مجلة الرسالة/العدد 199/الفلسفة الشرقية

مجلة الرسالة/العدد 199/الفلسفة الشرقية

ملاحظات: بتاريخ: 26 - 04 - 1937



بحوث تحليلية

بقلم الدكتور محمد غلاب

أستاذ الفلسفة بكلية أصول الدين

- 2 -

الديانة المصرية

يجمع الباحثون على أن الديانة المصرية هي أولى الديانات البشرية التي ظهرت على وجه الأرض من غير استثناء. ويؤكد بعضهم تأكيداً قاطعاً بأنه لم تظهر ديانة في الدنيا إلا ولها في عقائد وادي النيل عنصر، وإن كل الديانات الإنسانية ليست إلا فتاتاً متساقطا حول مائدة بلاد الفراعنة الذين سبقوا جميع سكان الكرة الأرضية إلى حمل لواء المعرفة وفتح كثير من مغلقات العالم وحل الغاز الكون. ومن أشهر العلماء الذين يعتنقون هذه الفكرة العالمان الإنجليزيان: (بري) و (أليوث سميث). أما الأستاذ (دينيس سورا) فيؤمن بالفكرة الأولى وهي سابقية الديانة المصرية على جميع الديانات الإنسانية، ولا يستبعد أن تكون جميع التطورات الدينية قد وجدت في مصر من الوثنية المحضة إلى الروحية المغالية في التجردية، بل إلى (اللأدرية) المطلقة، ولكن الذي يعارض فيه هو أن بقية الشعوب القديمة قد تغذت من تساقط فتات المائدة المصرية، كما يقول بعض العلماء؛ وبراهينه في هذه المعارضة هي:

أولاً: أنه لم يثبت عن المصريين أنهم بعثوا بعثات إلى البلاد الأجنبية للتبشير بدياناتهم حتى انتشرت بين ربوع تلك الأمم.

ثانياً: أن الآثار المصرية التي يعتمد عليها العلماء في حكمهم هذا لا تؤيدهم في دعواهم إذا تأملوا في الأمر تأملا دقيقا، لأنها ليست إلا رموزا وطلاسم قصد بها كاتبوها غايات دينية محضة لا تسجيل حقائق علمية ولا إذاعة أسرار الدين وإبانة تطوراته المختلفة. وإذاً، فلا يمكننا أن نعتمد على تلك الآثار في حكمنا، وفوق ذلك فإن أسرار العقيدة المصرية الأصلية لم تذع بين أفراد الشعب إلا في عصور التدهور أي حوالي القرن السادس قبل المسيح.

وبناء على هذا يكون العامة - وهم الذين يحتكون بالأجانب في المعاملات - قد ظلوا جاهلين بحقيقة هذه الديانة حتى القرن السادس أي بعد ظهور كثير من الديانات الشرقية. وبهذا ينتفي تأثير الديانة المصرية على تلك الديانات.

ولا ريب أن البرهان الأول في رأينا برهان ضعيف، لأن الديانة كما تنتشر بواسطة المبعوثين المختصين، تنتشر كذلك عن طريق الاحتكاكات التجارية والسياسية والاجتماعية، ولا جرم أن هذا كان موجوداً وثابتاً الثبات كله. أما إدعاء أصحاب هذا الرأي جهل الشعب بالعقائد المصرية حتى القرن السادس فهو غير صحيح، لأن الأدب المصري - وهو مرآة الحياة الاجتماعية بما تحتويه من دين وأخلاق وغيرهما - قد أنبأنا في مواضع تجل عن الحصر بكثير من أسرار العقيدة. أضف إلى هذا أن الرسوم والنقوش التي تكتظ بها المعابد تذيع أكثر هذه الأسرار الدينية، وليس سرا ما يعلمه الكهنة والأمراء، ورجال البلاط، وكبار الموظفين، والرسامون والعمال. على أنه إذا جازت سرية ما لدى هؤلاء جميعاً - وهي بعيدة - فلا تجوز سرية ما لدى الأدباء والكتاب الذين افعموا أسفارهم بوصف هذه المعلومات بأسلوب ضاف مسهب. وإذا فالأرجح - أن لم يكن مؤكدا - أن جميع الأمم القديمة من غير استثناء هي تلميذات مصر في الدين كما هي تلميذاتها في العلم والأدب والفن.

غير أنه بالرغم من صحة هذه النظريات القائلة بأخذ الأمم الشرقية دياناتها عن مصر في نظرنا يجب علينا أن نخطو إلى إثباتها خطوات حذرة متبصرة تأتلف مع تلك المعلومات البسيطة التي اكتشفها المستمصرون، منتظرين ما تأتي به المكتشفات المقبلة عن هذه الأمة العريقة التي سمى العلماء بلادها بحق: (أرض الأسرار والعجائب).

قداسة الحيوان وأسبابها عند المصريين

رأى علماء أوروبا في العصور الحديثة، الآثار المصرية مكتظة بالحيوانات المقدسة، ورأوا كذلك بعض الشعوب البربرية المتوحشة في جنوب أفريقيا وفي أطراف أسيا وأمريكا تقدس الحيوانات في هذا العصر الذي نعيش فيه تقديسا لا يقل عن تقديس المصريين إياها في العصور الغابرة، فانخدعوا بهذه المشابهة السطحية وتوهموا أن تقديس المصريين القدماء للحيوانات هو من نوع تقديس المعاصرين المتوحشين لها، وحسبوا أن التقديس المصري هو: توتيميسم، وهي كلمة تدل على قداسة الحيوان الناشئة عن اعتقاد القبيلة في قرابتها أو صلتها الوثيقة بهذا الحيوان، وهذا (التوتيميسم) موجود حقاً عند المتوحشين العصريين ولاسيما في أطراف أمريكا. وقد عني العلماء باستبطان دواخل هؤلاء المتوحشين، فسألوهم عن هذه الحيوانات المقدسة فأجاب البعض بأنها أجدادهم الأولون، وأنهم حين يقدسون هذه الحيوانات لا يزيدون على أنهم يجلون عنصرهم الأول ويحترمون دماء أسلافهم التي تجري في عروق هذه الحيوانات. ورد البعض الآخر بأنها أقارب أجدادهم، وأكد البعض الثالث أنها من خلفاء أولئك الأجواد، وأعلن الرابع أن الحيوان المقدس عنده إنما هو إله قبيلة.

وقد شاهد العلماء أيضا في بعض الجهات المتوحشة القبيلة تنقسم إلى أربعة بطون: البطن الأول يقدس الكلب، وهو جده الأعلى، والثاني يقدس الخنزير. وهو عنصره الأول. والثالث يقدس الوزغ، وهو مبدؤه الأساسي. والرابع يقدس التمساح، وهو رأس الأسرة الأولى من هذا البطن.

فلما رأى العلماء هذا التقديس للحيوان عند الشعوب المتوحشة ورأوه عند المصريين الغابرين، جزموا بأن أولئك وهؤلاء متشابهون في عقيدتهم وتقديسهم لا يفرق بينهم إلا هذه العصور المترامية الأطراف

وقد أفاض بعض هؤلاء العلماء في هذه الموازنة إفاضة أنزلت أراءهم منزلة خيال الشعراء وأحلام النائمين. وأبرز هؤلاء العلماء الحالمين هو الأستاذ (فرازير) الإنجليزي مؤلف كتاب (الغصن الذهبي)

وقد عارض كثير من العلماء الأدقاء في هذه المشابهة معارضة شديدة وصرحوا بأنها تنقصها الأسانيد العلمية التي يعتمد عليها من ناحية، وبأنها غير متناسقة الجزئيات من ناحية أخرى، واستدلوا بأدلة على أن منشأ تقديس الحيوانات عند المصريين ليس هو (التوتيميسم) وإنما هو سبب آخر سنذكره هنا. وإليك شيئا من هذه الأدلة:

(1) أن المصريين القدماء كانوا يبيحون زواج الأخ من أخته مع أن جميع قبائل التوتيميسم تعد هذا العمل أكبر جرائمها التي تستوجب السخط والغضب، بل أنها مجمعة من غير شذوذ واحد منها على أن زواج الرجل بامرأة من البطن الذي هو منه محرم، وهذا خلاف واضح يجعل المشابهة بعيدة كل البعد

(2) أنه قد عثر على كثير من القبائل المتوحشة تجهل (التوتيميسم) جهلا تاما ولا تنظر إلى الحيوان إلا بمثل الإغضاء والإهمال الذين ينظر بهما إليه أرقى المتمدنين العصريين

(3) إن المصريين القدماء كانوا يعتقدون أن عنصرهم هو السماء فلا يمكن أن ينتسبوا إلى الإنسان العادي فضلا عن الحيوان

(4) أنهم صرحوا في عدة مواضع من آثارهم بأسباب تقديسهم لتلك الحيوانات، ولا يمت أي واحد من هذه الأسباب بصلة إلى تسلسلهم من الحيوان. وإذاً، فلا يمكن أن نسمي تقديس المصريين للحيوان: (توتيميسم) إلا إذا خرجنا بهذه الكلمة عن معناها الأصلي، وجعلناها مرادفة للتقديس فحسب بل مرادفتها للتقديس الناشئ عن البنوة أو القرابة. على أن الذين يوافقون من المستمصرين على تسمية تقديس المصريين للحيوان (توتيميسم) يجمعون على قصر هذه (التوتيميسمية) على عصور ما قبل التاريخ كما يجمعون على وجوب فصل عقائد تلك العصور (التوتيميسمية) عن عقائد العصور التاريخية الراقية.

أما منشأ هذه القداسة فهو يرجع - في رأي العلماء المحققين - إلى أنه قد حدثت حروب بين القبائل المصرية في عصور ما قبل التاريخ تجلت عن انتصار بعض هذه القبائل وانهزام البعض الآخر، فرمز المنتصرون لبلادهم ببعض الحيوانات القوية ولقرى خصومهم المنهزمين ببعض الحيوانات الضعيفة، فبقيت هذه الرموز دالة على معانيها ردحاً من الزمن ثم تعاقبت الأجيال فنسيت الأسباب الأولى وبقيت أسماء تلك الحيوانات عالقة بهاتيك القرى ورامزة لها في شكل خفي غامض. ولما كانت النفوس البشرية مجبولة على تقديس ما تجهله فقد قدست مصر تلك الحيوانات دون تفريق بين قويها وضعيفها.

ولما ارتقت مصر نوعاً، ونظمت بلادها وقسمتها إلى مقاطعات وأنشأ سكان كل مقاطعة على حدة راية خاصة بهم ظل بعض تلك الرموز القديمة باقياً ونقش كل منها على مقاطعته، كما اختفى البعض الآخر الذي لأمر ما لم يصلح للحياة، ولكن ذلك البعض الذي بقي لم يظل جامداً على راية حاله الأولى، وإنما تطور انسجاماً مع المدينة الحديثة مثل البازي الذي كان في عصور ما قبل التاريخ رمزاً لأحد الانتصارات الغابرة ثم أصبح في العصور التاريخية رمزاً للإله (هوروس) إله القوة والخير والبركة، وكالبقرة التي كانت كذلك في العصور الأولى رمزاً لأحد تلك الانتصارات التي سجلت على القرية المنهزمة ضعفها، فرمز إليها بحيوان صغير كالتمساح مثلاً ثم أصبح رمز البقرة رمزاً للإله (هاتور).

ومع طول الزمن اندمج بعض المقاطعات في البعض الآخر وأصبح الكثير منها تحت إمرة إله واحد كما حدث في الماضي أن أصبح المنهزم تحت إمرة المنتصر، وهذا هو مأتى تقديس الحيوانات في مصر القديمة.

(يتبع)

محمد غلاب