مجلة الرسالة/العدد 198/علي بك فوزي

مجلة الرسالة/العدد 198/علي بك فوزي

ملاحظات: بتاريخ: 19 - 04 - 1937



للأستاذ أحمد أمين

لم يتجل لي وفاء المصري وإخلاصه كما رأيته أول أمس في جنازة أستاذي وصديقي علي بك فوزي. فقد استقبل النعش في محطة مصر عدد كبير من أصدقائه وساروا في مشهده يعزي بعضهم بعضا إذ أبى الفقيد أن يكون له ولد ولا مال ولا جاه: فكان أول مشهد عظيم رأيته لله وحده وكان أنبل ما رأيت منظر أحمد باشا شفيق وقد تقدمت به السن وصعب عليه السير يتحامل على صديق، ويسير من المحطة إلى جامع الكخيا، ثم أسلم عليه وأسأله هل تعرف الفقيد فيقول: لا لم أره في حياته: ولكني سمعت بنبل أخلاقه فرأيت وفاء للفضيلة أن أسير في جنازته.

رحمة الله عليه، فقد كان أمة وحده، ولم أر له نظيراً في كل من عاشرت. ولئن كان أكثر الناس نسخاً متشابهة من كتاب تافه مطبوع، فقد كان نسخة خطية من كتاب قيم نادر. متمدن على آخر طراز من طراز المدنية في ملبسه وأناقته وآدابه ولباقته، متصوف إلى آخر حدود التصوف في زهادته واحتقاره للمال والجاه والمناصب. وفوق ذلك كله في روحانيته السامية.

لم يفخر في حياته بنسب؛ على أنه كان جديراً أن يفخر به لو وجد الفخار مدخلا إلى نفسه، فقد كان جد أبيه المملوك الشارد الذي قفز بفرسه من القلعة؛ وناهيك بعظمة المماليك أيام سطوتهم.

ولم يفخر بعلمه وهو الواسع العلم العميق التفكير؛ يجيد العربية إجادة قل أن يكون له فيها نظير؛ ويتكلم الإنجليزية كأحد أبنائها؛ ويحذق الفرنسية والألمانية والتركية. ثم لا ينظر إلى اللغات على أنها مقاصد بل على أنها وسائل للثقافة، فأتخذ هذه اللغات كلها أداة يتعرف بها الثقافات المختلفة ويقف على أحسن ما ألف فيها؛ هذا إلى ضحة في النقد وقوة في الملاحظة وشخصية بارزة لا تخضع لأي مؤلف مهما عظم. ومع هذا كله تجلس إليه إن لم تكن تعرفه فكأنه أمي غبي جاهل بكل شيء، فهو ذهب خالص غطى بقشرة من طين لا تعرفه حتى تحكه وتحكه وتصل إلى باطن نفسه؛ ولا يكون ذلك إلا لتلاميذه وخلصائه، وحتى مع هؤلاء يقدم إليك نتيجة معارفه الواسعة وتفكيره العميق وهو مختف وراء ذ يحاول ألا يشعرك بنفسه، وإنما يشعرك بالفكرة نفسها، فكأن كلمة (أنا) لم تكن في معجمه.

عرفته أول مرة أستاذاً لي بمدرسة القضاء يدرس لنا التاريخ الإسلامي؛ وتطاير إلينا قبل قدومه أخبار منثورة عن تاريخ حياته. إنه تخرج في مدرسة المعلمين، ثم سافر في بعثة إلى إنجلترا، ثم عاد منها بعد أن نال إجازة من جامعتها. وهي أوصاف لم نتحمس لها كثيراً. فكنا قد شاهدنا بعض من سافروا إلى أوربا ورجعوا بشهاداتهم الضخمة وألقابهم العديدة وكانوا كالبندقة الفارغة: منظر ولا مخبر، ورواء في العين، ولا شيء في اليدين؛ فقلنا لعله أحد أولئك الذين لم يكسبوا من أوربا إلا اعوجاجاً في اللسان ورطانة في الألفاظ وإنكاراً لعظمة أي شيء مصري، وعصبية لكل تافه أجنبي.

وحبسنا أنفاسنا عند قدومه نستطلع طلعته

دخل علينا رجل قصير القامة. يحاول أن يخفي قصره بطول طربوشه وارتفاع حذائه، أسمر اللون في وسامة، واسع العينين في خجل، كبير الرأس في عظمة.

يتأبط كتباً كثيرة العدد لا يتناسب حجمها مع حجمه بين عربية وإنجليزية، ويأبى أن يحملها الفراش عنه كما اعتدنا أن نرى من غيره.

وأكبر ما راعنا منه أنه بدأ درسه بعبارة عربية فصيحة التزمها في كل درسه، وفي كل دروسه بعد، وفي كل أحاديثه معنا في الدرس، لا أعرفه شذ عنها مرة واحدة، في طلاقة وعذوبة واستشهاد بالأدب العربي والشعر العربي، مما لم أعرفه لأزهري ولا لمدرس من دار العلوم. يجيد فهم عبارة الطبري على صعوبتها، وابن خلدون على عمقها، والكتب الإنجليزية العميقة. ويوضح ذلك كله بصياغة شهية لذيذة، ويطبعها كلها بالطابع العربي فلا تسمع لفظة إنجليزية، ولا تستعصي عليه عبارة يريد أن يترجمها من لغة أجنبية.

ومما زادنا إعظاماً له أنه لم يكتف بالدرس بل اتصل أيضا بنفوسنا. فكان يخرج من الدرس أحياناً إلى شرح حالة نفسية أو ظاهرة اجتماعية يصل بها إلى أعماق نفوسنا، وأخذنا بالنظام الشديد، وكان يقدسه كل التقديس، فيشمئز من الكلمة النابية ومن اللفظة تكتب منحرفة قليلا عن موضعها. ومن النكتة إن كان فيها قليل من الشذوذ.

ولا تسل عنه في ورق الامتحان، فقد كان يصحح أوراقنا في دقة غريبة، ويأتي بالأوراق مدونة فيها ملاحظاته في اللفظ والمعنى والأسلوب والخطأ الإملائي والخطأ التاريخي، وينتقدنا انتقاداً لاذعاً لكن طريفاً.

من أجل هذا كان الأستاذ المحبوب والأستاذ الجليل والأستاذ الظريف والأستاذ العالم.

لم تطل دراسته في مدرسة القضاء، وانتقل إلى وظيفة إدارية. ولم يطلب الانتقال لرغبة في مال فهو يحتقر المال، ولا في جاه فهو يحتقر الجاه، ولا رغبة عن التعليم فهو يحب التعليم ويصارحني أن أكبر غلطة أرتكبها أنه تحول من التعليم إلى الإدارة، ولكنه كان شديداً، وكان عاطف بك ناظر المدرسة شديداً، وكان لكل شخصيته القوية. ولكل آراؤه في سياسة الطلبة، فتصادما تصادماً نفسياً من غير أن ينبس أحدهما بكلمة؛ وكان أن خرج (علي فوزي) من المدرسة آسفين عليه كل الأسف شاعرين أنه لا يمكن أن يعوض، وكان (عاطف) أول من حزن على خروجه بعد أن حاول كل محاولة في استبقائه

وكان حساساً إلى درجة لا تتصور. تجرحه الكلمة الخفيفة لا يشعر بها أحد، والإشارة القليلة تصدر من رئيسه فيظنها بالغة منتهى الشدة، والإيماءة المعتادة فتحز في نفسه وتصل إلى أعماق قلبه.

فكيف يستطيع بعد أن يكون موظفاً؟ لقد تداول عليه وزراء عديدون لا أسميهم، كل منهم جرح نفسه جرحاً بل جروحاً. وأي الرؤساء يتحاشى حتى الهنات الهينات مع مرءوسيه؟ وأي الرؤساء يدرك مقدار السهام المسمومة التي يوجهها إلى نفس كنفس علي (فوزي) وهو لا يرى أنها سهام أصلا بل قد يظنها نوعا من الملاطفة؟ - لقد رآه وزير يكتب خطاباً بالإنجليزية فأعجبته بلاغته فقال له: لعلك تحسن أن تكتب مثل هذا بالعربية! فما كان أشدها وقعاً في نفسه.

ثم هو يعشق العدل المطلق الدقيق، ويؤلمه أشد الألم الظلم الخفيف. وكان كل يوم يرى تصرفات في الوزارات لا تتفق والعدالة التي ينشدها: هذا يحابي المتملقين، وهذا ينصر الأجانب على المصريين، وهذا يمنح ترقيات وعلاوات لغير المستحقين

ثم ما هذا النظام السخيف للدرجات؟ فهذا موظف في الدرجة الأولى وآخر في الدرجة الثانية! إنه يفهم أن يبدأ الموظف بمرتب صغير يزيد على القدم والكفاية، ولكنه لا يفهم تقسيم الموظفين إلى طبقات يعلو بعضها بعضا، ويدل بها بعضهم على بعض

لا. لا. ثارت نفسه على كل ذلك، ففي هدوء وسكون، ومن غير أن يشعر أحد من أصدقائه دبرّ أمره وأعد عدته للخروج من الوظائف الحكومية، وألح في طلب إحالته إلى المعاش، فكان له ذلك. ورضى بنحو خمسة وعشرين جنيها في الشهر على ثمانين وما كان يتبعها من علاوات وترقيات وحسبان معاشات

بل ليست الوظيفة وحدها هي التي يجب الفرار منها، بل يجب الفرار أيضا من مصر، فما مصر هذه التي يحكمها الأجنبي وتستسلم له؟ وما مصر التي يستمتع فيها صعاليك الأجانب بما لم يستمتع به سادة أهلها؟ وما مصر التي تجلس في مقهى من مقاهيها فتشعر أن الرومي الذي يقدم لك القهوة خير منك وأعز منك، ويستطيع أن يحتقرك وأن ينكل بك ولا تستطيع أن تفعل به ما يفعل بك؟ وما مصر التي لم تستطع أن تكون غنية في أطبائها وعلمائها وتجارها وصناعها ولم تزل عالة في كل ذلك على غيرها؟ لابد إذن من الهرب من الوظيفة ومن مصر معا

خرج من مصر ساخطاً غاضباً آسفاً حزيناً، خرج هائما على وجهه يمثل دور جده. لقد كان جده المملوك الشارد، فكان هو الحر الشارد

خرج إلى أوربا هائما في ممالكها، ولكنه كان فيها مستوحشا، نعم إنه يتكلم لغتها ويفهم مدنياتها ولكن ليس قومها قومه، ولا دينها دينه، ولا روحانياتها روحانياته. ثم ألقى عصاه في الأستانة عقب الحرب واطمأن إليها، فهي هي البلدة المستقلة بين ممالك البلاد الإسلامية؛ وهي هي التي لا تذلها الامتيازات الأجنبية؛ وهي التي يجد فيها غذاء روحه وعواطفه بمساجدها العظيمة ومآذنها التي تشق السحاب. من أجل هذا اختار السكن فيها، وفي الأحياء الوطنية لا الأجنبية، وأتخذ مجلسه في مقهى تركي بلدي تحت شجرة زيزفون بجور حائط مسجد با يزيد

ثم حاول أصدقاؤه جهدهم أن يحولوه عن رأيه ويعدلوا به عن غربته. فذهبت محاولتهم عبثا. عرضوا عليه وظائف مختلفة الألوان كان آخرها مدير دار الكتب. فكان جوابه: متى عرفتم سبب خروجي من الوظيفة وسبب خروجي من مصر لم تعرضوا هذا العرض؛ فالأصل قبل الفرع، والحرية مع الفقر خير من الذل مع الغنى

قد رزق عيناً يرى بها غير ما يرى جمهور الناس؛ فكثيراً ما كان يحتقر من يجله الناس. ويجل من يحتقره الناس، لأن له مقاييس في التقدير تختلف عن مقاييس الناس، ليس في مقاييسه اعتبار لثروة ولا جاه، ولا منظر، ولا حسب، ولا نسب.

حتى مكانه العام الذي كان يختاره لمقابلة أصدقائه لا يختاره لوجاهته، وإنما يختاره لنظافته، ولأن صاحبه مسلم، ولأنه يتنفس فيه جواً شرقيا لا غربيا، ولأنه ليس فيه امتيازات أجنبية، وهكذا من اعتبارات متعددة لم استطع أن أعرف منه إلا بعضها.

ويفضل أن يزور حلاقا كان زميلا له في المدرسة على أن يزور باشا من الباشوات أو من يعده الناس كبيراً من الكبراء

قد أعظمه في عيوننا صغر الدنيا في عينه؛ فليس للمال عنده إلا وظيفتان: قليله يتبلغ به ويسد حاجاته الضرورية، وكثيرة للمروءة. وأعرف له في ذلك فصولا غاية في السمو، فقد كان حيناً يسكن في أسرة أوربية عميدها فرنسي، وربة الدار ألمانية ولهما ابن وبنت، حتى إذا نشبت الحرب العظمى جند عميد الأسرة، فأحلت الأسرة فقيدنا محله على رأس المائدة.

وكان كثيراً ما يدور الجدال على المائدة في نظريات الحرب وخصوصا الفتى والفتاة، فكان الفتى يذهب مذهب أبيه ويتعصب لفرنسا وحلفائها، والبنت تذهب مذهب أمها وتتعصب لألمانيا وحلفائها؛ ثم كان من الفتى أن طعن تركيا في سمعتها وقيمتها، ولم يكن يعرف عصبية الفقيد لتركيا، فلم يعد علي فوزي يطيق البقاء بعد في البيت، ولكن ماذا يصنع ووفاؤه يقضي بمراعاة هذه الأسرة بعد غياب عميدها، وعصبيته التركية تأبى أن يسكن في البيت بعد ما كان من الفتى؟ لا يحل هذا الإشكال إلا احتقار المال. فقد تظاهر بأنه يأخذ درسا على السيدة الألمانية ودفع ما كان يدفع أيام سكناه لم ينقص منه شيئاً وإن قلل ذهابه بعد ذلك لأخذ الدرس.

وكان منظره في استانبول غريبا: يجلس في مقهى عرفه البؤساء والمحتاجون فهو يمنحهم ما أمكنه وهو الفقير الذي لا دخل له إلا معاشه الخمسة والعشرون جنيها، ينفق منها ثلثها على نفسه وثلثيها على مروءته، وطويل أن نعد مآثره في هذا الباب

أحب العزلة وأكثر التفكير. فهو في بيته وحده، إذ لا زوجة له ولا ولد. وفي تروضه وحده غالبا؛ هو وحده في أكثر أوقاته، صديقه الكتاب، ثم ضعفت أعصابه ففقد صداقة الكتاب أيضاً إلا نادراً، وكان تفكيره في العالم حيناً وفي نفسه كثيراً

وهذه حالة تستتبع الوحشة وتستتبع التشاؤم، وتستتبع الحزن والانقباض، وكذلك كان شأنه غلب عليه الخجل في غلو، والخجل - كما يقول بعض علماء النفس - سببه كثرة تفكير الإنسان في نفسه، فهو إذا مشى ظن أن الناس كلهم ينظرون إليه وينقدون مشيته؛ وإذا تكلم ظن أن الناس كلهم ينصتون إليه وينقدون كلامه؛ وإذا تحرك أو سكن أو تنفس فالناس يعدون حركاته وسكناه وأنفاسه؛ فكان هذا الخلق فيه أكثر شقائه. وبلغت به الحالة أن كان في آخر أيامه إذا جلس في مقهى اختار مكانه وراء عمود، وإذا سكن في (بنسيون) صحا قبل أن يصحو الناس وعاد بعد أن ينام الناس حتى لا يراه الناس: وإذا عزم على الرياضة فليلا حتى تستره ظلمة الليل، وإذا مشى في الشارع ليلا اختار من الشوارع أخلاها من الناس.

تملكه خلق الرحمة فظهر منه في كل شيء: رحم الناس فخرج لهم عن ماله. ورحم المرأة فأبى أن يتزوج، ورحم الحيوان فعاش نباتيا. وأخيراً رحم نفسه. وويل للإنسان إذا رحم نفسه وأشفق عليها! إنه ليعذب في ذلك عذاباً لا يعذبه أحد. نعمة كبرى أن يرحم الإنسان غيره، وشقوة كبرى أن يرحم الإنسان نفسه، فالرحمة استضعاف للمرحوم، فإذا استضعف نفسه فهناك الألم وهناك والحسرة، وهناك فقدان الثقة بالنفس، وهناك انسحاب من الجهاد في الحياة، وهل الحياة إلا جهاد؟

رحم الله (علي فوزي) فقد عاش غريبا، ومات غريبا، وأخشى أن يبعث غريبا

أحمد أمين