مجلة الرسالة/العدد 200/أمراء للبيع. . .

مجلة الرسالة/العدد 200/أمراء للبيع. . .

ملاحظات: بتاريخ: 03 - 05 - 1937


للأستاذ مصطفى صادق الرافعي

قال الشيخ تاج الدين محمد بن علي الملقب طوير الليل أحد أئمة الفقهاء بالمدرسة الظاهرية بالقاهرة:

كان شيخنا الإمام العظيم شيخ الإسلام تقي الدين بن مجد الدين بن دقيق العيد لا يخاطب السلطان إلا بقوله: (يا إنسان)، فما يخشاه ولا يتعبد له ولا ينحله ألقاب الجبروت والعظمة ولا يزينه بالنفاق ولا يداجيه كما يصنع غيره من العلماء. وكان هذا عجيباً؛ غير إن تمام العجب إن الشيخ لم يكن يخاطب أحداً قط من عامة الناس إلا بهذا اللفظ عينه (يا إنسان)، فما يعلو بالسلطان والأمراء ولا ينزل بالضعفاء والمساكين، ولا يرى أحسن ما في هؤلاء وهؤلاء إلا الحقيقة الإنسانية.

ثم كان لا يعظم في الخطاب إلا أئمة الفقهاء، فإذا خاطب منهم أحداً قال له (يا فقيه). على إنه لم يكن يسمح بهذا إلا لمثل شيخ الإسلام نجم الدين بن الرقعة. ثم يخص علاء الدين بن الباجي وحده بقوله (يا إمام)؛ إذ كان آية من آيات الله في صناعة الحجة لا يكاد يقطعه أحد في المناظرة والمباحثة؛ فهو كالبرهان إجلاله إجلال الحق لأن فيه المعنى وتثبيت المعنى.

وقلت له يوماً: يا سيدي أراك تخاطب السلطان بخطاب العامة، فإن علوت قلت (يا إنسان) وإن نزلت قلت يا إنسان؛ أفلا يسخطه هذا منك وقد تذوق حلاوة ألفاظ الطاعة والخضوع، وخصه النفاق بكلمات هي ظل الكلمات التي يوصف الله بها، ثم جعله الملك إنساناً بذاته في وجود ذاته حتى أصبح من غيره كالجبل والحصاة، يستويان في العنصر ويتباينان في القدر، وأقله مهما قل هو أكثرها مهما عظمت، ووجوده شيء ووجودها شيء آخر؟

فتبسم الشيخ وقال: يا ولدي إيش هذا؟ إننا نفوس لا ألفاظ، والكلمة من قائلها هي بمعناها في نفسه لا بمعناها في نفسها؛ فما يحسن بحامل الشريعة أن ينطق بكلام يرده الشرع عليه؛ ولو نافق الدين لبطل أن يكون ديناً؛ ولو نافق العالم الديني لكان كل منافق أشرف منه؛ فلطخة في الثوب الأبيض ليست كلطخة في الثوب الأسود. والمنافق رجل مغطى في حياته ولكن عالم الدين رجل مكشوف في حياته لا مغطى؛ فهو للهداية لا للتلبيس، وفيه معاني النور لا معاني الظلمة؛ وذاك يتصل بالدين من ناحية العمل فإذا نافق فقد كذب؛ و يتصل بالدين من ناحية العمل وناحية التبيين فإذا نافق فقد كذب وغش وخان.

وما معنى العلماء بالشرع إلا إنهم امتداد لعمل النبوة في الناس دهراً بعد دهر، ينطقون بكلمتها ويقومون بحجتها، ويأخذون من أخلاقها كما تأخذ المرآة النور، تحويه في نفسها وتلقيه على غيرها فهي أداة لإظهاره وإظهار جماله معاً.

أتدري يا ولدي ما الفرق بين علماء الحق وعلماء السوء وكلهم آخذ من نور واحد لا يختلف؟ إن أولئك في أخلاقهم كاللوح من البلور يظهر النور نفسه فيه ويظهر حقيقته البلورية، وهؤلاء بأخلاقهم كاللوح من الخشب يظهر النور حقيقته الخشبية لا غير

وعالم السوء يفكر في كتب الشريعة وحدها، فيسهل عليه أن يتأول ويحتال ويغير ويبدل ويظهر ويخفي، ولكن العالم الحق يفكر مع كتب الشريعة في صاحب الشريعة فهو معه في كل حالة يسأله: - ماذا تفعل وماذا تقول؟

والرجل الديني لا تتحول أخلاقه ولا تتفاوت ولا يجيء كل يوم من حوادث اليوم، فهو بأخلاقه كلها لا يكون مرة ببعضها ومرة ببعضها، ولن تراه مع ذوي السلطان وأهل الحكم والنعمة كعالم السوء هذا الذي لو نطقت أفعاله لقالت لله بلسانه: هم يعطونني الدراهم والدنانير فأين دراهمك أنت ودنانيرك؟

إن الدينار يا ولدي إذا كان صحيحاً في أحد وجهيه دون الآخر أو في بعضه دون بعضه فهو زائف كله. وأهل الحكم والجاه حين يتعاملون مع أمثال هؤلاء يتعاملون مع قوة الهضم فيهم. . . فينزلونهم بذلك منزلة البهائم تقدم أعمالها لتأخذ لبطونها. والبطن الآكل في العالم السوء يأكل دين العالم فيما يأكله. . .

فإذا رأيت لعلماء السوء وقاراً فهو البلادة، أو رقة فسمها الضعف، أو محاسنة فقل إنها النفاق، أو سكوتاً عن الظلم فتلك رشوة يأكلون بها

قال الإمام وما رأيت مثل شيخي سلطان العلماء عز الدين ابن عبد السلام. فلقد كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شيئاً تصنعه طبيعته كما يصنع جسمه الحياة، فلا يبالي هلك فيه أو عاش إذ هو في الدم كالقلب لا تناله يد صاحبه ولا يد غيره. ولم يتعلق بمال ولا جاه ولا ترف ولا نعيم، فكان تجرده من أوهام القوة قوة لا تغلب. وانتزع خوف الدنيا من قلبه فغمرته الروح السماوية التي تخيف كل شيء ولا تخاف؛ وكان بهذه الروح كأنه تحويل وتبديل في طباع الناس حتى قال الملك الظاهر بيبرس وقد رأى كثرة الخلق في جنازته حين مرت تحت القلعة: الآن استقر أمري في الملك، فلو إن هذا الشيخ دعا الناس إلى الخروج علي لأنتزع مني المملكة

وكان سلطانه في دمشق الصالح إسماعيل، فاستنجد بالإفرنج على الملك نجم الدين أيوب سلطان مصر؛ فغضب الشيخ وأسقط اسم الصالح من الخطبة وخرج مهاجراً، فأتبعه الصالح بعض خواصه يتلطف بها ويقول له: ما بينك وبين أن تعود إلى مناصبك وما كنت عليه وأكثر مما كنت عليه إلا إن تتخشع للسلطان وتقبل يده. فقال له الشيخ: يا مسكين أنا لا أرضى أن يقبل السلطان يدي. أنتم في واد وأنا واد:

ثم قدم إلى مصر في سنة 639 فأقبل عليه السلطان نجم الدين أيوب وتخفى به وولاه فطابت مصر وقضاءها. وكان أيوب ملكاً شديد البأس لا يجسر أحد أن يخاطبه إلا مجيباً، ولا يتكلم في أحد بحضرته ابتداء؛ وقد جمع من المماليك الترك ما لم يجتمع مثله لغيره من أهل بيته حتى كان أكثر أمراء عسكره منهم وهم معروفون بالخشونة والبأس والفظاظة والاستهانة بكل أمر. فلما كان يوم العيد صعد إليه الشيخ وهو يعرض الجند ويظهر ملكه وسطوته والأمراء يقبلون الأرض بين يديه؛ فناداه الشيخ بأعلى صوته ليسمع هذا الملأ العظيم: يا أيوب! ثم أمره بإبطال منكر انتهى إلى علمه في حانة تباع فيها الخمر. فرسم السلطان لوقته بإبطال الحانة وأعتذر إليه

فحدثني الباجي قال: سألت الشيخ بعد رجوعه من القلعة وقد شاع الخبر فقلت يا سيدي كيف كانت الحال؟

قال يا بني رايته في تلك العظمة فخشيت على نفسه أن يدخلها الغرور فتبطره، فكان ما باديته به

قلت: أما خفته؟

قال: يا بني استحضرت هيبة الله تعالى فكان السلطان أمامي كالقط. ولو إن حاجة من الدنيا كانت في نفسي لرأيته الدنيا كلها؛ بيد إني نظرت بالآخرة فامتدت عيني فيه إلى غير المنظور للناس، فلا عظمة ولا سلطان ولا بقاء ولا دنيا، بل هو لاشيء في صورة شيء

نحن يا ولدي مع هؤلاء كالمعنى الذي يصحح معنى آخر، فإذا أمرناهم فالذي يأمرهم فينا هو الشرع لا الإنسان. وهم قوم يرون لأنفسهم الحق في إسكات الكلمة الصحيحة أو طمسها أو تحريفها؛ فما بد أن يقابلوا من العلماء والصالحين بمن يرون لأنفسهم الحق في إنطاق هذه الكلمة وبيانها وتوضيحها. فإذا كان ذلك فههنا المعنى بازاء المعنى، فلا خوف ولا مبالاة ولا شأن للحياة والموت

وإنما الشر كل الشر أن يتقدم إليهم العالم لحظوظ نفسه ومنافعها فيكون باطلاً مزوراً في صورة الحق وههنا تكون الذات مع الذات فيخشع الضعف أمام القوة، ويذل الفقر بين يدي الغنى، وترجو الحياة لنفسها وتخشى على نفسها فإذا العالم من السلطان كالخشبة البالية النخرة حاولت أن تقارع السيف

كلا يا ولدي! إن السلطان والحكام أدوات يجب تعيين عملها قبل إقامتها. فإذا تفككت واحتاجت إلى مسامير دقت فيها المسامير. وإذا انفتق الثوب فمن أين للإبرة أن تسلك بالخيط الذي فيها إذا هي لم تخزه؟

إن العالم الحق كالمسمار؛ إذا أوجد المسمار لذاته دون عمله كفرت به كل خشبة. . .

قال الإمام تقي الدين: وطغى الأمراء من المماليك وثقلت وطأتهم على الناس؛ وحيثما وجدت القوة المسلطة المستبدة جعلت طغيانها واستبدادها أدباً وشريعة؛ إلا أن تقوم بازائها قوة معنوية أقوى منها. ففكر شيخنا في هؤلاء الأمراء وقال إن خداع القوة الكاذبة لشعور الناس باب من الفساد؛ إذ يحسبون كل حسن منها هو الحسن وأن كان قبيحاً في ذاته ولا أقبح منه؛ ويرون كل قبيح عندها هو القبيح وإن كان حسناً ولا أحسن منه

وقال: ما معنى الإمارة والأمراء؟ وإنما قوة الكل الكبير هي عماد الفرد الكبير، فلكل جزء من هذا الكل حقه وعمله. وكان ينبغي أن تكون هذه الإمارة أعمالاً نافعة قد كبرت وعظمت فاستحقت هذا اللقب بطبيعة فيها كطبيعة أن العشرة أكثر من الواحد، لا أهواء وشهوات ورذائل ومفاسد تتخذ لقبها في الضعفاء بطبيعة كطبيعة أن الوحش مفترس

وفكر إن الشيخ فهداه تفكيره إلى أن هؤلاء الأمراء مماليك، فحكم الرق مستصحب عليهم لبيت مال المسلمين ويجب شرعاً بيعهم كما يباع الرقيق

وبلغهم ذلك فجزعوا له وعظم فيه الخطب عليهم؛ ثم احتدم الأمر وأيقنوا أنهم بازاء الشرع لا بازاء القاضي أبن عبد السلام وأفتى الشيخ أنه لا يصح لهم بيع ولا شراء ولا زواج ولا طلاق ولا معاملة، وأنه لا يصحح لهم شيئاً من هذا حتى يباعوا ويحصل عتقهم بطريق شرعي

ثم جعلوا يتسببون إلى رضاه ويتحملون عليه بالشفاعات وهو مصر لا يعبأ بجلالة إخطارهم ولا يخشى اتسامه بعداوتهم، فرفعوا الأمر إلى السلطان فأرسل إليه فلم يتحول عن رأيه وحكمه

واستشنع السلطان فعله وحنق عليه وأنكر منه دخوله فيما لا يعنيه وقبح عمله وسياسته وما تطاول إليه وهو رجل ليس له إلا نفسه وما تكاد تصل يده إلى ما يقيمه، وهم وافرون وفي أيديهم القوة ولهم الأمر والنهي

وانتهى ذلك إلى الشيخ الإمام فغضب ولم يبال بالسلطان ولا كبر عليه إعراضه، وأزمع الهجرة من مصر فاكترى حميراً أركب أهله وولده عليها ومشى هو خلفهم يريد الخروج إلى الشام. فلم يبعد إلا قليلاً نحو نصف بريد حتى طار الخبر في القاهرة ففزع الناس وتبعوه لا يتخلف منهم رجل ولا امرأة ولا صبي، وسار فيهم العلماء والصلحاء والتجار والمحترفون كأن خروجه خروج نبي من بين المؤمنين به. واستعلنت قوة الشرع في مظهرها الحاكم الآمر من هذه الجماهير، فقيل للسلطان: إن ذهب هذا الرجل ذهب ملكك

فأرتاع السلطان فركب بنفسه ولحق بالشيخ يترضاه ويستدفع به غضب الأمة، وأطلق له أن يأمر بما شاء وقد أيقن أنه ليس رجل الدينار والدرهم والعيش والجاه، ولبس طيلسان العلماء كما يلصق الريش على حجر في صورة الطائر

ورجع الشيخ وأمر أن يعقد المجلس ويجمع الأمراء وينادي عليهم للمساومة في بيعهم وضرب لذلك أجلاً بعد أن يكون الأمر قد تعالمه كل القاهرة ليتهيأ من يتهيأ للشراء والسوم في هذا الرقيق الغالي

وكان من الأمراء المماليك نائب السلطنة فبعث إلى الشيخ يلاطفه ويسترضيه فلم يعبأ الشيخ به. فهاج هائجه وقال: كيف يبيعنا هذا الشيخ وينادي علينا وينزلنا منزلة العبيد ويفسد محلنا من الناس ويبتذل أقدارنا ونحن ملوك الأرض؟ وما الذي يفقد هذا الشيخ من الدنيا فيدرك ما نحن فيه؟ إنه يفقد ما لا يملك ويفقد غير الموجود، فلا جرم لا يبالي ولا يرجع عن رأيه مادام هذا الرأي لا يمر في منافعه ولا في شهواته ولا في أطماعه كالذين نراهم من علماء الدنيا. أما والله لأضربنه بسيفي هذا فما يموت رأيه وهو حي.

ثم ركب النائب في عسكره وجاء إلى دار الشيخ واستل سيفه وطرق الباب

فخرج ابنه عبد اللطيف ورأى ما رأى فأنقلب إلى أبيه وقال له: أنج بنفسك، إنه الموت، وإنه السيف، وإنه وإنه

فما أكترث الشيخ لذلك ولا جزع ولا تغير بل قال له: يا ولدي! أبوك أقل من أن يقتل قي سبيل الله

وخرج لا يعرف الحياة ولا الموت فليس فيه الإنساني بل الإلهي؛ ونظر إلى نائب السلطنة وفي يده السيف؛ فانطلقت أشعة عينيه في أعصاب هذه اليد فيبست ووقع السيف منها

وتناوله بروحه القوية فاضطرب الرجل وتزلزل وكأنما تكسر من أعصابه فهو يرعد ولا يستقر ولا يهدأ وأخذ النائب يبكي ويسأل الشيخ أن يدعو له؛ ثم قال: يا سيدي ما تصنع بنا؟

قال الشيخ: أنادي عليكم وأبيعكم

- وفيم تصرف ثمننا؟

- في مصالح المسلمين

- ومن يقبضه؟

- أنا

وكان الشرع هو الذي يقول (أنا)، فتم للشيخ ما أراد ونادى على الأمراء واحداً واحدا واشتط في ثمنهم لا يبع الواحد منهم حتى يبلغ الثمن آخر ما يبلغ. وكان كل أمير قد أعد من شيعته جماعة يستامونه ليشتروه. . .

ودمغ الظلم والنفاق والطغيان والتكبر والاستطالة على الناس بهذه الكلمة التي أعلنها الشرع:

أمراء للبيع! أمراء للبيع. . .

(طنطا)

مصطفى صادق الرافعي