مجلة الرسالة/العدد 199/حيرة العقل

مجلة الرسالة/العدد 199/حيرة العقل

ملاحظات: بتاريخ: 26 - 04 - 1937



للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني

أراني في هذه الأيام لا أكاد أعرف لي رأياً في شئ، لا لأني كففت عن التفكير فلعل الأمر على خلاف ذلك، وعسى أن أكون مسرفاً في النظر والتدبر وفي التماس الوجوه المختلفة للأمر الواحد الذي يعرض لي، وإنما ترجع حيرتي إلى أن إطالة النظر تكشف لي كل يوم عن جديد، وإلى أن تدبر النواحي المختلفة تجعل الجزم عسيراً، وتغري بالتردد، وتدفع إلى الشك، ومن طال وزنه للأمور وتقصيه لوجوهها وتأمله في البواعث والاحتمالات قل بته - وعمله أيضاً - لأن العمل يراد منه الغاية، فلابد من المجازفة والتعرض لعواقب الخطأ من بعض النواحي. وكل رجل عمل يضطر إلى الأخذ بالأرجح فيما يرى، وإلا تعذر عليه العمل بل استحال.

ورجال الحرب والسياسة والمال والتجارة ومن إليهم لا يسعهم إلا المخاطرة لأن غايتهم ليست الاهتداء إلى الحقيقة بل بلوغ الغرض. وكثيراً ما أراني اسأل نفسي لفرط ما أرى من ترددي وحيرتي، (هل أصبحت غير صالح للعمل؟) ولا يسرني ذلك فأروح أقول إن قدرة النفس على التكييف لا حد لها فيما أعرف، وإن العمل الذي يحوج إلى سرعة البت والجزم بلا تردد يضطر المرء إلى النزول على مقتضياته، وما أكثر ما تكون مواهب الإنسان كامنة، فلا يظهرها إلا انتقال الأحوال به، وأنا مع طول ترددي بين الآراء أراني مع ذلك أتصرف في مواقف العمل بسرعة وضبط وإحكام. وليس هذا من الثناء على النفس، ولكنه من الواقع الذي أعرفه بالتجربة

ومن طول حيرتي بين الآراء أصبحت أثق بخطأي ولا أثق بصوابي، وأقدر الضلال في كل ما انتهى إليه، ولا أطمئن إلى السداد فيه، ومن أجل ذلك لا أزال أراجع نفسي في كل قضية، وأنقض اليوم ما أبرمت بالأمس، ولولا أني معجل في حياتي لكان الأرجح أن أحجم عن المجاهرة برأي مخافة أن أكون قد أخطأت الصواب فيه. وأنا أعزي نفسي - لو أن في هذا عزا - بقول ويندل هولمز - على ما أذكر - إن الحقيقة (كزهر) النرد لها أكثر من وجه واحد، فإذا كنت قد رأيت وجهاً واحداً دون سائر الوجوه فإن لي العذر إذا كان هذا كل ما بدا لي، وأين في الناس من يرى وجوه الحقيقة كلها من كل جانب؟؟ ولهذه الحيرة عللها المعقولة فأنا قد ورثت آراء، وأفدت من مخالطة الناس أراء، واكتسبت من الاطلاع آراء، وكنت أسلم بما ورثت واكتسبت، وأنا في سن التحصيل، وكنت ربما كابرت بالخلاف فيما أخذته من بيئتي، أما ما كنت أفيده من الكتب فكنت أتلقاه بالإكبار والإقرار، لأني لم أجد من يهديني أو يرشدني. فلا البيت كان لي فيه هذا المعين، ولا المدرسة كنت أجد فيها هذا المعلم الحاذق المرشد. وظل احترامي للكتب على حاله حتى احتجت في سنة أن أبيعها، وشق علي ذلك في أول الأمر، وكنت لا أكاد أطيق أن أدخل الغرفة التي كانت مرصوصة فيها. وظللت أياماً أحس كلما نظرت إلى الرفوف التي خلت مما كان عليها أني فقدت أقرب الناس إلي وأعزهم علي، وأشعر أني مشف على البكاء إذا لم أحول عيني عن هذه الرفوف الخالية. ولم يكن ما أتحسر عليه زينتها، وما أضعته فيها من مال خسرته بالبيع، وإنما كانت الحسرة على فقدان أساتذتي وإخواني. وبقيت بعد ذلك زمناً لا أمر بمكتبة عامة إلا أشحت بوجهي عنها من فرط الألم، وإلا أحسست أن يداً عنيفة تلوي أحشائي وتحاول أن تقتلعها. وكان من غرائب ما حدث أني لبثت أكثر من سنة لا أقتني شيئاً من الكتب كأنما زهدتني الحسرة على ما ضيعت في كل جديد غيره

ومن الغريب أن هذا هو نفس الإحساس الذي عانيته لما توفيت زوجتي، فقد ظللت سنوات لا أطيق أن أنظر إلى امرأة، ثم فتر الألم وخفت وطأته، كما هي العادة. وكنت في خلال ذلك قد احتجت أن أنظر بعيني وأفكر بعقلي فألفيتني أشك في كثير من مما كنت أسلم به ولا أكابر فيه بل ما كان لا يخطر لي أن أعترض عليه، وتغير الأمر، فبعد أن كنت أخذ الآراء من الكتب أو الناس، صرت آخذها من الحياة بلا واسطة، وأعرضها على عقلي بلا مؤثر فاعتدت الاستقلال في النظر، والحرية في التفكير، وخلا تفكيري وإحساسي شيئاً فشيئاً من تأثير الكتب، وسواها، وبرزت نفسي بعد طول التضاؤل؛ ثم أخذت أروض نفسي على التماس الجوانب الأخرى التي تخفى في العادة، فصارت وجوه الحقيقة تتعدد فيما أرى، وألفت ذلك حتى صار هذا ديدني مع الناس، فإذا رأيت من صاحب لي ما يسوءني حاولت أن أضع نفسي في مكانه وأن أنظر إلى الأمر بعينه هو، وأن أتمثل بواعثه واحساساته إلى آخر ذلك، فينتهي الأمر في الأغلب بأن أعذر ولا ألوم، ويذهب الألم أو الغضب أو غير ذلك مما أثار صاحبي بما يصنع.

بل ترقيت من هذا إلى ما هو أرفع، فصار نظري إلى الناس نظراً إلى مادة تدرس لا إلى مخلوقات تعاشر ويصدر عنها ما يسوء أو يسر، ولا شك أن الفعل الحميد يحسن وقعه في النفس، وأن السوء يؤلم أو يغضب، وليس يسعني إلا أن أتلقى ما يكون من الناس بالحمد أو الذم، وبالرضى أو السخط؛ ولست بإنسان إذا لم يكن هذا شأني، ولكني أعني أني لا أعجل بالذم والسخط ولا أندفع مع أول الخاطر، بل أراجع نفسي وأجيل عيني في الأمر لأراه من ناحية غير الناحية التي طالعتني في البداية، فيتحول الموضوع من عمل أو قول باعث على الرضا أو الامتعاض إلى مادة للتفكير، وتذهب عنه الصبغة الشخصية، فكأني أمتحن نظرية ولست أزن صنع إنسان أساء أو أحسن.

ويخيل إلى الآن أني أعيش في معمل، فكل ما ألقاه في الحياة من خير وشر، وما اجدني أو أجد سواي فيه، من جد ولهو، أتناوله بالتحليل والبحث لأستخلص منه ما يتيسر لي استخلاصه من الحقائق، ثم أروح أقيسه إلى تجاربي الأخرى وأقارن وأقابل، ولا أزال أفعل ذلك حتى يهدني التعب، وقلما أهتدي، وكثيراً ما أضل، ولكني لا أسأم ولا أضجر لأن هذا صار متعتي النفسية التي لا أعدل بها متع الدنيا، بعد أن وجدت نفسي، وعثرت عليها تحت طبقات الكتب التي بعتها والحمد لله على ما كنت أتوجع وأذم الدنيا من أجله، فلولا أني بعت هذه الكتب لما وجدت نفسي، ولكان الأرجح أن أظل كالذي يعبد أصناماً.

والشك حيرة ولكنه حرية، وسعة الأفق خير من ضيقه، على الرغم من العناء الذي يكابده المرء من إرسال العين وإدارتها في النواحي الخفية أو البعيدة، وإنه لعذاب، وإن جدواه لقليلة، بالقياس إلى الجهد الذي يبذل فيه، ولكنه خير وأمتع من التحجر الذي يؤدي إليه التسليم، بلا نظر، وحسبك من متعته أنه يريك كل يوم جديداً، وقد يكون ما تهتدي إليه وتحسبه جديداً، قديماً جداً في الحقيقة ولكن المتعة في الجهد نفسه لا في النتيجة، والشأن في هذا كالشأن في الألعاب الرياضية فإن الغاية منها ليست الغلبة أو التفوق أو غير ذلك مما يجري هذا المجرى، وإنما العبرة فيها بما تفيده من التدريب وما تكسبه بفضل الجهد الذي تنفقه فيها، ولذتها في مزاولتها لا فيما تنتهي به من الفوز وإن كان للفوز قيمته ومزيته، ولكنه ليس كل ما تزاول الألعاب من أجله

ومتى صار كل شيء مادة للدرس والبحث فقد صارت الحياة أوسع وأرحب، وصار المرء كأنه يحلق فوقها وإن كان يخوضها ويعانيها، وهذا ما أروض عليه نفسي الآن أن أكابد الحياة والناس، وأن يسعني مع ذلك أن أقف منها ومنهم موقف الناظر المتفرج، فكأني اثنان لا واحد، أحدهما يعيش ويجرب، ويسعد ويشقى، ويسر ويحزن، ويجد ويهزل، ويفعل ما يفعل الناس غيره؛ وثانيهما يتلقى هذه التجارب وينشرها أمامه، ويعرضها على عقله، ويقارنها ويقابلها، ويفحصها ويضم المتشاكل منها بعضه إلى بعض، ويجمع ما يمكن أن يأتلف، ويعمل خياله فيما يراه ناقصاً ليملأ الفراغ ويسد الثغرة، ويصنع على العموم ما يصنع الكيميائي في معمله الذي يجري فيه تجاربه، ولا يتأثر بالواقع، ولا يعنيه ما عانى منه، وهذا الازدواج عسير ولا شك، ولست أطمع أن أبلغ منه الغاية وأوفي على الأمد، ولكني أطمع أن أوفق في بابه إلى الكفاية مع المواظبة والصبر، ويطمعني في النجاح أن كل إنسان له أكثر من شخصية واحدة وإن كان لا يدري ذلك.

ويثقل على نفسي خاطر واحد يكاد يصدني عن المواظبة، هو ما جدوى ذلك كله؟. . ما آخر هذا العناء الذي أراه باطلا؟. آخر ذلك كله معروف. وهل ثم من آخر سوى الفناء؟. ولكني أعود فأقول لنفسي إن هذا الآخر لا آخر سواه، سواء أبذل المرء الجهد، أم قعد عنه وضن به، فلا فائدة من التقصير، ولا ضير من السعي. والحياة أن تحيا، لا أن تجمد وتركد وتأسن. أما الجدوى فلماذا أعذب نفسي بالسؤال عنها؟ وما جدوى أي شيء في الحياة؟. إن كل ما أعرفه أني موجود، وأني وهبت قدرة على الإحساس والتفكير، فكيف أعطل هذه المواهب وأبطل علمها؟. وكيف يمكن أن أنعم بالوجود وأتمتع بالشعور به وأنا أعطل ما أعطيت؟ ويعرف الجدوى من أعطاني الحياة، فلندع ذلك له فهو أعرف به.

إبراهيم عبد القادر المازني