس، وذكر صنيعه في ذلك اليوم، فعادت إليه الفكرتان الأوليان تصطرعان في نفسه، لا تسلمانه إلى رأي فيهدأ. أي الخطتين كانت أهدى سبيلا: أن يدع هذا الدين تمزقه أعداؤه وتمزق معه أهله وعشيرته شر ممزق، أو يقاتل في صفوف قومه دفاعاً عن أحسابهم؟

أما إنه لا سبيل إلى ما فات. لقد أدى واجبه لوطنه، ولكن. . . ولكنه غير مستريح إلى ما كان منه. . .

ونزت به نازية، فلم يجد لنفسه خلاصا من عذاب الفكر إلا بالموت، فاتكا على سيفه فأزهق نفسه. . .! يا لله! لقد نفذت إلى نفسه بارقة من شعاع هدته سبيل الوطنية، ولكن قلبه ظل في ظلمات من الضلال والشرك.

لو عرف ذلك الدين الذي جاهد له يومه الأخير، لأشرق له الدنيا كلها، وانبثق الصبح في قلبه، ولمات يوم مات تشيعه الملائكة وتهزج له أناشيد الخلود!

ليته عرف! ولكن، حسبه أنه كان مثالا في الوطنية، ليت كثيراً يعرفونه. . .!

(شبرا)

محمد سعيد العريان