مجلة الرسالة/العدد 198/حول مؤتمر الامتيازات

مجلة الرسالة/العدد 198/حول مؤتمر الامتيازات

ملاحظات: بتاريخ: 19 - 04 - 1937


منطق الواقع

مصر الآن أمام اثنتي عشرة دولة في (مونترو): تزيف الادعاء بالقانون. وتكفكف الغلواء بالحزم، وتكشف المغالطة بالحجة. وتقول للذين ظلموها وظلموا العدل: هأنذي أمامكم وجها لوجه، وعقلا لعقل، ولسانا للسان؛ أخاطبكم بلغاتكم كأنني منكم، وأجادلكم بعلومكم كأنني فيكم؛ فهل تجدونني أقل منكم فقها لفلسفة التشريع، وعلما بمدنية العدل، وفهما لسياسة الحكم؟ هاهم أولاء بعض أبنائي أوفدتهم إليكم يحملون كلمتي ويمثلون إرادتي؛ فهل رأيتم أروع خطابا من النحّاس، وأبرع برهانا من مكرم، وأقطع بيانا من ماهر؟ أليسوا هم حجتي العليا على أنكم تدافعون عن نظام لا يجد مساغاً من طبيعة الناس. ولا مساكاً من منطق الأشياء؟

لماذا تخشون أن يكون أمثال هؤلاء قضاة في ديارهم بين مجرميكم،

وهم يجرون مع أخياركم في عنان، ولا يتخلفون عن أقطابكم في

ميدان؟

لماذا تأبون أن يتساوى الوطني والأجنبي في الحق والواجب وأنتم ترون هذا النهر المبارك يضفي عليكم النعمة، ويميزكم على أبنائه في القسمة؟

ذلك ما تقوله مصر لخصومها (الممتازين) الذين احتشدوا في مونترو يفاوضونها في تنظيم العدوان، ويعارضونها في محو الإهانة. وهذا القول لا عيب فيه إلا اعتماده على الحق الذي زهق في دول أوربا. واستناده إلى المنطق الذي اختنق في كتب الفلاسفة. فلو أنه قيل على أسلوب الزمن الحاضر، وجرى على منهاج المنطق الحديث، لما قابله المكابرون إلا بالتصفيق. والمنطق الحديث منطق الفعل لا منطق القول. وإذا كان مدار المنطق الكلامي على القياس، فإن مدار المنطق العملي على الواقع؛ والواقع في قانون الطبيعة له سلطان الأمر الموجود وقوة الشيء المحكوم به؛ والمفاوضة فيه تختلف عن المفاوضة في النية المكتوبة والفكرة المقترحة.

كان بيننا وبين جيراننا في المزرعة حد جرى عليه الخلاف فلم يتم، فاختلط الحق بالحق ودخل من ملكنا في ملك الجار مقدار كبير. وفي الأسبوع الماضي ندبت الحكومة مهندسا يبين الحق المشتبه، ويعين الحد المجهول، فمسح الأرض ورد المأخوذ، ودق الحديدة وحرر المحضر، وأمضاه الجيران وفيهم العمدة. وكان الحد بين مزرعتين، ولكن الخلاف بين قريتين، فاتفقنا نحن وهم على أن نقيم الحد في اليوم التالي ونجعله مصفًى ومروًى بينهما طريق. ولكننا علمنا في الليل أنهم طمعوا فيها تحت أيديهم فلا يودون أن ينزلوا عنه. وتعليل هذا التحول يسير على من عرف غرائز الناس وخبر طبائع الريف. وفي الصباح الباكر كانت القرية فريقين: فريق الفأس والعمل وقد ذهب إلى المزرعة، وفريق المنطق والكلام وقد ذهب إلى القرية العنيدة. وانعقد مجلس القريتين في دار العمدة؛ ثم انطلقت الألسنة البليغة تتجاوب بالعواطف الشاعرة تجاوب البلابل في أعشاش الربيع. وكانت قوافي الأغاريد ترن موسيقاها بألفاظ الصداقة والود والمصاهرة والمجاورة والقانون والحق، فتطرب الآذان، وتهتز القلوب، وتشرق الأوجه.

فلما انتهينا إلى أن هناك حدا يجب أن يقام، وحقا يجب أن يُعطى، تكشر الوجه الضاحك وتنكر الصوت الرخيم، وانتفخت لغاديد الشر، فتهور بالكلام وتهدد بالمعارضة؛ وكان فيهم رجل رشيد، فكان يملأ الدلو من حين إلى حين ويفرغه على القوم فتقر الفورة ويهدأ الحديث. وفي فترة من تلك الفترات الساكنة، اقترح أن نجعل لجيراننا الطامعين أجلا متى حل وجب عليهم أن يردوا الحق من غير اعتراض ولا مطل. وارتاح القوم لهذا الحل لأنه يترك لهم العين ويأخذ منهم الأثر، ورضينا به نحن لأنه يحسم النزاع بين القريتين، ويذهب عن النفس المسالمة شعور الهزيمة.

وكان الخلاف أشد ما كان على مدة الأجل فبدأت بشهر وانتهت بخمسة. وكان الذين وضعوا أيديهم على الحق بالباطل أبسط لسانا في الرفض، وأصلب عوداً في القبول؛ أما نحن والقانون والحكومة فكان (ارتكازنا) على خلاء

كتبنا الاتفاق وأمضوه بعد وقفات طويلة على كل نص من نصوصه؛ ثم أخذنا نستعد لنشيد الختام في تمجيد الوئام والسلام، لولا رسول أقبل من الغيط يعلن إن رجال الفأس والكريك لم ينتظروا نتيجة المؤتمر. فحفروا المصفى، وشقوا المروى، وأقاموا الطريق، وحرثوا الأرض، وأنجزوا في ساعتين، ما لا ينجز في يومين.

كان هذا الحبر أضخم الدلاء التي صبت على المؤتمر، فشدهنا نحن، وخجلوا هم. وتذكر الجيران الأعزة حينئذ عواطف المصاهرة والمجاورة فقالوا: هذا هو الحق! ذلك ملككم وما ينبغي لأحد أن ينازعكم فيه!!

كان في قدرة مصر أن تتخذ سياسة الأمر الواقع، فتلغي بإرادتها المطلقة هذه المعرة التي ورثتها عن الترك كما يورث الزهري الإفرنجي عن الأب المريض. ولو أنها آثرت هذه الخطة لوجدت حجتها في القانون لا في القوة، ولكن مصر الكريمة المضيافة لا تزال تجري على أعراق آبائها الميامين فلا ترفع اليد ما دام يغنيها اللسان

على أن قوة الحق المصري، وقدرة المفاوض المصري، جعلتا القانون الأعزل أرفع صوتا من المدافع، وأبعد نفوذاً من القنابل. وأعجب العجب أن الأمم اللاتينية التي سايرت نهضتنا وعاشرت أمتنا قرناً وثلث قرن، كانت هي وحدها التي تجهل أن مصر دولة من دول البحر الأبيض لا أمة من أمم أفريقيا، وأن لها دينا سماويا يهدي إلى الحق، وتشريعاً مدنياً يرمي إلى الخير، وخلقاً شرقياً يدعو إلى المحبة، وأن رعاياها كانوا قبل الامتيازات وبعدها يتقلبون في خيرات النيل، ولا وزر لهم إلا أخلاق هذا الشعب النبيل

أحمد حسن الزيات