مجلة الرسالة/العدد 199/من أحاديث الشباب

مجلة الرسالة/العدد 199/من أحاديث الشباب

ملاحظات: بتاريخ: 26 - 04 - 1937


حول الديمقراطية

- لا يا عزيزي؛ أنا لا أتابعك على هذا التفسير. إن رأى الإمام محمد عبده جلي صريح. وكلمة (ينهض) في قوله المأثور: (لا ينهض الشرق إلا بمستبد عادل) أساس فكرته وعمود رأيه؛ فإن النهوض لا يكون إلا من القعود؛ والأمة القاعدة أو الراقدة لا يبعثها إلا القرع الشديد والهتاف القوي؛ ولا يمكن أن يكون هذا القارع الهاتف رأيها العام لأنه مفقود، ولا ضميرها الاجتماعي لأنه ميت؛ إنما يكون رسالة من الله على لسان نبي، أو هداية من الطبيعة على يد مصلح؛ وتنفيذ الرسالة الإلهية، أو الدعوى الإصلاحية، يرجع إلى خليفة يحكم بأمر الله، أو طاغية يحكم برأي نفسه. فإذا كانت الأمة قد نهضت بالفعل، كان الاستبداد بأمورها كفاً لنزعاتها عن الطموح، وحبساً لملكاتها عن العمل؛ لأن النهضة معناها غافل أحس وجوده، وخامل فهم نفسه، وجاهل عرف حقه، وعاطل أبصر واجبه، وضال وجد سبيله. والحياة التي تسري في أفراد الشعب الناهض، هي بعينها الحياة التي تجري في أعواد الربيع المنبعث: تتحرك في الأمة على صوت النذير في الغفلة، كما تتحرك في الطبيعة على هزيم الرعد في الشتاء. ومتى نفخ الله من روحه في خمود الحي، سيره على سنة الوجود وبصره بغاية الحياة؛ وهنا يكون المستبد مهما عدل سحاباً يحجب النور الذي أنبثق، وسموماً يصوح الزهر الذي تفتح

فقال صاحبي الشاب وقد ألقى باله لما قلت ففترت حماسته بعض الفتور:

- ولكن المستبد برأيه أو الحاكم بأمره يختصر الآراء في رأيه، ويجمع الأهواء على هواه. فنأمن التشرد الذي يضل، والتردد الذي يعوق، والتواكل الذي يضعف، والتساهل الذي يحابى. فقلت له:

- ذلك يصح والشعب لا يزال قطيعاً من الحيوان الأبله. لابد له حينئذ من الراعي وعصاه. أما إذا أصبح هذا القطيع أمة لكل فرد من أفرادها كرامة وإرادة ورأي ومصلحة، فبأي منطق تلغي هذه العقول الملايين التي جعلت لنفكر، وتنسخ هذه النفوس الملايين التي خلقت لتريد، لتجعل مكانها نفساً واحدة تغصب قوة الشعب لتقوده، وتسرق ثروته لتسوده. ثم يسرف عليها سلطانها فتتخذ الناس عبيداً والبلاد ضيعة؟ أنا أفهم أن المرء يقهر فيخضع، ويؤسر فيسترق، لأن الأمر في ذلك لا يخرج عن قانون الطبيعة من تغلب الأقوى وسيادة الأصلح؛ ولكني لا أستطيع أن أفهم كيف يستأسر شعب بأسره لواحد منه، فيلقى بزمامه إليه، ويعول في جميع أموره عليه، والشعب مهما صغر لا يقل عن شعب، والفرد مهما كبر لا يزيد على فرد. والقوة والثروة والسلطان هي في ذلك الجمع الذي فيه الجندي والفلاح والعامل، لا في ذلك المفرد الذي فيه السرف والترف والبغي؟

لقد مات ذلك الإنسان المغفل الذي كان يجعل إلهه حيواناً يربيه ثم يمجده، أو جماداً يصنعه ثم يعبده

إن الديمقراطية يا صديقي أخلق النظم بكرامة الإنسان وسلامة العالم. هبط وحيها على الإنسان المفكر الحر في أثينا، ثم أصابها ما أصاب رسالات الخير في الأرض من شيوع الجهالة، وبلادة الحس، وأثرة الهوى، وطغيان الحكم، فصارت عروساً من عرائس الخيال كالحق والعدل والحرية، تتمثل في الأحلام، وتتراءى في المنى، وتقتل في سبيلها الأنفس الكريمة، حتى ظفر بها الأوروبي الحديث بطول جهاده وكثرة ضحاياه ووفرة علمه وقوة شعوره، فأصبح كل فرد بمقتضاها صاحب حق في الوطن، وصاحب رأي في التشريع، وصاحب صوت في الحكم؛ وصار العامل الفقير والصانع الأجير والفلاح المتواضع قادرين على أن يلغوا الوظيفة التي لا تفيد، ويسقطوا الحكومة التي لا تعدل.

الديمقراطية هي المسواة في الحق والواجب، والمشاركة في الغنم والغرم، والميدان الحر للكفايات الممتازة لا يعوقها عن بلوغ الأمد فيه عائق من نسب أو لقب أو ثروة. فكيف يجري في ذهنك هذا الخاطر وأنت من أصفى الشباب حساً وأنبلهم نفساً وأكثرهم ثقافة؟

لم يجد الشاب في نفسه ما يقوله؛ لأن الواقع في ذهنه هو اضطراب الحيرة لا اختمار الفكرة. فعبر عن كل ما بقي في خاطره بهذا السؤال:

- وماذا تقول في موسوليني وهتلر؟

- أقول أنهما مظهر حاد من مظاهر الديمقراطية. كلا الرجلين يعمل بالشعب وللشعب؛ وكلاهما يمثل قوة الأمة وينفذ إرادة الأمة؛ وكلاهما يعتقد أن اليد التي استطاعت أن ترفع تستطيع أن تضع.

ولباب الأمر أن تعترف للأمة بالسلطان ثم تظهره بعد ذلك في أي رجل شئت، وتحت أي عنوان شئت.

أبتسم صديقي الشاب ابتسامة المقتنع، وحيا تحية المسلّم، ثم قال وهو يضع يده في يدي: إن جهودنا معشر الشباب كانت مسددة إلى غرض واحد هو استقلال الوطن. فلما أسفر الجهاد عن وجوه الفوز اضطربت الجهود وتشعبت الآراء واحتجنا في هذا العهد الجديد، إلى توجيه جديد. فقلت له: ذلك ما ستحاول (الرسالة) علاجه ابتداء من العدد القادم.

أحمد حسن الزيات