مجلة الرسالة/العدد 197/النجاح في القرن العشرين

مجلة الرسالة/العدد 197/النجاح في القرن العشرين

ملاحظات: بتاريخ: 12 - 04 - 1937



لأديب مجهول

في قطعة تعد من اجمل نماذج النثر الإنجليزي يصف الأستاذ السير جيمس فريزر العادة الغربية التي كانت متبعة في تولية القسس الحاكمين بغاب ديانا القريب من موقع مدينة لارتشيا الحالية بإيطاليا: (فمن يوم إلى يوم، ومن عام إلى عام، في الحر وفي البرد، وفي الصحو وفي المطر، يخرج القسيس من المعبد حذرا يترقب ويجوب الغابة، والسيف مشهور في يده، وأن أغفى إغفاءة فقد يكون ثمنها حياته ويتولى من قتله الحكم مكانه.)

ذلك نوع من النجاح بعد به عنا الزمن، وأنكرته المدنية حتى في عهدها القديم (فإني اذكر وأنا اكتب الآن إن الإمبراطور كراكرا كان هو الذي ابطل قانون الغابة الذي سلف وصفه) لما تنطوي عليه فكرته من تغليب محض القوة أو الخديعة على كل اعتبار آخر وإباحة التخلص من وجود المنافس كلية بقتله، وقد يكون المقتول انفع لقومه من القاتل، فضلا عن أن لا حياة لمجتمع ما إلا بالتواضع على حد أدنى من الأمن على النفس والمال وما يتصل بهاتين الغايتين من أفكار أدبية ونظم قانونية.

وما زالت معايير النجاح تتغير تبعا لاختلاف الجماعات والعصور حتى أتى هذا القرن وأوضح صفاته وصول التنافس الاقتصادي فيه إلى اشده سواء بين الأفراد أو الأمم، وفي هذه الحالة ما فيها من خطر على المدينة يكاد يرجع بها إلى عهد التناحر الأول، وما استمرار الحرب الهجومية إلى هذا الوقت إلا نذير بما تستهدف له العلاقات الدولية من عودة الإنسان فيها إلى حكم غرائزه البحتة.

نترك هذا الجانب الدولي من الموضوع، فليس هو المقصود ببحثنا الآن فضلا عن مساسه بمسائل هي أدق بكثير مما يتناوله البحث في تنافس الأفراد.

والآن فما مقياس النجاح في عصر الاقتصاد؟ إن اسهل جواب على ذلك القول بأنه هو النجاح المشتق من روح العصر. أي النجاح في الماديات، واسهل جواب ليس هو دائماً فصل الخطاب، بل إن الأمر ليحتاج لنظر أدق وتفكير كثير، فقد كان التنافس في الماضي نضالا بين اثنين أو أكثر يفوز فيه أحسنهم مواهب أو فرصا، فتحول الآن إلى جهاد للتخلص مما أحاط به هذا العصر بنيه من صعوبات نشأت عن انتشار الديموقراطية م جانب وزيادة السكان من الجانب الآخر. وأكبر أخطار الديمقراطية هو ما نحاول نشره يوميا (خصوصا بالسينما والراديو) من فرص للمساواة المزعومة بين الناس مما يسهل انعدام شخصية الفرد في آلاف يراهم مثله. واكبر أخطار زيادة السكان هو الفقر والعطلة، فالتحول بالأخلاق من ينابيعها الأدبية والروحية إلى غرائز الإجرام الحيوانية الكامنة هي أيضاً في الطبيعة البشرية

ولا ريب في أن الناشئ في هذا القرن يقاسي من هذه الصعوبات مالا عهد للسابقين به، ويتعرض من أخطاره لما لم يعرفه غيره ممن قبله، غير انه لا ريب كذلك في أن إطلاق مبادئ النجاح المادي من عقالها وترك النضال القديم الذي يعترف بحدود الأخلاق والدين إنما هو في الواقع هروب من الجهاد الصحيح إلى عراك آخر رخيص يبيح الصعود بالهبوط، والوصول لنعيم الجسم بفقدان الروح، ولضخامة الكسب بموت الضمير

وسيكون اختيار الناس لهذا النوع أو ذاك من النضال تبع فهم كل منهم معنى الكرامة والحياة، ولا فائدة على أي حال من خطاب من فسدت مقاييسه أو خبث طبعه، ولكن الذي لا بد من بيانه في هذا الصدد أن النجاح برغم كل ما تقدم من وصف صعابه لا يستلزم تغييرا في كيف السعي بل في كمه؛ وبعبارة أخرى هو يستلزم زيادة في الجهد لا ما يدعو إليه المستهترون بالاجتماع السليم من اطراح ما قامت عليه المدنيات من قواعد الشرف والأدب.

فإذا تبين أن سبيل النجاح الآن لا يخرج عما كان في كل آن من انه طلب التقدم بكل وسيلة شريفة بقى أن نبحث عن أهم شروط هذا الطلب فلا نجد غير إرادة النجاح، والإرادة هي إرادة الوسائل وعقد النية على العمل بها لا الإرادة الجوفاء الشبيهة بالأحلام

وباعتبار ما تقدم عنه من امتياز هذا القرن بشدة التنافس الاقتصادي فيه يجب أن نضيف إلى شرط الإرادة شطاً آخر هو القدرة على إنزال المال منزلته الصحيحة من انه وسيلة للحياة المادية، وانه هو الحياة المادية نفسها يجب أن يتخذا وسيلة لأن يحيا المرء حياته الروحية التي هو جدير بها. فإذا عمل عامل بهذه العقلية وتلك الإرادة فداوم على تهذيب نفسه مع السعي لترقية حاله وحافظ على شخصيته في كل الظروف فهذا هو الفضل وهو النجاح.

(* * *)