مجلة الرسالة/العدد 196/نسيبة

مجلة الرسالة/العدد 196/نسيبة

ملاحظات: بتاريخ: 05 - 04 - 1937



للأستاذ إبراهيم مصطفى

المدرس بكلية الآداب

سيدة من بني الخزرج من أهل يثرب، ولم يكونوا إذ ذاك سموا أنصاراً ولا كان الرسول هاجر إليهم، ولكن حديثه كان يملأ الجزيرة ودعوته تشغل العرب وقرانه يبث بينهم ويتلى، كما كانت الأشعار تنشد وتروى.

وكان أهل المدينة أشد عناية بهذه الدعوة وأحفى سؤالا عنها. فهم أصهار قريش وشركاؤهم في التجارة وحفظة طريقهم إلى الشام وبينهم اليهود أهل الكتاب ورواة المأثور ومجمع الأخبار

وجلست نسيبة في مساء إلى زوجها وولدها يتحدثون في أمر محمد وأنباء دعوته وما حدث في قرآنه، وتلى تال (الر تلك آيات الكتاب الحكيم. أكان للناس عجباً أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم، قال الكافرون إن هذا لساحر مبين) وآيات أخرى من كتاب محمد. وعجبت نسيبة للكافرين أن ينكروا على رجل منهم أوحي إليه أن يهديهم وأن يبشرهم وينذرهم، وتساءلت بهذا السحر المبين أين يكون؟ وما هي إلا الدعوة الصالحة والحق الواضح والبيان الجميل. لشد ما ظلم الرسول قومه وبئسما افتروا عليه. واشتاق القوم أن يروا محمداً وأن يستمعوا إلى حديثه ويستزيدوا من قرانه.

وما جاء ميقات الحج حتى كانت القافلة تسير من يثرب إلى مكة في نحو خمسمائة حاج أكثرهم الرجال وقل فيهم النساء ومن بينهم نسيبة. وهاقد أدرك الركب في مكة وتوافى إليها الحجيج من كل فج واستقرت القبائل في منازلها والرسول يسعى إليهم يعرض عليهم دينه ويبين رسالته ويتلو قرانه بل يعرض نفسه أيضاً، لقد ضاق به المقام في مكة ونبا وآذاه أهله في نفسه وفيمن من آمن به، وبالغوا في الإيذاء والتنكيل حتى عاد بينهم كالعاني الأسير أو أنكد. وما يبغي الرسول؟ إنما يريد من العرب قوماً يسعونه حتى يؤدي رسالته، ويحمونه حتى يبين حجته، ثم يدعون من آمن لإيمانه ومن كفر لكفره. وما من قبيلة رضيت هذا أو انشرحت له صدراً إلا جماعة من أهل يثرب واعدهم الرسول إذا انحدروا من منى أن يوافوه في الشعب الأيمن بأسفل العقبة وأمرهم ألا ينبهوا نائماً ولا ينتظروا غائباً وأن يستخفوا من قريش ويحذروا عيونهم وأرصادهم، وما وافى الموعد حتى كان بين يدي الرسول سبعون منهم. بينهم نسيبة وسيدة أخرى عاهدهم وعاهدوه أن يسعوه بينهم وأن يحموه حمايتهم لأحدهم حتى يبين حجته ويبلغ رسالته. وراحوا بعهدهم يخفون من قريش ومن الناس أن يعلموه، وعادت نسيبة إلى بلدها سعيدة بإيمانها فخورة بعهدها، وقدرت ما يكلفها هذا العهد نفسها على الرمي بالنبل والضرب بالسيف وأعدت لهذا الجهاد ولديها حبيباً وعبد الله.

ودار الزمن وفر الرسول من مكة وهاجر إلى المدينة وتلقاه الأنصار بالنشيد والترحيب، ثم نشبت الحرب بين الرسول وبين المشركين من قريش في يوم (بدر). وشهدها المهاجرون الأولون والأنصار السابقون ونسيبة منهم تسقى من استسقى وتضمد الجرح من جرح، وتشهد غلبة الحق لأول يوم انتصر فيه. وعظم هذا اليوم على المشركين وهم الأكثرون فأعدوا عدتهم وحشدوا للرسول في (أحد) وشهدته نسيبة أيضاً ومعها زوجها وولداها في يمينها السقاء والضماد، واستعرت الحرب وغلب المسلمون ثم نالتهم هزيمة، فما ارتاعت نسيبة إلا لجموع من المشركين تقصد إلى محمد تريد أن تحيط به وتكاد أن تبلغه والمسلمون عنه في ناحية مثقلون بالهزيمة، فألقت السقاء والضماد وسددت بالسهم ورمت عن الرسول بالنبل، حتى التحم به المشركون فشرعت السيف وجالدت القوم حتى جرحت وخارت وارتمت على الأرض مصروعة. وثبت الرسول وهزم عنه المشركون وانجلى من الغمرة ما انجلى وتساءلوا بنسيبة فإذا هي ملقاة يفور دمها من جرح غار بكتفيها. ضمدوا الجرح وسقوها الماء فما تنبهت حتى سألت: وأين الرسول؟ وما صنع المشركون معه؟ إنه لناج وإنه منك لقريب. وجرحك الغائر ودمك السائل وقوتك الموهنة وولداك الناشئان وبعلك الشيخ - كل أولئك منك دون محمد!؟ أجل دون محمد ودون رسالة محمد، لها خرجنا ومن أجلها قاتلنا، ولها نحيا، وفي سبيلها نموت. وبرئت نسيبة ونسيت الفخر إلا بهذا اليوم، وبالأثر الباقي من ذلك الجرح. (روى ابن هشام عن أم سعد قالت: دخلت على نسيبة أم عمارة فقلت لها: يا خالة أخبريني؛ فقالت: خرجت يوم أحد ومعي وعاء فيه ماء فانتهينا إلى رسول الله وهو في أصحابه، والدولة والريح للمسلمين، فلما انهزم المسلمون انحزت إلى رسول الله فكنت أباشر القتال وأذب عنه بالسيف وأرمي عن القوس حتى خلصت الجراح إلي، وأرت على عاتقها جرحا أجوف له غور)

وقد أحسنت السيدة نسيبة تربية ولديها حبيب وعبد الله وملأت قلبهما إيماناً وصدرهما شجاعة وسواعدهما قوة، وعرف رسول الله فضلهما وقدرهما، وأحضرهما المشاهد وجعلهما سفراء ورسلا إلى من شاء من رجال العرب ورؤوس القبائل، أرسل عبد الله إلى اليمن مع معاذ، وأرسل حبيبا إلى مسيلمة الجبار البطاش المتنبئ كذبا في قومه بني حنيفة وهم من أكثر العرب عدداً وأغناهم وأقواهم بأساً. أتدري ما صنع الكذاب بحبيب؟ لا يملك القلم أن يقصه عليك، وبأشق الجهد أن يرويه لك، ففي الجزء الأول من أسد الغابة في ترجمة حبيب (أن رسول الله أرسله إلى مسيلمة الكذاب الحنفي صاحب اليمامة فكان مسيلمة إذا قال تشهد أن محمدا رسول قال نعم، فإذا قال تشهد أني رسول الله قال لا أسمع، فيقطع منه عضواً، ففعل ذلك مراراً وقطعه مسيلمة عضواً عضواً) اهـ

وقبض المصطفى عليه الصلاة والسلام لأجله، وزلزل المسلمون لموته وارتدت من العرب أحياء وجموع، وكان مسيلمة أشد الخصوم لددا وأقواهم كيداً وأكثرهم مالا وعدداً، كاثر بقومه بني حنيفة واعتصم بحصونه في (اليمامة) وصمد إليه خالد بن الوليد بجيش فيه السيدة نسيبة وولدها عبد الله؛ واستعصى أمر مسيلمة وكاد يهزم المسلمون، ثم تجمع نفر من المستبسلين، رموا بأنفسهم مسيلمة لا يبالون إلا أن يبلغوا إليه وينالوا نفسه، وفي هذا النفر نسيبة وولدها عبد الله، أما نسيبة فجالدت بالسيف حتى بتر ذراعها وأما عبد الله فصمد وألح في الهجوم على مسيلمة مستقتلا مستبسلا حتى أدركه وأغمده السيف. مات مسيلمة فماتت الفتنة بموته وتم أمر بني حنيفة مع ابن الوليد صلحاً؛ وعادت نسيبة إلى بلدها بساعد واحد وولد واحد، وهي بما مضى أسعد منها بما بقى. كل إلى فناء، وإنما الفوز والمجد أن يكون في سبيل الحق ذهاب ما ذهب منك

ونسى التاريخ نسيبة وأغمض العين عن بقية أيامها وضن أن يحدثنا بما نحب من ختام جهادها ومواطن مثواها. إلا إن مثواها الجنة، وإن ذكرها في الطيبات لخالد.

إبراهيم مصطفى