مجلة الرسالة/العدد 199/سر مجهول في تحريم لحم الخنزير

مجلة الرسالة/العدد 199/سر مجهول في تحريم لحم الخنزير

ملاحظات: بتاريخ: 26 - 04 - 1937



للأستاذ عبد المتعال الصعيدي

في التشريع الإسلامي أسرار لا يعلمها إلا من طهر الله قلوبهم لحكمته، وألهمها من العلم ما لا يقاس به شيء عندها. وقد كان الناس يظنون أن الحكمة في تحريم لحم الخنزير تعبدية إلى أن أخذوا في هذا العصر يلتمسون حكم التشريع، ويعنون بالبحث عن فوائده ومزاياه؛ فحينما بحثوا في حكمة تحريم لحم الخنزير ظنوا أنه استثناء من أصل أحل لحمه، فأخذوا يبحثون في تحريمه عن حكمة خاصة به. وقد ذكروا من ذلك أن الخنزير يصاب في كثير من الأحيان بديدان تنتقل منه إلى من يأكل لحمه، وتتربى في جسده، فتكون منها الدودة الوحيدة الخطيرة؛ وذكروا أيضاً أن في الخنزير ديداناً أخرى تتربى في لحمه يقال لها (تريشين)، ومن عادتها أن تكون محاطة بكيس ينتهي أمره بأن يتحجر فتموت تلك الدودة فيه، ولكن هذا لا يكون إلا بعد أن تلد ألوفاً لا تحصى من الديدان، وكل دودة منها ينتهي أمرها إلى مثل ما انتهى إليه أمر الدودة الأولى، فإذا أكل الإنسان لحم الخنزير نزلت هذه الأكياس الحجرية الحاوية لهذه الديدان إلى معدته، وذابت فيها بتأثير العصارة المعدية، فتخرج منها ديدانها وتتكاثر في جسمه وتسكن في لحمه، وهذا من أقبح الأمراض وأشنعها وناهيك بمرض يكون فيه لحم الإنسان كله مساكن لتلك الديدان المؤذية.

وقد يكون هذا من ضمن الأسباب التي حرم الله بها لحم الخنزير، وإن كان لا يوجد له نظير فيما حرم الله أكله علينا؛ ولكن يبقى بعد هذا أن يقال: هل حرم الله علينا الخنزير لأنه خنزير، أو لأنه من جنس السباع التي حرم علينا أكلها لحكمة عظيمة سنبينها؟ ولقد سألني بعض المخالفين منذ سنين عن الحكمة في تحريم الإسلام لحم الخنزير، فأجبته بأن الله حرمه لأنه سبع من السباع، ثم ذكرت له الحكمة في تحريم لحمها. فسكت سكوت المفحم أو المقتنع، ولم يعقب على كلامي بكلمة تبين لي حقيقة أمره، فاكتفيت منه بذلك وتركته، وهأنذا أفصل هنا ما أجملته في جوابي له:

روي عن أبي هريرة رضي الله عنه النبي صلى الله علية وسلم قال: كل ذي ناب من السباع فأكله حرام. فهذا الحديث يدل على تحريم ما له ناب من السباع، والناب هو السن خلف الرباعية، كما جاء في القاموس، والسبع هو المفترس من الحيوان كما جاء القاموس أيضاً. وجاء فيه أن الافتراس الاصطياد. وجاء في كتاب النهاية لابن الأثير أن السبع هو ما يفترس الحيوان ويأكله قهرا وقسرا، كالأسد والذئب والنمر ونحوهما. وقال أبو حنيفة: كل ما أكل اللحم فهو سبع، حتى الفيل والضبع واليربوع عنده من السباع، وكذلك السنور. وقال الشافعي: السباع المحرمة هي التي تعدو على الناس كالأسد والنمر والذئب، أما الذي لا يعدو منها على الناس فهو حلال، كالضبع والثعلب

فإذا أردنا بعد هذا أن نعرف أمر الخنزير في ذلك وجب أن نرجع إلى ما كتب في علم الحيوان عنه. وقد جاء في كتاب حياة الحيوان للدميري أن الخنزير يشترك بين البهيمة والسبعية، ففيه من السبع الناب وأكل الجيف، ومن البهيم الظلف وأكل العشب والعلف. ويقال أنه ليس لشيء من ذوات الأنياب ما للخنزير من القوة في نابه، حتى أنه يضرب به صاحب السيف والرمح فيقطع كل ما لاقى من جسده من عظم وعصب

وجاء في دائرة معارف البستاني أن الخنزير يمتاز بقوة أنيابه المعوجة، وإن منها نابين في الفك الأعلى ونابين في الفك الأسفل يقدر أن يجرح بها جراحاً غائرة، وهو في الغالب يضرب بها الأماكن الرخوة عند الهجوم عليه، كبطن الفرس والإنسان ونحوهما، وقيل أنه يتغلب أحياناً بأنيابه على الأسد

ثم ذكر أن الخنازير الآبدة أقوى وأضخم من الخنازير المستأنسة، وأنها أشرس منها طباعا، وأعظم أنيابا، وإنها تصطاد بالحمل عليها وهي في كهوفها، وبنصب الفخاخ لها ونحو ذلك، وقد تطارد بالكلاب إلى تقف مصادمة مطارديها، ويكون وقوفها عند رجلي الفرس، وكثيراً ما تتمكن من جرحه في ساقيه بنابيها المخيفين، وقد تأتي إلى جنب الفرس وتطعنه بنابيها في بطنه فتشقه قبل أن يتمكن منها راكبه، وبعض الخنازير في أمريكا إذا حمل إنسان أو وحش على القطيع منها يقف على شكل دائرة، ويدفع بأسنانه الحادة هجمات العدو عليه، وإن كان النمر الأمريكي المشهور بالقوة، وكثيرا ما تقتل هذه الخنازير الكلاب التي تستعمل في صيدها، وكثيراً ما تقتل صيادها أو تجرحه، وكثيراً ما تجاهر الناس العداء بشجاعة لا مزيد عليها، فحمل على الإنسان بدون أن يغيظها، إذا رأت كلباً غير متعود صيدها تحيط به حالاً وتقتله، وهي على العموم شديدة البأس، كثيرة الحمق

وقد ذكر أيضا أن للخنزير ستة أضراس أو سبعة في كل جانب من جوانبه، وأن الأمامية منها تشبه أضراس آكلة اللحوم، أما الخلفية فتشبه أضراس الإنسان، وهذا يدل على أنه يأكل النبات واللحم

وكذلك ذكر الأستاذ أحمد ندى في كتابه (الحجج البينات في علم الحيوانات) أن الخنزير يسكن الغابات ويتغذى فيها بالجذور والثمار، ولكنه إذا فقد هذا الغذاء يصير آكل لحوم، فيفترس الحيوانات الحية، ويأكل من لحومها

وينقسم الخنزير إلى قسمين: خنزير بري وخنزير بحري. ومن الخنزير البحري نوع يسمى عند الفرنجة (بيروسا) أو الخنزير الملاسمي، ويوجد في جزائر الهند الشرقية، وهو شرس الطباع كالخنزير البري، قادر على السباحة طويلا. وقد ذكر الدميري في كتابه (حياة الحيوان) أن الخنزير البحري هو الدلفين على المشهور، وقد سئل مالك عنه فقال: أنتم تسمونه خنزيراً، يعني أن العرب لا تسميه بذلك، لأنه لا تعرف في البحر خنزيرا

(للبحث بقية)

عبد المتعال الصعيدي

المدرس بالقسم العام بمعهد طنطا