مجلة الرسالة/العدد 197/الزواج

مجلة الرسالة/العدد 197/الزواج

ملاحظات: بتاريخ: 12 - 04 - 1937


للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني

لا أدري ماذا دها الناس، فإنه يندر أن اسمع في هذه الأيام بزواج موفق؛ فهل صار نظام الزواج فير صالح لهذا الزمن؟ أم العيب في الناس لا في النظام ولا في الزمن؟ ولا شبهة في أن للزواج عيوبه. فما الزمن، يخلو شيء في دنيانا هذه من عيب؛ وان له لمتاعب؛ وإن مسئولياته لعديدة وثقيلة، ولكن النجاة من المتاعب عسيرة في الحياة؛ وانه ليظن حمقا من يتوهم أنه يستطيع أن يحيا ويخلو مع ذلك من المتعبات سواء أتزوج أم أثر الوحدة والاستفراد. واحسب إن كثيرين من الرجال والنساء أيضاً يقدمون على الزواج وهم يعتقدون أنه صفو لا كدرة فيه، ومتعة لا تنقص ولا ينغصها أو يفسدها شيء. وحلاوة لا تشوبها مرارة، فتخيب آمالهم كما لا بد أن يحدث، ويضجرون ويتأففون ويشكون وتتلف أعصابهم فلا تعود تقوى على احتمال ما كان ظنهم ألا يكون. وهذا شأن كل من يتناول الحياة بخفة، وواجهها بغير ما ينبغي من التهيؤ للاحتمال، ومن الاستعداد للتشدد والجلد والمقاومة.

وقد كنت أتكلم في هذا وما إليه مع صديق فقال: الحقيقة إن الزواج نظام ثبت إخفاقه وقلة صلاحه في هذا الزمن، فعذرته لأنه ممن جر عليهم الزواج نكبات كثيرة يشق احتمالها، ولكني لم أر رأيه، فقلت له: (لا تغلط يا صاحبي فان كل زمن ككل زمن، وهذه الاختراعات الكثيرة لم تغير شيئا من حياة الناس وفطرهم، ولم تقلب الحقائق الاجتماعية، وما خلا زمن قط ممن يسعدهم الزواج وممن يشقون به، ولا من الراضين والساخطين على هذا وغيره من أحوال الحياة وما زال الرجل كما كان، والمرأة كما عهدها آباؤنا وأجدادنا عفا الله عنهم ورحمهم، ومع ذلك قل لي ماذا تطلب من الزواج وأنا أقول لك ماذا ينبغي أن تبلغ به أو ما لا بد أن يصيبك من خيره أو شره)

قال: (اطلب الراحة والاستقرار. . . ماذا اطلب غير ذلك؟) قلت: (إن الراحة مطلب لا سبيل إليه في الحياة، وهي لا تكون إلا بالموت على أن هذه لا تعد راحة مادام المرء لا يحسها ولا يدرك أنه مرتاح، ولا يعرف حتى ما صار إليه؛ والاستقرار كذلك عسير لأن حياتك كلها قوامها التحول والتغير، وجسمك ونفسك وخواطرك وآمالك وشهواتك وكل م فيك أو لك يتغير فكيف بالله يكون هذا الاستقرار؟ وأين السبيل إليه؟)

قال: (إنما اعني الراحة النسبية والاستقرار بالقياس إلى حياة العزوبة والوحدة)

قلت: (ولا هذه أيضاً. إن الزواج ليس أداة لراحة ولا وسيلة لاستقرار أو غير ذلك مما تتوهم، وإنما هو نظام. فإذا كان يوافقك أن تحيا في ظل هذا النظام فتفضل وأهلا بك وسهلا؛ ولكن يجب حينئذ أن تعرف إن له مقتضيات، وان توطن نفسك على الإذعان لها واحتمالها، كما يخضع الجند للنظام العسكري، ولم يقل أحد إن الجندية سبيل لراحة أو استقرار أو لذة، أو غير ذلك مما يجري هذا المجرى. وإنما هي نظام تقتضيه حياة الجماعة. وكل جندي يقول لنا أنه نظام شاق عسير ثقيل الوطاة، ولكنه لازم ولا بد منه. والفرق بين الزواج والجندي إن الجندي يعلم أنه داخل في نظام لا لذة فيه ولا متعة له منه وانه سيلقى عناء ويكابد متاعب، وانه معرض للجلد والسجن، بل للموت حتى من غير حرب. ولكن طالب الزواج يمنى نفسه الأماني المستحيلة فيلقى خلاف ما كان يقدر، ولو أنه وطن نفسه - كما يفعل الجندي - على التعب والنصب ووجع القلب ومعاناة المنغصات إلى آخر ذلك لسعد بالزواج، ولفاز منه بلذات كثيرة ونعم جزيلة ومتع يضن بها على النسيان. وقد ذكرت الجندية على سبيل التمثيل، ولكن للجندية علاقة وثيقة بالزواج، لأن الزواج غايته تنظيم أمور النسل اللازم للجماعة، أي مد الجماعة بالعدد الكافي من الأفراد للقيام بأعباء حياتها، فهو نظام تمهيدي للجندية. وأنا استعمل الجندية هنا بالمعنى الأعم الأشمل، واعني كل فرد لا الذين يحملون السلاح ويسيرون إلى القتال حين يدعون إلى ذلك - لا اعني هؤلاء وحدهم، فان كل فرد جندي للجماعة وان لم يحمل سيفا ولم يتقلد رمحاً، إذا كان قد بقى في عصرنا هذا من يتقلد رماحاً. والواجب على كل حال أن يدرك المرء أنه بالزواج يكون كالذي يعمل في شركة؛ وللعمل نظامه. والعمل لا تطلب منه اللذة بل الثمرة؛ والعمل لا يفيد الراحة بل التعب؛ ولا آخر للتعب ما دامت الشركة قائمة تعمل وتؤدي ما هو منتظر منها. نعم يستطيع المرء أن يفوز بإجازة، ولكن هذا ميسور في نظام الزواج: خذ إجازة كلما شعرت إنك تعبت، وامنح زوجتك مثل ذلك كلما بدا لك أن أعصابها كلت)

فعجب وسألني: (كيف ذلك. .؟ أن هذا مزاح) فأكدت له إني جاد، وقلت: (إني أعيش مع زوجتي كأنا صديقان؛ وليس يسعني أن افعل غير ذلك، لأنها إنسان مثلي ولها حياتها المستقلة عن حياتي وإن كنا متعايشين تحت سقف واحد. وأنا احرص في حياتي معها على الاعتراف بهذا الوجود المستقل فلا أحاول أن افني وجودها هذا واجعله يغيب في وجودي؛ ولو تيسر لي هذا لما كان لي فيه أي لذة لأني خليق أن اشعر حينئذ إني أعايش آلة لا إنساناً محسا مدركا يبادلني ما يسرني أن أراه يبادلني إياه من العواطف والاحساسات والخوالج. ولو أفنيت شخصيتها في شخصيتي لانحطت في نظري إلى منزلة الخدم الذين تطعمهم وتنقدهم أجرهم على أن يفعلوا ما تريد ولا يجاوزوا مشيئتك. وليست زوجتي خادما ولا آلة وإنما هي رفيق حياة أي صديق معين. ولست أقول هذا تملقا أو نفاقا بل أقوله لأني لا افهم معنى للزواج غير ذلك. كلا. لست احول أن اغلب إرادتي على إرادتها لأني لا أحس حاجة إلى ذلك؛ وسبيلي التفاهم لا الإكراه، واراني ابلغ بهذا ما لا ابلغ بالقوة والضغط. ومطلبي ما هو أوفق لكلينا، لا ما هو أوفق لي وحدي، فان الشركة لا تصلح بهذا الاستئثار، والزواج شركة على التحقيق، ولا يحسب أحد أن الرجل يضع في هذه الشركة أكثر مما تضع المرأة، وانه لهذا مغبون فيها، فان هذا خطأ، فليس السعي للرزق كل ما تقتضيه هذه الشركة، وان المرأة لتبذل حياتها كلها لا جهدها لإنجاح الشركة؛ وحسبها الحمل والوضع، ولو أمكن أن يحمل الرجل لأمكن أن يدرك هول ما تتحمل المرأة في سبيل هذه الشركة، ولكنه لا يحمل مع الأسف، فهو في الغالب لا يستطيع أن يقدر نصيب المرأة وما يكلفها الزواج وما يعرضها له، ولا كيف تضحي بها الحياة لتملأ الدنيا بمثلى ومثله ممن لا يستحقون هذه التضحية)

فترك هذا وقال: (ولكن ألا يجب أن يكون للبيت سيد. . . إن المركب يغرق إذا كان له رئيسان).

فقلت: (آه. . حكاية التركي الذي جرد سيفه ليلة الزفاف وأطار به عنق القطة ليرهب الزوجة المسكينة. . لا يا سيدي. . ليس الأمر أمر سيد أو سيدة، فما ثم محل لذلك. وأين محل هذا ولكل من الرجل والمرأة عمل؟ وأصدقك فأقول إني لا أدري كيف يمكن أن تجور المرأة على الرجل أو يجور الرجل على المرأة. أخل ذهنك من كل فكرة عن السيادة وأخل لها ذهنها أيضاً. . تفاهما معا. . هي لها عملها وواجباتها التي لا تستطيع - حتى إذا أرادت - أن تشاركها فيها؛ وأنت لك عملك وواجباتك التي يعييها أن تشاركك فيها؛ وكل منكما يمضي بعد ذلك في طريقه لينهض بأعبائه الموكولة إليه. فأين يكون الاختلاط والاحتكاك والخلاف؟ وإذا حدث خلاف فلماذا لا يكون بالحسنى. .)

قال: (والغيرة. . أليست بلاء؟)

قلت: (طبعا. . والرجل أيضاً يغار. . أليس هذا بلاء؟. . فلماذا لا تضع نفسك في موضع المرأة وتنظر إلى الأمور من ناحيتها هي أيضاً. . صحيح إن المرأة أسرع إلى الغيرة من الرجل وان غيرتها أحمى، فبلاؤها لهذا اعظم، ولكن هذه طبيعتها ولا حيلة لها في ذلك، لأن الغريزة الجنسية في المرأة أقوى منها في الرجل إذ كانت هي مدار حياتها. ثم إن الواحد منا يتقبل أصدقاءه على علاتهم ويحتمل أمزجتهم التي تخالف مزاجه، ويوفق بين رغباته ورغباتهم - وما اكثر ما تتباين - ويظل مع ذلك صديقهم ويظلونهم أصدقائه، فلماذا لا يكون هذا حال الزوجين. .؟ لماذا لا يحتمل منهما الآخر على العلات وهما بذلك أولى من الصديقين. .؟ المسألة يا أخي إن الرجل يريد أن يسود، وان المرأة تريد أن تحكم، لأن هذا هو (المودة الجديدة. ولو تركا هذا وأهملاه فنزل الرجل عن الرأي الموروث فيما ينبغي أن تكون عليه علاقة الرجل بالمرأة، وتركت هي ما تشير به (المودة) الحديثة من أن الست هي السيدة المطاعة والرجل هو التابع والخادم الذليل - لو تركا هذا وسارا في الحياة سيرة شريكين متعاونين على إنجاح الشركة واحتمال متاعبها والصبر على بلاياها في سبيل مزاياها وفائدتها لارتاحا جداً ونعما بالحياة الزوجية).

فسألني: (هل أنت سعيد؟).

قلت: (إني سعيد لأني لا أطلب من الزواج سعادة، ولو كنت اطلبها لشقيت على التحقيق؛ وقد تزوجت وأنا موطن نفسي على إن هذا واجب أؤديه كما أؤدي واجبي بالعمل في الصحافة وبالاشتغال بالأدب - واجب والسلام. فإذا فزت بمتعة فهذا فضل من الله، وإذا فاتني ذلك فما كنت اطمع فيه أو أرجوه. وقد أدخلت هذا في رأس زوجتي فهي تفهمه حق الفهم، وقد كان على أن افهمها هذا في أول الأمر لأني أردت من البداية أن أجنب سبيل الإخفاق. وقد أفلحت ولله الحمد والشكر؛ فإذا حدثتك نفسك بالزواج مرة أخرى فاصنع هذا).

فصاح: (أنا. . . أعوذ بالله يا شيخ!)

فقلت: (أرني لم أوفق إلى إقناعك. . لا بأس. . المسألة في الحقيقة مرجعها إلى الاستعداد، ولو شئت لقلت إلى العقل والحكمة وسعة الصدر ورحابة أفق النفس)

فقال: (متشكر يا سيدي)

فعلمت انه غضب. ومع ذلك ماذا قلت. . أني لم أزد على إبداء رأي، فإذا كان لا يحتمل هذا بل يعده تعريضا شخصيا به فلا غرابة إذا كان قد أخفق في زواجه

إبراهيم عبد القادر المازني