مجلة الرسالة/العدد 197/مصاير الحرب في إسبانيا والصراع بين إنكلترا

مجلة الرسالة/العدد 197/مصاير الحرب في إسبانيا والصراع بين إنكلترا

مجلة الرسالة - العدد 197
مصاير الحرب في إسبانيا والصراع بين إنكلترا
ملاحظات: بتاريخ: 12 - 04 - 1937


وإيطاليا

بقلم باحث دبلوماسي كبير

مضت إلى اليوم تسعة اشهر مذ نشبت الحرب الأهلية الإسبانية في أواخر يوليه الماضي، وما زالت على اضطرامها، ونستطيع بعد الذي شهدناه من تطور الحوادث خلال هذه الفترة أن نقول إن هذه المعركة الطاحنة التي تخضب ارض إسبانيا بالدماء وتبسط في جنباتها أعلام الدمار والويل، لم تسفر حتى اليوم عن نتيجة حاسمة؛ بل لا نبالغ إذا قلنا أنها ما زالت حيثما بدأت من حيث أوضاعها الداخلية؛ فالجبهة الثائرة ما زالت تجاهد جهاد اليأس لتنتزع ما تستطيع انتزاعه من المدن والأراضي؛ وجبهة الحكومة أو الجبهة الجمهورية ما زالت تصمد في معظم الميادين وترد هجمات الثائرين؛ وقد أحرزت في الأسابيع الأخيرة نجاحا يذكر في المعارك الني دارت حول مدريد، ولا سيما في وادي الحجارة (جوادي لاجارا) كما أحرزت بعض النجاح في الشمال حول اوفيدو، وفي الجنوب في بسائط قرطبة وغرناطة. وقد لاح مدى حين حينما استولى الثوار على مالقة في أوائل شهر فبراير بمؤازرة الفرق الإيطالية في البر، والمدرعات الإيطالية والألمانية في البحر، إن الجبهة الثائرة تسير إلى نصر سريع محقق، وان الجبهة الجمهورية قد أضحت على وشك الانهيار والتحطم؛ وكان سقوط مالقة في الواقع تعويضا للثوار عما لحقهم أمام مدريد من فشل مستمر؛ وكان المظنون أن الثوار سيتابعون زحفهم إلى المرية ثم إلى بلنسية حيث تقوم الحكومة الجمهورية؛ ولكن سقوط مالقة أذكى في الجمهورية شعور الخطر وأذكى فيها روح النضال، فضاعفت جهودها، واستطاعت أن ترد خطر الثوار في الجنوب؛ واغتر الثوار بظفرهم في مالقة فدبروا مع حلفائهم الإيطاليين هجومهم الجديد على مدريد، واضطرمت حول العاصمة الإسبانية سلسلة جديدة من المعارك الطاحنة، ولكنها أسفرت عي تلك المرة كما أسفرت في كل المرات السابقة عن فشل الثوار الذريع، بل أسفرت فوق ذلك عن إحراز القوات الجمهورية لسلسلة من الانتصارات الباهرة في جبهة وادي الحجارة وفي آفيلا، وعن تمزيق الثوار وحلفائهم الإيطاليين، وردهم بعيدا عن حدود العاصمة وعن طريق مدريد - بلنسية الذي يحاولون احتلاله لقطع العاصمة عن باقي إسبانيا.

وقد كان لهذا التطور الجديد في مصاير الحرب الأهلية الإسبانية أثر عميق في الموقف الدولي، فقد كشفت الحوادث والمعارك الأخيرة عن مبلغ تدخل إيطاليا في الحرب الإسبانية وعن ضخامة الدور الذي تقوم به إلى جانب الثوار، وبالأخص عما ارتكبته من المخالفات الصريحة لاتفاق عدم التدخل إذ تبين أنها أرسلت إلى إسبانيا عدة فرق عسكرية كاملة في أوائل شهر مارس، اعني بعد أن عقد ميثاق عدم التدخل في لندن وتعهدت جميع الدول الموقعة عليه ومنها إيطاليا بان تكف عن تدخلها في الحرب الإسبانية، وان تقطع عن الفريقين المتحاربين كل معاونة عسكرية، وتبين إن معظم القوى التي قامت بالهجوم الأخير على مدريد كانت مؤلفة من الإيطاليين وانه يوجد الآن في إسبانيا إلى جانب الثوار نحو خمسين ألف جندي إيطالي؛ وقد كشفت السياسة الإيطالية عن مبلغ تمسكها بهذا التدخل وتصميمها على معاونة الثوار على تحقيق الغرض الذي ترمي إليه، وهو إقامة حكومة عسكرية فاشستية في إسبانيا تكون خاضعة للنفوذ الإيطالي؛ وقد قررت إيطاليا في لجنة عدم التدخل، على يد سفيرها في لندن، أنها ترفض سحب جنودها في إسبانيا وصرحت صحافتها الشبيهة بالرسمية، بان الجنود الإيطالية لن تغادر إسبانيا حتى الظفر النهائي لزعيم الثورة الجنرال فرانكو، وأن إيطاليا لن تسمح بأي حال أن تقوم في إسبانيا حكومة بلشفية، وهو الوصف الذي تطلقه على حكومة إسبانيا الشعبية الجمهورية. ولنلاحظ أن إيطاليا تقف هذا الموقف العنيف غداة هزيمة جنودها أمام مدريد، وهي الهزيمة الذريعة التي كدرت على موسوليني صفو رحلته الرنانة في طرابلس، وحملته على العودة إلى رومه قبل أن يتم برنامجه.

وهذا الموقف الذي تقفه إيطاليا من المسألة الإسبانية يثير في لندن وباريس مخاوف كثيرة؛ وقد كان موقف ألمانيا إزاء هذه المسألة من قبل يثير مثل هذه المخاوف، ولكن ألمانيا تقف في معاونتها للثوار عند الحد الذي بلغته قبل عقد اتفاق عدم التدخل. ولا تريد الآن على ما يظهر أن تتوسع في تدخلها بعد أن رأت فشل سياستها في المسألة الإسبانية؛ أما إيطاليا فإنها تثير بموقفها صعاباً جمة في سبيل تطبيع سياسة عدم التدخل التي ترى لندن وباريس أنها خير وسيلة لحصر أخطار الحرب الإسبانية وصون السلام الأوربي من شررها المتطاير. وهنا تبدو الصبغة الدولية للحرب الأهلية الإسبانية وهي الصبغة التي نوهنا بخطرها وأهميتها مذ نشبت الثورة في إسبانيا. فالعلائق الإيطالية الإنكليزية، والنضال بين إنكلترا وإيطاليا في البحر الأبيض المتوسط، تلعب اكبر دور في تطور المسالة الإسبانية، وفي سير الحوادث الدولية بوجه عام. والمسالة الإسبانية ليست إلا واحدة من مسائل عديدة يثيرها النضال بين الدولتين في هذا البحر؛ وإيطاليا لم تنس موقف إنكلترا في المسالة الحبشية. ولم تنزل عن شيء من أحقادها ومشاريعها رغم عقد اتفاق (الجنتلمان) بينها وبين إنكلترا على احترام الحالة الراهن في البحر الأبيض المتوسط. وإذا كانت إنكلترا تمضي اليوم في تنفيذ برنامجها الدفاعي الهائل فلأنها اعتبرت حوادث الحرب الحبشية، وشعرت بالخطر الذي يهدد سيادتها الإمبراطورية من جراء تفوق التسليح الإيطالي في البحر الأبيض المتوسط وهي تستطيع اليوم بعد أن قطعت شوطا كبيرا في برنامجها الدفاعي أن تقف في وجه السياسة الفاشستية وان تناوئ أطماعها الخطرة. ولم ننس بعد تلك المعركة الصحفية المرة التي أضرمت بين الصحافتين البريطانية والإيطالية، من جراء أقوال (الدوتشي) ومزاعمه المغرقة في طرابلس حول حماية الإسلام والعرب، وما أثارته تلك المزاعم من سخرية لاذعة في العالم الإسلامي.

ولنلاحظ إن هذا النضال بين السياستين البريطانية والفاشستية كما انه يحدث أثره في المسألة الإسبانية أو غرب البحر الأبيض المتوسط، فإنه يحدث أثره العميق أيضاً في شرق هذا البحر ففي الأشهر الأخيرة نشطت السياسة الإيطالية قي البلقان وفي أوربا الوسطى، وأحرزت أخيراً نجاحا يذكر بعقد الميثاق اليوجوسلافي الإيطالي، ومن المعروف أن العلائق بين إيطاليا ومنافستها القوية في بحر الادرياتيك لم تكن على ما يرام، فعقد هذا الميثاق يحسم كثيرا من أسباب النزاع بينهما، ويضمن لإيطاليا حيدة يوجوسلافيا إذا وقع الصدام بينها وبين دولة أخرى، كما انه يضمن ليوجسلافيا مثل هذه الحيدة؛ والظاهر أن السياسة الإيطالية تسعى إلى عقد مثل هذا الميثاق مع المجر حيث تتمتع بنفوذ واضح، ومع تركيا الكمالية أيضاً. فإذا تم عقد هذه المواثيق، فان إيطاليا الفاشستية تسوي بذلك علائقها في شرق البحر الأبيض المتوسط وتأمن غائلة الاعتداء من هذه الناحية، وتستطيع أن تتفرغ لمقاومة السياسة البريطانية في أواسط البحر الأبيض المتوسط وفي غربه أعني في إسبانيا ولقد نوهنا من قبل غير مرة بخطورة هذا النضال بين إيطاليا وبريطانيا العظمى وشرحنا عناصره الظاهرة والخفية، وليس من ريب في إن هذا النضال يستغرق اليوم كثيرا من نشاط السياستين البريطانية والإيطالية؛ وإذا كانت السياسة البريطانية تبدي كعادتها كثيراً من الأناة وضبط النفس، فإنها مع ذلك لا تخفي اهتمامها بحركات السياسة الإيطالية ومقارعتها. ولقد دللت إيطاليا الفاشستية في العامين الأخيرين على ما تجيش به من الأطماع المتوثبة والنزعات الاعتدائية ولاسيما ضد الإمبراطورية البريطانية؛ فغزو الحبشة والاستيلاء عليها بالعنف، يهدد مركز بريطانيا في السودان وفي شرق افريقية؛ وتحصين جزيرة بانتلاريا الواقعة بين طرابلس وصقلية يهدد مركز بريطانيا في مالطة، ومن ثم يهدد مواصلاتها الإمبراطورية في البحر الأبيض؛ ومد الطريق البري من طرابلس إلى الحدود المصرية يخفي وراءه غايات عسكرية اكثر مما يقصد إلى غايات سلمية وتجارية؛ ونشاط السياسة الإيطالية في المسالة الإسبانية هو مظهر آخر لتلك النزعة التي ترمي إلى تهديد إنكلترا في جميع النقط الحساسة من نفوذها الاستعماري أو سيادتها البحرية.

ولكن السياسة البريطانية مع ما تبدي من ضبط النفس لا تخفي أنها مصممة على سحق جميع هذه المحاولات الفاشستية والاحتفاظ بسيادتها في البحر الأبيض المتوسط، وتدعين نفوذها وسيادتها حيثما يقتضي الدفاع عن إمبراطوريتها الاستعمارية الشاسعة. والمسالة الإسبانية هي أول مظهر من مظاهر النضال بين السياستين؛ فكما أن رومة تحاول أن تدفع تدخلها في الحرب الأهلية الإسبانية إلى النهاية أو حتى يظفر الجنرال فرانكو وتقوم في إسبانيا حكومة فاشستية تخضع لنفوذ إيطاليا، فكذلك السياسة البريطانية تعمل على إحباط هذه المحاولة بتدعيم سياسة عدم التدخل، وعزل إيطاليا عن باقي الدول، وأظهرها بمظهر المعتدي المهدد لسلام القارة، وإنكلترا تفوز في هذه السياسة بتأييد فرنسا التي تخشى عواقب التدخل الفاشستي في إسبانيا مثل ما تخشاه إنكلترا، وتأييد روسيا السوفيتية التي تناصر الكتلة الديمقراطية، والتي تعاون إسبانيا الجمهورية على مقاومة الثورة الفاشستية منذ نشوبها. ومما يلاحظ أيضاً أن ألمانيا تبدي الآن فتورا ظاهرا في تأييد وجهة النظر الإيطالية مما يدل على أنها قد ملت التدخل في مغامرة لا تؤمن عواقبها؛ هذا إلى أن حوادث الحرب الإسبانية ذاتها تدل على أن الجبهة الثورية الفاشستية قد سرى إليها الضعف والوهن، فانتصارات الجمهوريين الأخيرة حول مدريد وفشل الثوار في جميع هجماتهم الأخيرة، وما أذيع من وقوع التمرد في بعض الوحدات الثورية في المغرب الإسباني، كل ذلك يؤذن بان مصاير الحرب الأهلية تتطور في صالح الجمهورية الإسبانية. ولنذكر أخيراً أن اتفاق عدم التدخل الذي وفقت الدول إلى عقده وتنظيمه، سينفذ بطريقة فعلية في أيام قلائل بحيث يغدو من المتعذر على أحد الفريقين المتحاربين أن يتلقى المدد من أي ناحية. وفي اعتقادنا أن الثورة الأسبانية التي قامت منذ الساعة الأولى بتحريض الفاشستية ومعاونتها المادية ستنهار عندئذ بسرعة، وتحسم هذه المعركة الطاحنة بفوز الديموقراطية الإسبانية، وبذلك يقضي على تلك العوامل الخطرة التي تلوح في الأفق منذ اشهر مهددة سلام أوربا، والتي كان لشهوات الفاشستية ودسائسها المضطرمة اكبر فضل في بعثها وتغذيتها.

(* * *)